[ ص: 576 ] [ ص: 577 ] فصل : في أنه صلى الله عليه وسلم وأن من جحد نبوته فهو لنبوة غيره من الأنبياء أشد جحدا ، وهذا يتبين من وجوه : لا يمكن الإيمان بنبي أصلا مع جحود نبوة رسول الله
أحدها : أن الأنبياء المتقدمين بشروا بنبوته ، وأمروا أممهم بالإيمان به ، كما تقدم ، ومن جحد نبوته فقد كذب الأنبياء قبله فيما أخبروا به ، وخالفهم فيما أوصوا به من الإيمان به ، فالتصديق به لازم من لوازم التصديق بهم ، وإذا انتفى اللازم انتفى ملزومه قطعا ، وبيان الملازمة ما تقدم من الوجوه الكثيرة التي تفيد بمجموعها القطع على أنه صلى الله عليه وسلم قد ذكر في الكتب الإلهية على ألسن الأنبياء ، وإذا ثبتت الملازمة فانتفاء اللازم موجب لانتفاء ملزومه .
( الوجه الثاني ) : أن دعوة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه هي دعوة جميع المرسلين قبله من أولهم إلى آخرهم .
فالمكذب بدعوته مكذب بدعوة إخوانه كلهم ، فإن جميع الرسل جاءوا بما جاء به ، فإذا كذبه المكذب فقد زعم أن ما جاء به باطلا ، وفي ذلك تكذيب كل رسول أرسله الله ، وكل كتاب أنزله ، ولا يمكن أن يعتقد أن ما جاء به صدق ، وأنه كاذب مفتر على الله ، وهذا في غاية الوضوح ، وهذا بمنزلة شهود شهدوا بالحق فصدقهم [ ص: 578 ] الخصم ، وقال : هؤلاء كلهم شهود عدول صادقون ، ثم شهد آخر على شهادتهم سواء ، فقال الخصم : هذه الشهادة باطلة وكذب لا أصل لها ، فذلك تكذيب بشهادة جميع الشهود قطعا ، ولا ينجيه من تكذيبهم اعترافه بصحة شهادتهم ، وأنها شهادة حق ، وأن الشاهد بها كاذب فيما شهد به .
وكما أنه لو لم يظهر محمد صلى الله عليه وسلم لبطلت نبوات الأنبياء قبله ، فكذلك إن لم يصدق لم يكن تصديق نبي من الأنبياء قبله .
( الوجه الثالث ) : أن الآيات والبراهين التي دلت على صحة نبوته وصدقه أضعاف أضعاف آيات من قبله من الرسل ، فليس لنبي من الأنبياء آية توجب الإيمان به إلا ولمحمد صلى الله عليه وسلم مثلها ، أو ما هو في الدلالة مثلها ، وإن لم يكن من جنسها .
فآيات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم وأكبر ، وأبهر وأدل ، والعلم بنقلها قطعي لقرب العهد وكثرة النقلة ، واختلاف أمصارهم وأعصارهم ، واستحالة تواطئهم على الكذب ، فالعلم بآيات نبوته كالعلم بنفس وجوده ، وظهوره وبلده ، بحيث لا تمكن المكابرة في ذلك ، والمكابر فيه في غاية الوقاحة والبهت ، كالمكابرة في وجود ما شاهد الناس ، ولم يشاهده هو من البلاد والأقاليم والجبال والأنهار .
فإن جاز القدح في ذلك كله ، ففي وجود موسى وعيسى وآيات نبوتهما أجوز وأجوز ، وإن امتنع القدح فيهما وفي آيات نبوتهما ، فامتناعه في محمد صلى الله عليه وسلم وآيات نبوته أشد . ولذلك لما علم بعض علماء أهل الكتاب أن الإيمان بموسى لا يتم مع التكذيب بمحمد أبدا ، كفر بالجميع وقال : ما أنزل الله على بشر من شيء كما قال [ ص: 579 ] تعالى : وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون .
قال : سعيد بن جبير جاء رجل من اليهود ، ويقال له : مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين ؟ وكان حبرا سمينا فغضب عدو الله وقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء ، فقال له أصحابه الذين معه : ويحك ولا موسى ؟ فقال : والله ما أنزل الله على بشر من شيء ، فأنزل الله تعالى : وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الآيات ، وهذا قول عكرمة .
قال : محمد بن كعب جاء ناس من يهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محتب فقالوا : [ ص: 580 ] يا أبا القاسم ، ألا تأتينا بكتاب من السماء ، كما جاء به موسى ألواحا يحملها من عند الله عز وجل ؟ فأنزل الله عز وجل : أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة يسألك الآية .
فجثى رجل من اليهود على ركبتيه فقال : ما أنزل الله على بشر من شيء وفي لفظ : ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئا ، ما أنزل الله على بشر من شيء ، فحل رسول الله صلى الله عليه وسلم حبوته وجعل يقول : ولا على أحد ؟ .
وذهب جماعة منهم مجاهد إلى أن الآية نزلت في مشركي قريش ، فهم الذين جحدوا أصل الرسالة وكذبوا بالرسل وأما أهل الكتاب فلم يجحدوا نبوة موسى وعيسى ، وهذا اختيار ، قال : وهو أولى الأقاويل بالصواب ، لأن ذلك في سياق الخبر عنهم ، فهو أشبه من أن يكون خبرا عن ابن جرير اليهود ، ولم يجر لهم ذكر يكون هذا به متصلا مع ما في الخبر عمن أخبر الله عنه من هذه الآية من إنكاره أن يكون الله أنزل على بشر شيئا من الكتب ، وليس ذلك ما يدين به اليهود ، بل المعروف من دين اليهود الإقرار بصحف إبراهيم وموسى وزبور داود ، والخبر من أول السورة إلى هذا الموضع خبر عن المشركين من عبدة الأوثان ، وقوله تعالى : وما قدروا الله حق قدره موصول به غير مفصول عنه .
قلت : ويقوي قوله إن السورة مكية ، فهي خبر عن زنادقة العرب المنكرين لأصل النبوة ، ولكن بقي أن يقال : فكيف يحسن الرد عليهم بما لا يقرون به من إنزال الكتاب الذي جاء به موسى ؟ وكيف يقال لهم ( يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا ) ولا سيما على قراءة من قرأ بتاء الخطاب ؟
[ ص: 581 ] وهل ذلك صالح لغير اليهود ؟ فإنهم كانوا يخفون من الكتاب ما لا يوافق أهواءهم وأغراضهم ، ويبدون منه ما سواه ، كما فعل ابن صوريا عند إحضار التوراة في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستشهاد بنص التوراة في حكم الرجم ، ووضع يده عليها ، وقرأ ما قبلها وما بعدها ، وإظهار ابن سلام زيفه .
ولما كانوا كذلك احتج عليهم بما يقرون به من كتاب موسى ، ثم وبخهم بأنهم خانوا الله ورسوله ، فأخفوا بعضه وأظهروا بعضه .
وهذا استطراد من ذكر جحدهم النبوة بالكلية وذلك إخفاء لها وكتمان إلى جحد ما أقروا به كتابهم بإخفائه وكتمانه ، فتلك سجية لهم معروفة لا تنكر ، إذ من أخفى بعض كتابه الذي يقر بأنه من عند الله ، كيف لا يجحد أصل النبوة ؟ ثم احتج عليهم بأنهم قد علموا بالوحي ما لم يكونوا يعلمونه هم ولا آباؤهم ، ولولا الوحي الذي أنزله الله على أنبيائه ورسله لم يصلوا إليه ، ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عن هذا السؤال ، وهو قوله : من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى
فقال : قل الله أي الله الذي أنزله ، أي إن كفروا به وجحدوه فصدق به أنت وأقر به و ذرهم في خوضهم يلعبون .
وجواب هذا السؤال أن يقال - والله أعلم - : إن الله سبحانه وتعالى احتج عليهم بما يقر به الكتابيون وهم أولو العلم دون الأمم التي لا كتاب لها ، أي إن جحدتم أصل النبوة ، وأن يكون الله أنزل على بشر شيئا ، فهذا كتاب موسى يقر به أهل الكتاب ، وهم أعلم منكم فاسألوهم عنه .
[ ص: 582 ] ونظائر هذا في القرآن كثيرة ، ليستشهد سبحانه بأهل الكتاب على منكري النبوات والتوحيد ، والمعنى أنكم إن أنكرتم أن يكون الله أنزل على بشر شيئا فمن أنزل كتاب موسى ؟ فإن لم تعلموا ذلك فاسألوا أهل الكتاب .
وأما قوله تعالى : ( يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا ) فمن قرأها بالياء فهو إخبار عن اليهود بلفظ الغيبة ، ومن قرأها بالتاء للخطاب فهو خطاب لهذا الجنس الذين فعلوا ذلك ، أن تجعلونه يا من أنزل عليه كذلك ، وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم أن يخبر أهل الكتاب بما اعتمدوه في كتابهم ، وأنهم جعلوه قراطيس ، وأبدوا بعضه وأخفوا كثيرا منه ، وهذا لا يعلم من غير جهتهم إلا بوحي من الله تعالى .
ولا يلزم أن يكون قوله : ( يجعلونه قراطيس ) خطابا لمن حكى عنهم أنهم قالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء بل هذا استطراد من الشيء إلى نظيره وشبهه ولازمه .
وله نظائر في القرآن كثيرة كقوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة إلى آخر الآية .
فاستطرد من الشخص المخلوق من الطين وهو آدم عليه السلام إلى النوع المخلوق من النطفة وهم أولاده ، وأوقع الضمير على الجميع بلفظ واحد ، ومثله قوله تعالى : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون إلى آخر [ ص: 583 ] الآيات ، ويشبه هذا قوله : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون والذي خلق الأزواج كلها إلى آخر الآيات .
وعلى التقدير ، فهؤلاء لم يتم لهم إنكار نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ومكابرتهم إلا بهذا الجحد والتكذيب العام ، ورأوا أنهم إن أقروا ببعض النبوات وجحدوا نبوته ظهر تناقضهم وتفريقهم بين المتماثلين ، وأنهم لا يمكنهم الإيمان بنبي وجحد نبوة من نبوته أظهر وآياتها أكبر ، وأعظم ممن أقروا به .
وأخبر سبحانه أن من جحد أن يكون قد أرسل رسله ، وأنزل كتبه لم يقدره حق قدره ، وأنه نسبه إلى ما لا يليق به ، بل يتعالى ويتنزه عنه ، فإن في ذلك إنكارا لربوبيته وإلهيته وملكه وحكمه ورحمته ، والظن السيء به أنه خلق خلقه عبثا باطلا ، وأنه خلاهم سدى مهملا ، وهذا ينافي كماله المقدس ، وهو متعال عن كل ما ينافي كماله ، فمن أنكر كلامه وتكليمه وإرساله الرسل إلى خلقه فما قدره حق قدره ، ولا عرفه حق معرفته ، ولا عظمه حق عظمته ، كما أن من عبد معه إلها غيره لم يقدره حق قدره ، معطل جاحد لصفات كماله ، ونعوت جلاله ، وإرسال رسله ، وإنزاله كتبه ، ولا عظمه حق عظمته .