فأول مراتبها : علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته .
وثانيها : تكلمه بذلك ، وإن لم يعلم به غيره ، بل يتكلم بها مع نفسه ويذكرها وينطق بها أو يكتبها .
وثالثها : أن يعلم غيره بما يشهد به ويخبره به ويبينه له .
ورابعها : أن يلزمه بمضمونها ويأمره به .
فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربع : علمه سبحانه بذلك ، وتكلمه به ، وإعلامه ، وإخباره لخلقه به ، وأمرهم وإلزامهم به .
فأما مرتبة العلم فإن الشهادة تضمنتها ضرورة ، وإلا كان الشاهد شاهدا بما لا علم له به . قال تعالى : إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ( الزخرف : 86 ) . [ ص: 45 ] وقال صلى الله عليه وسلم : على مثلها فاشهد ، وأشار إلى الشمس .
وأما مرتبة التكلم والخبر ، فقال تعالى : وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون ( الزخرف : 19 ) . فجعل ذلك منهم شهادة ، وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدوها عند غيرهم .
وأما مرتبة الإعلام والإخبار فنوعان : إعلام بالقول ، وإعلام بالفعل . وهذا شأن كل معلم لغيره بأمر : تارة يعلمه به بقوله ، وتارة بفعله . ولهذا كان من جعل داره مسجدا وفتح بابها ، وأفرزها بطريقها وأذن للناس بالدخول والصلاة فيها : معلما أنها وقف ، وإن لم يتلفظ به . وكذلك من وجد متقربا إلى غيره بأنواع المسار ، يكون معلما له ولغيره أنه يحبه ، وإن لم يتلفظ بقوله ، وكذلك بالعكس .
وكذلك يكون بقوله تارة ، وبفعله أخرى . فالقول ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه . وأما بيانه وإعلامه بفعله ، فكما قال شهادة الرب عز وجل وبيانه وإعلامه ، ابن كيسان : شهد الله بتدبيره العجيب [ ص: 46 ] وأموره المحكمة عند خلقه : أنه لا إله إلا هو . وقال آخر :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
ومما يدل على أن الشهادة تكون بالفعل ، قوله تعالى : ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ( التوبة : 17 ) . فهذه شهادة منهم على أنفسهم بما يفعلونه .والمقصود أنه سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه ، ودلالتها إنما هي بخلقه وجعله .
وأما مرتبة الأمر بذلك والإلزام به ، وأن مجرد الشهادة لا يستلزمه ، لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه وتتضمنه - فإنه سبحانه شهد به شهادة من حكم به ، وقضى وأمر وألزم عباده به ، كما قال تعالى : [ ص: 47 ] وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ( الإسراء : 23 ) . وقال الله تعالى : لا تتخذوا إلهين اثنين ( النحل : 51 ) . وقال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا ( التوبة : 31 ) . وقال تعالى : لا تجعل مع الله إلها آخر ( الإسراء : 39 ) . وقال تعالى : ولا تدع مع الله إلها آخر ( القصص : 88 ) . والقرآن كله شاهد بذلك .
ووجه استلزام شهادته سبحانه لذلك : أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو ، فقد أخبر وبين وأعلم وحكم وقضى أن ما سواه ليس بإله ، وأن إلهية ما سواه باطلة ، فلا يستحق العبادة سواه ، كما لا تصلح الإلهية لغيره ، وذلك يستلزم الأمر باتخاذه وحده إلها ، والنهي عن اتخاذ غيره معه إلها ، وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات ، كما إذا رأيت رجلا يستفتي رجلا أو يستشهده أو يستطبه وهو ليس أهلا لذلك ، ويدع من هو أهل له ، فتقول : هذا ليس بمفت ولا شاهد ولا طبيب ، المفتي فلان ، والشاهد فلان ، والطبيب فلان ، فإن هذا أمر منه ونهي .
وأيضا : فالآية دلت على أنه وحده المستحق للعبادة ، فإذا أخبر أنه هو وحده المستحق للعبادة ، تضمن هذا الإخبار أمر العباد وإلزامهم بأداء ما يستحق الرب تعالى عليهم ، وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم .
وأيضا : فلفظ الحكم والقضاء يستعمل في الجملة الخبرية ، ويقال للجملة الخبرية : قضية ، وحكم ، وقد حكم فيها بكذا . قال تعالى : ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون ( الصافات : 151 - 154 ) . [ ص: 48 ] فجعل هذا الإخبار المجرد منهم حكما وقال تعالى : أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون ( القلم : 35 - 36 ) . لكن هذا حكم لا إلزام معه . والحكم والقضاء بأنه لا إله إلا هو متضمن الإلزام .
ولو كان المراد مجرد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها ، ولم ينتفعوا بها ، ولم تقم عليهم بها الحجة . بل قد تضمنت البيان للعباد ودلالتهم وتعريفهم بما شهد به ، كما أن الشاهد من العباد إذا كانت عنده شهادة ولم يبينها بل كتمها ، لم ينتفع بها أحد ، ولم تقم بها حجة .
وإذا كان لا ينتفع بها إلا ببيانها ، فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلاثة : السمع ، والبصر ، والعقل .
أما السمع : فبسمع آياته المتلوة المبينة لما عرفنا إياه من صفات كماله كلها ، الوحدانية وغيرها غاية البيان ، لا كما يزعمه الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة ومعطلة بعض الصفات من دعوى احتمالات توقع في الحيرة ، تنافي البيان الذي وصف الله به كتابه العزيز ورسوله الكريم ، كما قال تعالى : حم والكتاب المبين ( الزخرف : 1 - 2 ) . الر تلك آيات الكتاب المبين ( يوسف : 1 ) . الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ( الحجر : 1 ) . هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ( آل عمران : 138 ) . فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ( المائدة : 92 ) . وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ( النحل : 44 ) . [ ص: 49 ] وكذلك السنة تأتي مبينة أو مقررة لما دل عليه القرآن ، لم يحوجنا ربنا سبحانه وتعالى إلى رأي فلان ، ولا إلى ذوق فلان ووجده في أصول ديننا .
ولهذا نجد من خالف الكتاب والسنة مختلفين مضطربين . بل قد قال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ( المائدة : 3 ) . فلا يحتاج في تكميله إلى أمر خارج عن الكتاب والسنة .
وإلى هذا المعنى أشار الشيخ رحمه الله فيما يأتي من كلامه بقوله : لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ، ولا متوهمين بأهوائنا ، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم . أبو جعفر الطحاوي
وأما آياته العيانية الخلقية : فالنظر فيها والاستدلال بها يدل على ما تدل عليه آياته القولية السمعية ، والعقل يجمع بين هذه وهذه ، فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل ، فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة .