فقد اختلف أهل العلم : هل يلزم ، وإن لم يصرح ، أو لا يحد حتى يصرح بالقذف تصريحا واضحا لا احتمال فيه ؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أن التعريض لا يوجب الحد ، ولو فهم منه إرادة القذف ، إلا أن يقر أنه أراد به القذف . القذف بالتعريض المفهم للقذف
قال في " المغني " : وهذا القول هو رواية ابن قدامة حنبل عن ، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد الخرقي ، واختيار أبي بكر ، وبه قال عطاء ، ، وعمرو بن دينار وقتادة ، ، والثوري ، والشافعي ، وأصحاب الرأي ، وأبو ثور وابن المنذر ، واحتج أهل هذا القول بكتاب وسنة .
أما الكتاب فقوله تعالى : ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء [ 2 \ 235 ] ، ففرق تعالى بين التصريح للمعتدة والتعريض ، قالوا : ولم يفرق الله بينهما في كتابه ، إلا لأن بينهما فرقا ، ولو كانا سواء لم يفرق بينهما في كتابه .
وأما السنة : فالحديث المتفق عليه الذي قدمناه مرارا في الرجل الذي جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له : إن امرأتي ولدت غلاما أسود وهو تعريض بنفيه ، ولم يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا قذفا ، ولم يدعهما للعان بل قال للرجل " : " ، قالوا : ولأن التعريض محتمل لمعنى آخر غير القذف ، وكل كلام يحتمل معنيين لم يكن قذفا ، هذا هو حاصل حجة من قالوا بأن التعريض بالقذف ، لا يوجب الحد ، وإنما يجب الحد بالتصريح بالقذف . ألك إبل " ؟ قال : نعم ، قال " : فما ألوانها " ؟ [ ص: 436 ] قال : حمر ، قال " : هل فيها من أورق " ؟ قال : إن فيها لورقا ، قال " : ومن أين جاءها ذلك " ؟ قال : لعل عرقا نزعه ، قال " : وهذا الغلام الأسود لعل عرقا نزعه
وذهبت جماعة آخرون من أهل العلم إلى أن التعريض بالقذف يجب به الحد ، وهو مذهب مالك وأصحابه ، وقال في " المغني " : وروى ابن قدامة الأثرم وغيره ، عن أن عليه الحد ، يعني المعرض بالقذف ، قال : وروي ذلك عن الإمام أحمد عمر - رضي الله عنه - وبه قال إسحاق إلى أن قال : وقال معمر : إن عمر كان يجلد الحد في التعريض ، اهـ .
واحتج أهل هذا القول بأدلة منها ما ذكره القرطبي ، قال : والدليل لما قاله مالك : هو أن موضوع ، إنما هو لإزالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف ، وإذا حصلت المعرة بالتعريض ، وجب أن يكون قذفا كالتصريح والمعول على الفهم ، وقد قال تعالى مخبرا عن قوم الحد في القذف شعيب أنهم قالوا له : إنك لأنت الحليم الرشيد [ 11 \ 87 ] ، أي : السفيه الضال ، فعرضوا له بالسب بكلام ظاهره المدح في أحد التأويلات حسب ما تقدم في سورة " هود " ، وقال تعالى في أبي جهل : ذق إنك أنت العزيز الكريم [ 44 \ 49 ] ، وقال تعالى في الذين قذفوا مريم أنهم قالوا : ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا [ 19 \ 28 ] ، فمدحوا أباها ، ونفوا عن أمها البغاء ، أي : الزنى وعرضوا لمريم بذلك ، ولذلك قال تعالى : وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [ 4 \ 156 ] ، وكفرهم معروف والبهتان العظيم هو التعريض لها ، أي : ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا أي : أنت بخلافهما وقد أتيت بهذا الولد ، وقال تعالى : قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين [ 34 \ 24 ] ، فهذا اللفظ قد فهم منه أن المراد به أن الكفار على غير هدى ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الهدى ، ففهم من هذا التعريض ما يفهم من صريحه ، اهـ محل الغرض من كلام القرطبي مع تصرف قليل لإيضاح المراد .
وحاصل كلام القرطبي المذكور : أن من أدلة القائلين بوجوب الحد بالتعريض آيات قرآنية ، وبين وجه دلالتها على ذلك كما رأيته ، وذكر أن من أدلتهم أن المعرة اللاحقة [ ص: 437 ] للمقذوف صريحا تلحقه بالتعريض له بالقذف ، ولذلك يلزم استواؤهما ، وذكر أن من أدلتهم أن المعول على الفهم ، والتعريض يفهم منه القذف فيلزم أن يكون كالصريح .
ومن أدلتهم على أن التعريض يجب به الحد بعض الآثار المروية عن بعض الخلفاء الراشدين ، قال في " المغني " : لأن ابن قدامة عمر - رضي الله عنه - حين شاورهم في الذي قال لصاحبه : ما أنا بزان ، ولا أمي بزانية ، فقالوا : قد مدح أباه وأمه ، فقال عمر : قد عرض بصاحبه وجلده الحد ، وقال معمر : إن عمر كان يجلد الحد في التعريض ، وروى الأثرم : أن عثمان - رضي الله عنه - جلد رجلا قال لآخر : يا ابن شامة الوذر ، يعرض له بزنى أمه ، والوذر : غدر اللحم يعرض له بكمر الرجال ، وانظر أسانيد هذه الآثار .
ومن أدلة أهل هذا القول أن الكناية مع القرينة الصارفة إلى أحد محتملاتها ، كالصريح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى ولذلك وقع الطلاق بالكناية ، فإن لم يكن ذلك في حال الخصومة ، ولا وجدت قرينة تصرف إلى القذف ، فلا شك في أنه لا يكون قذفا ، انتهى من " المغني " .
ثم قال صاحب المغني : وذكر أبو بكر عبد العزيز : أن أبا عبد الله رجع عن القول بوجوب الحد في التعريض ، يعني - رحمه الله - وقال بأبي عبد الله الإمام أحمد القرطبي : وقد حبس عمر - رضي الله عنه - الحطيئة ، لما قال :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
.لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون ومثل هذا كثير ، ومنه قول الحطيئة أو : النجاشي
قبيلة لا يخفرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
فإنه يروى أن عمر لما سمع هذا الهجاء حمله على المدح ، وقال : ليت آل الخطاب كانوا كذلك ، ولما قال الشاعر بعد ذلك :
ولا يردون الماء إلا عشية إذا صدر الوراد عن كل منهل
قال عمر أيضا : ليت آل الخطاب كانوا كذلك ، فظاهر هذا الشعر يشبه المدح ، ولذا ذكروا أن عمر تمنى ما فيه من الهجاء لأهل بيته ; لأنه عنده مدح وصاحبه يريد الذم بلا [ ص: 438 ] نزاع ، ويدل على ذلك أول شعره وآخره ، لأن أول الأبيات قوله :
إذا الله عادى أهل لؤم وذلة فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل
قبيلة لا يخفرون . . . . . . البيت
وفي آخر شعره :
وما سمي العجلان إلا لقوله خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل
وكون مثل هذا من التعريض بالذم لا شك فيه ، وقول الحطيئة :
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
يهجو به الزبرقان بن بدر التميمي ، كما ذكره بعض المؤرخين ، وما ذكره القرطبي - رحمه الله - في الكلام الذي نقلنا عنه من أن البهتان العظيم الذي قالوه على مريم : هو تعريضهم لها بقولهم : ما كان أبوك امرأ سوء الآية [ 19 \ 28 ] ، لا يتعين بانفراده ; لأن الله - جل وعلا - ذكر عنهم أنهم قالوا لها غير ذلك وهو أقرب للتصريح بالفاحشة مما ذكره القرطبي ، وذلك في قوله تعالى : فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا [ 19 \ 27 ] ، فقولهم لها : لقد جئت شيئا فريا في وقت مجيئها بالولد تحمله ظاهر جدا في إرادتهم قذفها ، كما ترى ، والكلام الذي ذكر : أن ابن قدامة عثمان جلد الحد فيه وهو قول الرجل لصاحبه : يا ابن شامة الوذر ، قال فيه الجوهري في صحاحه : الوذرة بالتسكين الغدرة ، وهي القطعة من اللحم إذا كانت مجتمعة ، ومنه قولهم : يا ابن شامة الوذرة ، وهي كلمة قذف ، وكانت العرب تتساب بها ، كما كانت تتساب بقولهم : يا ابن ملقي أرحل الركبان ، أو يا ابن ذات الرايات ونحوها ، والجمع وذر مثل : تمرة وتمر ، اهـ من صحاح الجوهري .
والشامة بتشديد الميم اسم فاعل شمه ، وقال صاحب " اللسان " : وفي حديث عثمان - رضي الله عنه - أنه رفع إليه رجل قال لرجل : يا ابن شامة الوذر ، فحده ، وهو من سباب العرب وذمهم ، وإنما أراد يا ابن شامة المذاكير يعنون الزنا ، كأنها كانت تشم كمرا مختلفة فكنى عنه ، والذكر قطعة من بدن صاحبه ، وقيل : أرادوا بها القلف جمع قلفة الذكر ; لأنها تقطع ، انتهى محل الغرض من " لسان العرب " ، وهذا لا يتضح منه قصد الزنا ولم أر من [ ص: 439 ] أوضح معنى شامة الوذر إيضاحا شافيا ; لأن شم كمر الرجال ليس من الأمر المعهود الواضح .
والذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أن قائل الكلام المذكور يشبه من عرض لها بالزنا بسفاد الحيوانات ; لأن الذكر من غالب الحيوانات إذا أراد سفاد الأنثى شم فرجها ، واستنشق ريحه استنشاقا شديدا ، ثم بعد ذلك ينزو عليها فيسافدها فكأنهم يزعمون أن المرأة تشم ذكر الرجل كما يشم الفحل من الحيوانات فرج أنثاه ، وشمها لمذاكير الرجال كأنه مقدمة للمواقعة ، فكنوا عن المواقعة بشم المذاكير ، وعبروا عن ذكر الرجل بالوذرة ; لأنه قطعة من بدن صاحبه كقطعة اللحم ، ويحتمل أنهم أرادوا كثرة ملابستها لذلك الأمر ، حتى صارت كأنها تشم ريح ذلك الموضع ، والعلم عند الله تعالى .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد علمت مما ذكرنا أقوال أهل العلم ، وحججهم في التعريض بالقذف ، هل يلزم به الحد أو لا يلزم به .
وأظهر القولين عندي : أن التعريض إذا كان يفهم منه معنى القذف فهما واضحا من القرائن أن صاحبه يحد ; لأن الجناية على عرض المسلم تتحقق بكل ما يفهم منه ذلك فهما واضحا ، ولئلا يتذرع بعض الناس لقذف بعضهم بألفاظ التعريض التي يفهم منها القذف بالزنا ، والظاهر أنه على قول من قال من أهل العلم : إن التعريض بالقذف لا يوجب الحد أنه لا بد من تعزير المعرض بالقذف للأذى الذي صدر منه لصاحبه بالتعريض ، والعلم عند الله تعالى .