وأما السبب الثاني وهو حبه من أحسن إليه فواساه بماله ولاطفه بكلامه وأمده بمعونته وانتدب لنصرته .
وقمع أعداءه وقام بدفع شر الأشرار عنه وانتهض وسيلة إلى جميع حظوظه وأغراضه في نفسه وأولاده وأقاربه فإنه محبوب لا محالة عنده ، وهذا بعينه يقتضي أن لا يحب إلا الله تعالى فإنه لو عرفه حق المعرفة لعلم أن المحسن إليه هو الله تعالى فقط ، فأما أنواع إحسانه إلى كل عبيده فلست أعدها إذ ليس يحيط بها حصر حاصر ، كما قال تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وقد أشرنا إلى طرف منه في كتاب الشكر ولكنا نقتصر الآن على بيان أن الإحسان من الناس غير متصور إلا بالمجاز ، وإنما ولنفرض ذلك فيمن أنعم عليك بجميع خزائنه ومكنك منها لتتصرف فيها كيف تشاء ، فإنك تظن أن هذا الإحسان منه وهو غلط ، فإنه إنما تم إحسانه به وبماله وبقدرته على المال وبداعيته الباعثة له على صرف المال إليك ، فمن الذي أنعم بخلقه وخلق ماله وخلق قدرته وخلق إرادته وداعيته ومن الذي حببك إليه وصرف وجهه إليك وألقى في نفسه أن صلاح دينه أو دنياه في الإحسان إليك ، ولولا كل ذلك لما أعطاك حبة من ماله ومهما سلط الله عليه الدواعي وقرر في نفسه أن صلاح دينه أو دنياه في أن يسلم إليك ماله كان مقهورا مضطرا في . التسليم لا يستطيع مخالفته فالمحسن هو الذي اضطره لك وسخره وسلط عليه الدواعي الباعثة المرهقة إلى الفعل ، وأما يده فواسطة يصل بها إحسان الله إليك وصاحب اليد مضطر في ذلك اضطرار مجرى الماء في جريان الماء فيه ، فإن اعتقدته محسنا ، أو شكرته من حيث هو بنفسه محسن لا من حيث هو واسطة كنت جاهلا بحقيقة الأمر ، فإنه لا يتصور الإحسان من الإنسان إلا إلى نفسه ، أما الإحسان إلى غيره فمحال من المخلوقين لأنه لا يبذل ماله إلا لغرض له في البذل إما آجل وهو الثواب ، وإما عاجل وهو المنة والاستسخار أو الثناء والصيت والاشتهار بالسخاء والكرم أو جذب قلوب الخلق إلى الطاعة والمحبة وكما أن الإنسان لا يلقي ماله في البحر ؛ إذ لا غرض له فيه فلا يلقيه في يد إنسان إلا لغرض له فيه ، وذلك الغرض هو مطلوبه ومقصده ، وأما أنت فلست مقصودا ، بل يدك آلة له في القبض حتى يحصل غرضه من الذكر والثناء أو الشكر أو الثواب بسبب قبضك المال فقد استسخرك في القبض للتوصل إلى غرض نفسه ، فهو إذا محسن إلى نفسه ومعتاض عما بذله من ماله عوضا هو أرجح عنده من ماله ولولا رجحان ذلك الحظ عنده لما نزل عن ماله لأجلك أصلا البتة ، فإذا هو غير مستحق للشكر والحب من وجهين : المحسن هو الله تعالى ،
أحدهما : أنه مضطر بتسليط الله الدواعي عليه فلا قدرة له على المخالفة فهو جار مجرى خازن الأمير فإنه لا يرى محسنا بتسليم خلعة الأمير إلى من خلع عليه ؛ لأنه من جهة الأمير مضطر إلى الطاعة والامتثال لما يرسمه ، ولا يقدر . على مخالفته ، ولو خلاه الأمير ونفسه لما سلم ذلك ، فكذلك كل محسن لو خلاه الله ونفسه لم يبذل حبة من ماله حتى سلط الله الدواعي عليه وألقى في نفسه أن حظه دينا ودنيا في بذله ، فبذله لذلك والثاني أنه معتاض عما بذله حظا هو أوفى عنده وأحب مما بذله فكما لا يعد البائع محسنا لأنه بذل بعوض هو أحب عنده مما بذله ، فكذلك الواهب اعتاض الثواب ، أو الحمد والثناء ، أو عوضا آخر ، وليس من شرط العوض أن يكون عينا متمولا ، بل الحظوظ كلها أعواض تستحقر الأموال والأعيان بالإضافة إليها ، فالإحسان في الجود والجود هو بذل المال من غير عوض وحظ يرجع إلى الباذل ، وذلك محال من غير الله سبحانه ، فهو الذي أنعم على العالمين إحسانا إليهم ولأجلهم لا لحظ وغرض يرجع إليه ، فإنه يتعالى عن الأغراض ، فلفظ الجود والإحسان في حق غيره كذب أو مجاز ، ومعناه في حق غيره محال وممتنع امتناع الجمع بين السواد والبياض فهو المنفرد بالجود والإحسان والطول والامتنان ، فإن كان في الطبع حب المحسن ، إذ الإحسان من غيره محال ، فهو المستحق لهذه المحبة وحده، وأما غيره فيستحق المحبة على الإحسان بشرط الجهل بمعنى الإحسان وحقيقته . فينبغي أن لا يحب العارف إلا الله تعالى
[ ص: 561 ]