وأما السبب الثالث وهو حبك المحسن في نفسه وإن لم يصل إليك إحسانه ، وهذا أيضا موجود في الطباع .
فإنه إذا بلغك خبر ملك عابد عادل عالم رفيق بالناس متلطف بهم متواضع لهم ، وهو في قطر من أقطار الأرض بعيد عنك ، وبلغك خبر ملك آخر ظالم متكبر فاسق ، متهتك شرير ، وهو أيضا بعيد عنك ، فإنك تجد في قلبك تفرقة بينهما ؛ إذ تجد في القلب ميلا إلى الأول وهو الحب ونفرة عن الثاني وهو البغض مع أنك آيس من خير الأول وآمن من شر الثاني لانقطاع طمعك عن التوغل إلى بلادهما ، فهذا حب المحسن من حيث إنه محسن فقط لا من حيث إنه محسن إليك ، وهذا أيضا يقتضي بل يقتضي أن لا يحب غيره أصلا إلا من حيث يتعلق منه بسبب ، فإن حب الله تعالى ، أولا بإيجادهم وثانيا بتكميلهم بالأعضاء والأسباب التي هي من ضروراتهم . وثالثا بترفيههم وتنعيمهم بخلق ، الأسباب التي هي في مظان حاجاتهم ، وإن لم تكن في مظان الضرورة . ورابعا بتجميلهم : بالمزايا والزوائد التي هي في مظنة زينتهم وهي خارجة عن ضروراتهم وحاجاتهم . الله هو المحسن إلى الكافة والمتفضل على جميع أصناف الخلائق
ومثال الضروري من الأعضاء الرأس والقلب والكبد ومثال المحتاج إليه العين واليد والرجل ، ومثال الزينة استقواس الحاجبين وحمرة الشفتين وتلون العينين إلى غير ذلك مما لو فات لم تنخرم به حاجة ولا ضرورة ، ومثال الضروري من النعم الخارجة عن بدن الإنسان الماء والغذاء ، ومثال الحاجة الدواء واللحم والفواكه ، ومثال المزايا والزوائد خضرة الأشجار وحسن أشكال الأنوار والأزهار ولذائذ الفواكه والأطعمة التي لا تنخرم بعدمها حاجة ولا ضرورة .
وهذه الأقسام الثلاثة موجودة لكل حيوان ، بل لكل نبات بل لكل ، صنف من أصناف الخلق من ذروة العرش إلى منتهى الفرش فإذا هو المحسن فكيف يكون غيره محسنا وذلك ، المحسن حسنة من حسنات قدرته ، فإنه خالق الحسن وخالق المحسن وخالق الإحسان ، وخالق أسباب الإحسان ، فالحب بهذه العلة لغيره أيضا جهل محض ، ومن عرف ذلك لم يحب بهذه العلة إلا الله تعالى .