بيان أن وحده . المستحق للمحبة هو الله
وأن من أحب غير الله لا من حيث نسبته إلى الله ، فذلك لجهله وقصوره في معرفة الله تعالى وحب الرسول صلى الله عليه وسلم محمود ؛ لأنه عين حب الله تعالى ، وكذلك حب العلماء والأتقياء لأن محبوب المحبوب محبوب ورسول المحبوب محبوب ، ومحب المحبوب محبوب ، وكل ذلك يرجع إلى حب الأصل ، فلا يتجاوزه إلى غيره ، فلا محبوب بالحقيقة عند ذوي البصائر إلا الله . تعالى ولا مستحق للمحبة سواه ، وإيضاحه بأن نرجع إلى الأسباب الخمسة التي ذكرناها ، ونبين أنها مجتمعة في حق الله تعالى بجملتها ، ولا يوجد في غيره إلا آحادها وأنها حقيقة في حق الله تعالى ووجودها في حق غيره وهم وتخيل ، وهو مجاز محض لا حقيقة له ، ومهما ثبت ذلك انكشف لكل ذي بصيرة ضد ما تخيله ضعفاء العقول والقلوب من استحالة حب الله تعالى تحقيقا وبان أن التحقيق يقتضي أن لا نحب أحدا غير الله تعالى .
فأما السبب الأول وهو حب الإنسان نفسه وبقاءه وكماله ودوام وجوده ، وبغضه لهلاكه وعدمه ونقصانه وقواطع كماله ، فهذه جبلة كل حي ولا يتصور أن ينفك عنها ، وهذا يقتضي غاية المحبة لله تعالى ، فإن من عرف نفسه وعرف ربه عرف قطعا أنه لا وجود له من ذاته ، وإنما وجود ذاته ودوام وجوده وكمال وجوده من الله وإلى الله وبالله فهو المخترع الموجد له ، وهو المبقي له ، وهو المكمل لوجوده بخلق صفات الكمال وخلق الأسباب الموصلة إليه ، وخلق الهداية إلى استعمال الأسباب ، وإلا فالعبد من حيث ذاته لا وجود له من ذاته ، بل هو محو محض وعدم صرف لولا فضل الله تعالى عليه بالإيجاد وهو هالك عقيب وجوده لولا فضل الله عليه بالإبقاء ، وهو ناقص بعد الوجود لولا فضل الله عليه بالتكميل لخلقته ، وبالجملة فليس في الوجود شيء له بنفسه قوام إلا القيوم الحي الذي هو قائم بذاته ، وكل ما سواه قائم به ، فإن أحب العارف ذاته ، ووجود ذاته مستفاد من غيره ، فبالضرورة يحب المفيد لوجوده والمديم له إن عرفه خالقا موجدا ومخترعا مبقيا وقيوما بنفسه ومقوما لغيره ، فإن كان لا يحبه فهو لجهله . بنفسه وبربه ، والمحبة ثمرة المعرفة فتنعدم بانعدامها وتضعف بضعفها ، وتقوى بقوتها ولذلك قال رحمه الله تعالى الحسن البصري . من عرف ربه أحبه ، ومن عرف الدنيا زهد فيها
وكيف يتصور أن يحب الإنسان نفسه ولا يحب ربه الذي به قوام نفسه ، ومعلوم أن المبتلى بحر الشمس لما كان يحب الظل فيحب بالضرورة الأشجار التي بها قوام الظل وكل ما في الوجود بالإضافة إلى قدرة الله تعالى فهو كالظل بالإضافة إلى الشجر والنور بالإضافة إلى الشمس ، فإن الكل من آثار قدرته ، ووجود الكل تابع لوجوده ، كما أن وجود النور تابع للشمس ووجود الظل تابع للشجر بل هذا المثال صحيح بالإضافة إلى أوهام العوام ؛ إذ تخيلوا أن النور أثر الشمس وفائض منها ، وموجود بها ، وهو خطأ محض إذ انكشف لأرباب القلوب انكشافا أظهر من مشاهدة الأبصار أن النور حاصل من قدرة الله تعالى اختراعا عند وقوع المقابلة بين الشمس والأجسام الكثيفة ، كما أن نور الشمس وعينها وشكلها وصورتها أيضا حاصل من قدرة الله تعالى ولكن الغرض من الأمثلة التفهيم فلا يطلب فيها الحقائق فإذا إن كان حب الإنسان نفسه ضروريا فحبه لمن به قوامه أولا ودوامه ثانيا في أصله وصفاته وظاهره وباطنه ، وجواهره وأعراضه أيضا ضروري إن عرف ذلك كذلك ، ومن خلا عن الحب هذا فلأنه اشتغل بنفسه وشهواته وذهل عن ربه وخالقه فلم يعرفه حق معرفته وقصر نظره على شهواته ومحسوساته ، وهو عالم الشهادة الذي يشاركه البهائم في التنعم به والاتساع فيه دون عالم الملكوت الذي لا يطأ أرضه إلا من يقرب إلى شبه من الملائكة فينظر فيه بقدر قربه في الصفات من الملائكة ويقصر عنه بقدر انحطاطه إلى حضيض عالم البهائم .