ولو كان عليه دين لإنسان فأحال به عبده أو خادمه الذي هو متكفل برزقه .
لكان اعتقاد مؤدي الدين كون القابض تحت منته سفها وجهلا ، فإن المحسن إليه هو المتكفل برزقه .
أما هو فإنما يقضي الذي لزمه بشراء ما أحبه ، فهو ساع في حق نفسه ، فلم يمن به على غيره .
ومهما عرف المعاني الثلاثة التي ذكرناها في فهم وجوب الزكاة أو أحدها لم ير نفسه محسنا إلا إلى نفسه ؛ إما ببذل ماله إظهارا لحب الله تعالى أو تطهيرا لنفسه عن رذيلة البخل أو شكرا على نعمة المال طلبا للمزيد .
وكيفما كان فلا معاملة بينه وبين الفقير حتى يرى نفسه محسنا إليه ومهما حصل هذا الجهل بأن رأى نفسه محسنا إليه تفرع منه على ظاهره ما ذكر في معنى المن ، وهو التحدث به وإظهاره وطلب المكافأة منه بالشكر والدعاء والخدمة والتوقير والتعظيم والقيام بالحقوق والتقديم في المجالس والمتابعة في الأمور فهذه كلها ثمرات المنة ومعنى المنة في الباطن ما ذكرناه .
وأما الأذى فظاهره التوبيخ والتعيير وتخشين الكلام وتقطيب الوجه وهتك الستر بالإظهار وفنون الاستخفاف وباطنه ، وهو منبعه أمران أحدهما كراهيته : لرفع اليد عن المال وشدة ذلك على نفسه فإن ذلك يضيق الخلق لا محالة .
والثاني : رؤيته أنه خير من الفقير ، وأن الفقير لسبب حاجته أخس منه ، وكلاهما منشؤه الجهل .
أما كراهية تسليم المال فهو حمق لأن من كره بذل درهم في مقابلة ما يساوي ألفا فهو شديد الحمق .
ومعلوم أنه ، وذلك أشرف مما بذله أو يبذله لتطهير نفسه عن رذيلة البخل أو شكرا لطلب المزيد وكيفما فرض فالكراهة لا وجه لها . يبذل المال لطلب رضا الله عز وجل والثواب في الدار الآخرة
وأما الثاني فهو أيضا جهل ؛ لأنه لو عرف فضل الفقر على الغنى وعرف خطر الأغنياء لما استحقر الفقير بل تبرك به وتمنى درجته فصلحاء الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام ولذلك قال صلى الله عليه وسلم هم الأخسرون ورب الكعبة ، فقال من هم ، قال : هم الأكثرون أموالا أبو ذر : الحديث ثم كيف يستحقر الفقير وقد جعله الله تعالى متجرة له إذ يكتسب المال بجهده ويستكثر منه ويجتهد في حفظه بمقدار الحاجة ، وقد ألزم أن يسلم إلى الفقير قدر حاجته ويكف عنه الفاضل الذي يضره لو سلم إليه ، فالغني مستخدم للسعي في رزق الفقير ويتميز عليه بتقليد المظالم والتزام المشاق وحراسة الفضلات إلى أن يموت فيأكله أعداؤه فإذا مهما انتقلت الكراهية وتبدلت بالسرور والفرح بتوفيق الله تعالى له أداء الواجب وتفضيله الفقير حتى يخلصه عن عهدته بقبوله منه انتفى الأذى والتوبيخ وتقطيب الوجه وتبدل بالاستبشار والثناء وقبول المنة فهذا منشأ المن والأذى .
فإن قلت : فرؤيته نفسه في درجة المحسن أمر غامض فهل من علامة يمتحن بها قلبه فيعرف بها أنه لم ير نفسه محسنا ، فاعلم أن له علامة دقيقة واضحة وهو أن يقدر أن الفقير لو جنى عليه جناية أو مالأ عدوا له عليه مثلا هل كان يزيد في استنكاره واستبعاده له على استنكاره قبل التصدق ؟ فإن زاد لم تخل صدقته عن شائبة المنة ؛ لأنه توقع بسببه ما لم يكن يتوقعه قبل ذلك .