الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الشاهد واليمين

اختلف الفقهاء في الحكم بشاهد واحد؛ مع يمين الطالب ؛ فقال أبو حنيفة ؛ وأبو يوسف؛ ومحمد؛ وزفر؛ وابن شبرمة : "لا يحكم إلا بشاهدين؛ ولا يقبل شاهد ويمين في شيء"؛ وقال مالك ؛ والشافعي : "يحكم به في الأموال خاصة".

قال أبو بكر : قوله (تعالى): واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ؛ يوجب بطلان القول بالشاهد واليمين؛ وذلك لأن قوله: واستشهدوا ؛ يتضمن الإشهاد على عقود المداينات التي ابتدأ في الخطاب بذكرها؛ ويتضمن إقامتها عند الحاكم ولزوم الحاكم الأخذ بها؛ لاحتمال اللفظ للحالين؛ ولأن الإشهاد على العقد إنما الغرض فيه إثباته عند التجاحد؛ فقد تضمن - لا محالة - استشهاد الشاهدين؛ أو الرجل والمرأتين؛ على العقد؛ عند الحاكم ؛ وإلزامه الحكم به؛ وإذا كان كذلك فظاهر اللفظ يقتضي الإيجاب; لأنه أمر؛ وأوامر الله (تعالى) على الوجوب؛ فقد ألزم الله (تعالى) الحاكم الحكم بالعدد المذكور؛ كقوله (تعالى): فاجلدوهم ثمانين جلدة ؛ وقوله (تعالى): فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ؛ ولم يجز الاقتصار على ما دون العدد المذكور؛ كذلك العدد المذكور للشهادة غير جائز الاقتصار فيه على ما دونه؛ وفي تجويز أقل منه [ ص: 248 ] مخالفة الكتاب؛ كما لو أجاز مجيز أن يكون حد القذف سبعين؛ أو حد الزنا تسعين؛ كان مخالفا للآية؛ وأيضا قد انتظمت الآية شيئين من أمر الشهود؛ أحدهما العدد؛ والآخر الصفة؛ وهي أن يكونوا أحرارا؛ مرضيين؛ لقوله (تعالى): من رجالكم ؛ وقوله (تعالى): ممن ترضون من الشهداء ؛ فلما لم يجز إسقاط الصفة المشروطة لهم؛ والاقتصار على دونها؛ لم يجز إسقاط العدد؛ إذ كانت الآية مقتضية لاستيفاء الأمرين في تنفيذ الحكم بها؛ وهما: العدد؛ والعدالة والرضا؛ فغير جائز إسقاط واحد منهما؛ والعدد أولى بالاعتبار من العدالة والرضا; لأن العدد معلوم من جهة اليقين؛ والعدالة إنما نثبتها من طريق الظاهر؛ لا من طريق الحقيقة؛ فلما لم يجز إسقاط العدالة المشروطة من طريق الظاهر؛ لم يجز إسقاط العدد المعلوم من جهة الحقيقة واليقين؛ وأيضا فلما أراد الله (تعالى) الاحتياط في إجازة شهادة النساء؛ أوجب شهادة المرأتين؛ وقال: أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ؛ ثم قال: ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ؛ فنفى بذلك أسباب التهمة؛ والريب؛ والنسيان؛ وفي مضمون ذلك ما ينفي قبول يمين الطالب؛ والحكم له بشاهد واحد؛ لما فيه من الحكم بغير ما أمر به من الاحتياط؛ والاستظهار؛ ونفي الريبة؛ والشك؛ وفي قبول يمينه أعظم الريب والشك؛ وأكبر التهمة؛ وذلك خلاف مقتضى الآية.

ويدل على بطلان الشاهد واليمين قول الله (تعالى): ممن ترضون من الشهداء ؛ وقد علمنا أن الشاهد الواحد غير مقبول؛ ولا مراد بالآية؛ ويمين الطالب لا يجوز أن يقع عليها اسم الشاهد؛ ولا يجوز أن يكون رضي فيما يدعيه لنفسه؛ فالحكم بشاهد واحد؛ ويمينه؛ مخالف للآية من هذه الوجوه؛ ورافع لما قصد به من أمر الشهادات؛ من الاحتياط؛ والوثيقة؛ على ما بين الله (تعالى) في هذه الآية؛ وقصد به من المعاني المقصودة بها؛ ويدل عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "البينة على المدعي؛ واليمين على المدعى عليه"؛ وفارق بين اليمين؛ والبينة؛ فغير جائز أن تكون اليمين بينة; لأنه لو جاز أن تسمى اليمين بينة لكان بمنزلة قول القائل: "البينة على المدعي؛ والبينة على المدعى عليه"؛ وقوله: "البينة": اسم للجنس؛ فاستوعب ما تحتها؛ فما من بينة إلا وهي التي على المدعي؛ فإذا لا يجوز أن يكون عليه اليمين؛ وأيضا لما كانت البينة لفظا مجملا؛ قد يقع على معان مختلفة؛ واتفقوا أن الشاهدين؛ والشاهد والمرأتين؛ مرادون بهذا الخبر؛ وأن الاسم يقع عليهم؛ صار كقوله: "الشاهدان؛ أو الشاهد والمرأتان؛ على المدعي"؛ فغير جائز الاقتصار على ما دونهم؛ وهذا الخبر - وإن كان وروده من طريق الآحاد - فإن [ ص: 249 ] الأمة قد تلقته بالقبول؛ والاستعمال؛ فصار في حيز المتواتر؛ ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو أعطي الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم؛ وأموالهم"؛ فحوى هذا الخبر ضربين من الدلالة على بطلان القول بالشاهد واليمين؛ أحدهما أن يمينه دعواه; لأن مخبرها ومخبر دعواه واحد؛ فلو استحق بيمينه كان مستحقا بدعواه؛ وقد منع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك؛ والثاني أن دعواه لما كانت قوله؛ ومنع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستحق بها شيئا؛ لم يجز أن يستحق بيمينه؛ إذ كانت يمينه قوله؛ ويدل على ذلك حديث علقمة بن وائل بن حجر ؛ عن أبيه؛ في الحضرمي الذي خاصم الكندي في أرض ادعاها في يده؛ وجحد الكندي ؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للحضرمي: "شاهداك؛ أو يمينه؛ ليس لك إلا ذلك"؛ فنفى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستحق شيئا بغير شاهدين؛ وأخبر أنه لا شيء له غير ذلك.

فإن قيل: لم ينف بذلك أن يستحق بإقرار المدعى عليه؛ كذلك لا ينفي أن يستحق بشاهد ويمين؛ قيل له: قد كان المدعى عليه جاحدا؛ فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم ما يوجب صحة دعواه عند الجحود؛ فأما حال الإقرار فلم يجر لها ذكر؛ وهي موقوفة على الدلالة؛ وأيضا فإن ظاهره يقتضي ألا يستحق شيئا إلا ما ذكرنا في الخبر؛ والإقرار قد ثبت بالإجماع وجوب الاستحقاق به ؛ فحكمنا به؛ والشاهد واليمين مختلف فيه؛ فقضى قوله: "شاهداك؛ أو يمينه؛ ليس لك إلا ذلك"؛ ببطلانه.

واحتج القائلون بالشاهد واليمين؛ بأخبار رويت مبهمة؛ ذكر فيها قضية النبي - صلى الله عليه وسلم - به؛ أنا ذاكرها؛ ومبين ما فيها؛ أحدها ما حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا أبو سعيد قال: حدثنا سليمان قال: حدثنا ربيعة بن أبي عبد الرحمن ؛ عن سهيل بن أبي صالح ؛ عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد ؛ وروى عثمان بن الحكم عن زهير بن محمد ؛ عن سهيل بن أبي صالح ؛ عن أبيه؛ عن زيد بن ثابت ؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله؛ وحديث آخر؛ وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة؛ والحسن بن علي أن زيد بن الحباب حدثهم قال: حدثنا سيف؛ يعني ابن سليمان المكي؛ عن قيس بن سعد ؛ عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بيمين وشاهد ؛ وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن يحيى؛ وسلمة بن شبيب؛ قالا: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا محمد بن مسلم ؛ عن عمرو بن دينار ؛ بإسناده ومعناه؛ وحدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الرحمن بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا عبد الله بن الحارث قال: حدثنا [ ص: 250 ] سيف بن سليمان؛ عن قيس بن سعد ؛ عن عمرو بن دينار ؛ عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد ؛ قال عمرو : "إنما ذاك في الأموال"؛ وحدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا خلد بن أبي كريمة؛ عن أبي جعفر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة رجل مع يمين المدعي في الحقوق ؛ ورواه مالك ؛ وسفيان ؛ عن جعفر بن محمد؛ عن أبيه؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أنه قضى بشهادة رجل مع اليمين .

قال أبو بكر : والمانع من قبول هذه الأخبار؛ وإيجاب الحكم بالشاهد واليمين بها؛ وجوه؛ أحدها فساد طرقها؛ والثاني جحود المروي عنه روايتها؛ والثالث رد نص القرآن لها؛ والرابع أنها لو سلمت من الطعن والفساد؛ لما دلت على قول المخالف؛ والخامس احتمالها لموافقة الكتاب؛ فأما فسادها من طريق النقل فإن حديث سيف بن سليمان غير ثابت؛ لضعف سيف بن سليمان هذا؛ ولأن عمرو بن دينار لا يصح له سماع من ابن عباس ؛ فلا يصح لمخالفنا الاحتجاج به؛ وحدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا أبو سلمة الخزاعي قال: حدثنا سليمان بن بلال ؛ عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ؛ عن إسماعيل بن عمرو بن قيس بن سعد بن عبادة ؛ عن أبيه أنهم وجدوا في كتاب سعد بن عبادة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد ؛ فلو كان عنده عن عمرو بن دينار عن ابن عباس لذكره؛ ولم يلجأ إلى ما وجده في كتاب؛ وأما حديث سهيل فإن محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن أبي بكر ؛ أبو مصعب الزهري ؛ قال: حدثنا الدراوردي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ؛ عن سهيل بن أبي صالح ؛ عن أبيه؛ عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد ؛ قال أبو داود : وزادني الربيع بن سليمان المؤذن في هذا الحديث؛ قال: أخبرنا الشافعي ؛ عن عبد العزيز قال: فذكرت ذلك لسهيل؛ فقال: أخبرني ربيعة؛ وهو عندي ثقة؛ أني حدثته إياه؛ ولا أحفظه؛ قال عبد العزيز: وقد كان أصابت سهيلا علة؛ أزالت بعض عقله؛ ونسي بعض حديثه؛ فكان سهيل بعد يحدثه عن ربيعة؛ عنه؛ عن أبيه؛ وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن داود الإسكندراني قال: حدثنا زياد ؛ يعني ابن يونس؛ قال: حدثني سليمان بن بلال ؛ عن ربيعة؛ بإسناد أبي مصعب ؛ ومعناه؛ قال سليمان: فلقيت سهيلا فسألته عن هذا الحديث؛ فقال: ما أعرفه؛ فقلت له: إن ربيعة أخبرني به عنك؛ قال: فإن كان ربيعة أخبرك عني فحدث به عن ربيعة عني؛ ومثل هذا الحديث لا يثبت به شريعة؛ مع إنكار من روي [ ص: 251 ] عنه إياه؛ وفقد معرفته به.

فإن قال قائل: يجوز أن يكون رواه؛ ثم نسيه؛ قيل له: ويجوز أن يكون قد وهم بديا فيه؛ وروى ما لم يكن سمعه؛ وقد علمنا أنه كان آخر أمره جحوده؛ وفقد العلم به؛ فهو أولى؛ وأما حديث جعفر بن محمد فإنه مرسل؛ وقد وصله عبد الوهاب الثقفي؛ وقيل: إنه أخطأ فيه؛ فذكر فيه جابرا؛ وإنما هو عن أبي جعفر ؛ محمد بن علي ؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم.

قال أبو بكر : فهذه الأمور التي ذكرنا؛ إحدى العلل المانعة من قبول هذه الأخبار؛ وإثبات الأحكام بها؛ ومن جهة أخرى؛ وهي ما حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا إسماعيل عن سوار بن عبد الله قال: سألت ربيعة الرأي؛ قلت: قولكم: شهادة الشاهد ويمين صاحب الحق؛ قال: "وجدت في كتاب سعد "؛ فلو كان حديث سهيل صحيحا عند ربيعة لذكره؛ ولم يعتمد على ما وجد في كتاب سعد ؛ وحدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر ؛ عن الزهري ؛ في اليمين مع الشاهد؛ قال: "هذا شيء أحدثه الناس؛ لا؛ إلا شاهدين"؛ حدثنا حماد بن خالد الخياط قال: سألت ابن أبي ذئب : "إيش كان الزهري يقول في اليمين مع الشاهد؟ قال: كان يقول: "بدعة؛ وأول من أجازه معاوية "؛ وروى محمد بن الحسن ؛ عن ابن أبي ذئب قال: سألت الزهري عن شهادة شاهد ويمين الطالب؛ فقال: "ما أعرفه؛ وإنها لبدعة؛ وأول من قضى به معاوية والزهري من أعلم أهل المدينة في وقته؛ فلو كان هذا الخبر ثابتا فكيف كان يخفى مثله عليه؛ وهو أصل كبير من أصول الأحكام؛ وعلى أنه قد علم أن معاوية أول من قضى به؛ وأنه بدعة؟ وقد روي عن معاوية أنه قضى بشهادة امرأة واحدة في المال؛ من غير يمين الطالب؛ حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرزاق ؛ وروح؛ ومحمد بن بكر؛ قالوا: أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن أبي مليكة أن علقمة بن أبي وقاص أخبره أن أم سلمة ؛ زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ شهدت لمحمد بن عبد الله بن زهير ؛ وإخوته؛ أن ربيعة بن أبي أمية أعطى أخاه زهير بن أبي أمية نصيبه من ربعه؛ ولم يشهد على ذلك غيرها؛ فأجاز معاوية شهادتها وحدها؛ وعلقمة حاضر ذلك من قضاء معاوية ؛ فإن كان قضاء معاوية بالشاهد مع اليمين جائزا؛ فينبغي أن يجوز أيضا قضاؤه بالشاهد من غير يمين الطالب؛ فاقضوا بمثله؛ وأبطلوا حكم الكتاب والسنة.

وحدثنا عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثنا عبد الرزاق قال: [ ص: 252 ] أخبرنا ابن جريج قال: كان عطاء يقول: "لا يجوز شهادة على دين؛ ولا غيره؛ دون شاهدين؛ حتى إذا كان عبد الملك بن مروان جعل مع شهادة الرجل الواحد يمين الطالب"؛ وروى مطرف بن مازن؛ قاضي أهل اليمن؛ عن ابن جريج ؛ عن عطاء بن أبي رباح قال: "أدركت هذا البلد - يعني مكة - وما يقضى فيه؛ في الحقوق؛ إلا بشاهدين؛ حتى كان عبد الملك بن مروان يقضي بشاهد ويمين"؛ وروى الليث بن سعد ؛ عن زريق بن حكيم أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز - وهو عامله -: "إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد؛ ويمين صاحب الحق"؛ فكتب إليه عمر : "إنا قد كنا نقضي كذلك؛ وإنا وجدنا الناس على غير ذلك؛ فلا تقضين إلا بشهادة رجلين؛ أو برجل وامرأتين".

فقد أخبر هؤلاء السلف أن القضاء باليمين سنة معاوية ؛ وعبد الملك؛ وأنه ليس بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فلو كان ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خفي على علماء التابعين؛ فهذان الوجهان اللذان ذكرنا؛ أحدهما فساد السند؛ واضطرابه؛ والثاني جحود سهيل له؛ وهو العمدة فيه؛ وإخبار ربيعة أن أصله ما وجد في كتاب سعد ؛ وإنكار علماء التابعين؛ وإخبارهم أنه بدعة؛ وأن معاوية ؛ وعبد الملك؛ أول من قضى به؛ والوجه الثالث أنها لو وردت من طرق مستقيمة؛ تقبل أخبار الآحاد في مثلها؛ وعريت من ظهور نكير السلف على روايتها؛ وإخبارهم أنها بدعة؛ لما جاز الاعتراض بها على نص القرآن؛ إذ غير جائز نسخ القرآن بأخبار الآحاد؛ ووجه النسخ منه أن المفهوم منه؛ الذي لا يرتاب به أحد من سامعي الآية؛ من أهل اللغة؛ حظر قبول أقل من شاهدين؛ أو رجل وامرأتين؛ وفي استعمال هذا الخبر ترك موجب الآية؛ والاقتصار على أقل من العدد المذكور؛ إذ غير جائز أن ينطوي تحت ذكر العدد المذكور في الآية الشاهد؛ واليمين؛ كما كان المفهوم من قوله: فاجلدوهم ثمانين جلدة ؛ وقوله: فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ؛ منع الاقتصار على أقل منها؛ في كونها حدا.

فإن قال قائل: جائز أن يكون حد القاذف أقل من ثمانين؛ وحد الزاني أقل من مائة؛ كان مخالفا للآية؛ كذلك من قبل شهادة رجل واحد؛ فقد خالف أمر الله (تعالى) في استشهاد شاهدين؛ وهو مخالف لمعنى الآية كذلك من وجه آخر؛ وهو ما أبان الله (تعالى) به عن المقصد في الكتاب؛ واستشهاد الشهود في قوله: ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا وقوله: ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ؛ فأخبر أن المقصد فيه الاحتياط؛ والتوثق لصاحب الحق؛ والاستظهار بالكتاب؛ والشهود؛ لنفي الريبة؛ [ ص: 253 ] والشك؛ والتهمة عن الشهود؛ في قوله: ممن ترضون من الشهداء ؛ وفي الحكم بشاهد ويمين رفع هذه المعاني كلها؛ وإسقاط اعتبارها؛ فثبت بما وصفنا أن الحكم بها خلاف الآية؛ فهذان الوجهان مما قد ظهر بهما مخالفة الحكم بالشاهد واليمين للآية؛ وأيضا فلما كان حكم القرآن في الشاهدين؛ والرجل والمرأتين؛ مستعملا؛ ثابتا؛ وكانت أخبار الشاهد واليمين مختلفا فيها؛ وجب أن يكون خبر الشاهد واليمين منسوخا بالقرآن; لأنه لو كان ثابتا لاتفق على استعمال حكمه؛ كاتفاقهم على استعمال حكم القرآن.

والوجه الرابع أن خبر الشاهد واليمين لو سلم من معارضة الكتاب؛ وورد من طرق مستقيمة؛ لما صح الاحتجاج به في الاستحقاق بشاهد ويمين الطالب؛ وذلك أن أكثر ما فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بشاهد ويمين ؛ وهذه حكاية قضية من النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس بلفظ عموم في إيجاب الحكم بشاهد ويمين؛ حتى يحتج به في غيره؛ ولم يبين لنا كيفيتها في الخبر؛ وفي حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد ؛ وذلك محتمل أن يريد به أن وجود الشاهد الواحد لا يمنع استحلاف المدعى عليه؛ إن استحلفه؛ مع شهادة شاهد؛ فأفاد أن شهادة الشاهد الواحد لا تمنع استحلاف المدعى عليه؛ وأن وجوده وعدمه بمنزلة؛ وقد كان يجوز أن يظن ظان أن اليمين إنما تجب على المدعى عليه إذا لم يكن للمدعي شاهد أصلا؛ فأبطل الراوي بنقله لهذه القضية ظن الظان لذلك؛ وأيضا فإن الشاهد قد يكون اسما للجنس؛ فجائز أن يكون مراد الراوي أنه قضى باليمين في حال؛ وبالبينة في حال؛ فلا يكون حكم الشاهد مفيدا للقضاء بشهادة واحد؛ وهذا كقوله (تعالى): والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ؛ لما كان اسما للجنس لم يكن المراد سارقا واحدا؛ وجائز أن يكون قضى بشاهد واحد؛ وهو خزيمة بن ثابت ؛ الذي جعل شهادته بشهادة رجلين؛ فاستحلف الطالب مع ذلك؛ لأن المطلوب ادعى البراءة.

والوجه الخامس احتماله لموافقة مذهبنا؛ وذلك بأن تكون القضية فيمن اشترى جارية؛ وادعى عيبا في موضع لا يجوز النظر إليه إلا لعذر ؛ فتقبل شهادة الشاهد الواحد في وجود العيب؛ واستحلف المشتري مع ذلك بالله؛ ما رضي؛ فيكون قد قضى بالرد على البائع بشهادة شاهد؛ مع يمين الطالب؛ وهو المشتري.

وإذا كان خبر الشاهد واليمين محتملا لما وصفنا وجب حمله عليه؛ وألا يزال به حكم ثابت من جهة نص القرآن؛ لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله؛ فما وافق كتاب الله فهو مني؛ وما خالفه فليس مني". [ ص: 254 ] وأيضا فإن القضية المروية في الشاهد واليمين ليس فيها أنها كانت في الأموال؛ أو غيرها؛ وقد اتفق الفقهاء على بطلانه في غير الأموال؛ فكذلك في الأموال؛ فإن قيل: قال عمرو بن دينار : "في الأموال"؛ قيل له: هو قول عمرو بن دينار ؛ ومذهبه؛ وليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بها في الأموال؛ فإذا جاز ألا يقضي في غير الأموال؛ وإن كانت القضية مبهمة؛ ليس فيها بيان ذكر الأموال؛ ولا غيرها؛ فكذلك لا يقضي به في الأموال؛ إذ لم يبين كيفيتها؛ وليس القضاء بها في الأموال بأولى منه في غيرها؛ فإن قيل: إنما يقضي به فيما تقبل فيه شهادة رجل وامرأتين ؛ وهو الأموال؛ فتقوم يمين الطالب مقام شاهد واحد؛ مع شهادة الآخر؛ قيل له: هذه دعوى لا دلالة عليها؛ ومع ذلك فكيف صارت يمين الطالب قائمة مقام شاهد آخر؛ دون أن تقوم مقام امرأة؟ ويقال له: أرأيت لو كان المدعي امرأة؛ هل تقيم يمينها مقام شهادة رجل ؟ فإن قال: نعم؛ قيل له: فقد صارت اليمين آكد من الشهادة; لأنك لا تقبل شهادة امرأة واحدة في الحقوق؛ وقبلت يمينها؛ وأقمتها مقام شهادة رجل واحد؛ والله (تعالى) إنما أمرنا بقبول من نرضى من الشهداء؛ وإن كانت هذه شاهدة وقامت يمينها مقام شهادة رجل؛ فقد خالفت القرآن; لأن أحدا لا يكون مرضيا فيما يدعيه لنفسه؛ ومما يدل على تناقض قولهم أنه لا خلاف أن شهادة الكافر غير مقبولة على المسلم في عقود المداينات ؛ وكذلك شهادة الفاسق غير مقبولة؛ ثم إن كان المدعي كافرا؛ أو فاسقا؛ وشهد معه شاهد واحد؛ استحلفوه؛ واستحق ما يدعيه بيمينه؛ وهو لو شهد مثل هذه الشهادة لغيره؛ وحلف عليها خمسين يمينا؛ لم تقبل شهادته؛ ولا أيمانه؛ وإذا ادعى لنفسه؛ وحلف؛ استحق ما ادعى بقوله؛ مع أنه غير مرضي؛ ولا مأمون؛ لا في شهادته؛ ولا في أيمانه؛ وفي ذلك دليل على بطلان قولهم؛ وتناقض مذهبهم.

قوله - عز وجل -: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ؛ روي عن سعيد بن جبير ؛ وعطاء ؛ ومجاهد ؛ والشعبي ؛ وطاوس : "إذا ما دعوا لإقامتها"؛ وعن قتادة ؛ والربيع بن أنس : "إذا دعوا لإثبات الشهادة في الكتب"؛ وقال ابن عباس ؛ والحسن : "هو على الأمرين جميعا؛ من إثباتها في الكتاب؛ وإقامتها بعد علم الحاكم ".

قال أبو بكر : الظاهر أنه عليهما جميعا؛ لعموم اللفظ؛ وهو في الابتداء على إثبات الشهادة؛ كأنه قال: إذا دعوا لإثبات شهاداتهم في الكتاب؛ ولا خلاف أنه ليس على الشهود الحضور عند المتعاقدين؛ وإنما على المتعاقدين أن يحضرا عند الشهود؛ فإذا حضراهم وسألاهم إثبات شهاداتهم في الكتاب؛ فهذه الحال هي المرادة بقوله: [ ص: 255 ] إذا ما دعوا ؛ لإثبات الشهادة؛ وأما إذا أثبتا شهادتهما؛ ثم دعيا لإقامتها عند الحاكم ؛ فهذا الدعاء هو كحضورهم عند الحاكم ; لأن الحاكم لا يحضر عند الشاهدين ليشهدا عنده؛ وإنما الشهود عليهم الحضور عند الحاكم ؛ فالدعاء الأول إنما هو لإثبات الشهادة في الكتاب؛ والدعاء الثاني لحضورهم عند الحاكم ؛ وإقامة الشهادة عنده؛ وقوله (تعالى): واستشهدوا شهيدين من رجالكم يجوز أن يكون أيضا على الحالين من الابتداء؛ والإقامة لها عند الحاكم .

وقوله (تعالى): أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ؛ لا يدل على أن المراد ابتداء الشهادة; لأنه ذكر بعض ما انتظمه اللفظ؛ فلا دلالة فيه على خصوصه فيه؛ دون غيره؛ فإن قال قائل: لما قال: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ؛ فسماهم شهداء؛ دل على أن المراد حال إقامتها عند الحاكم ; لأنهم لا يسمون شهداء قبل أن يشهدوا في الكتاب؛ قيل له: هذا غلط; لأن الله (تعالى) قال: واستشهدوا شهيدين من رجالكم ؛ فسماهما شهيدين؛ وأمر باستشهادهما قبل أن يشهدا; لأنه لا خلاف أن حال الابتداء مرادة بهذا اللفظ؛ وهو كما قال (تعالى): فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ؛ فسماه زوجا قبل أن يتزوج؛ وإنما يلزم الشاهد إثبات الشهداء ابتداء؛ ويلزمه إقامتها على طريق الإيجاب؛ إذا لم يجد من يشهد غيره؛ وهو فرض على الكفاية؛ كالجهاد؛ والصلاة على الجنائز؛ وغسل الموتى؛ ودفنهم؛ ومتى قام به بعض سقط عن الباقين؛ وكذلك حكم الشهادة في تحملها؛ وأدائها ؛ والذي يدل على أنها فرض على الكفاية أنه غير جائز للناس كلهم الامتناع من تحمل الشهادة؛ ولو جاز لكل واحد أن يمتنع من تحملها لبطلت الوثائق؛ وضاعت الحقوق؛ وكان فيه سقوط ما أمر الله (تعالى) به؛ وندب إليه من التوثق بالكتاب؛ والإشهاد؛ فدل ذلك على لزوم فرض إثبات الشهادة في الجملة؛ والدليل على أن فرضها غير معين على كل أحد في نفسه اتفاق المسلمين على أنه ليس على كل أحد من الناس تحملها؛ ويدل عليه قوله (تعالى): ولا يضار كاتب ولا شهيد ؛ فإذا ثبت فرض التحمل على الكفاية كان حكم الأداء عند الحاكم كذلك؛ إذا قام بها البعض منهم سقط عن الباقين؛ وإذا لم يكن في الكتاب إلا شاهدان؛ فقد تعين الفرض عليهما متى دعيا لإقامتها؛ بقوله (تعالى): ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ؛ وقال: ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ؛ وقال: وأقيموا الشهادة لله ؛ وقوله: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم ؛ وإذا كان عنهما مندوحة بإقامة غيرهما؛ فقد سقط [ ص: 256 ] الفرض عنهما؛ لما وصفنا.

قوله - عز وجل -: ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ؛ يعني - والله أعلم -: "لا تملوا؛ ولا تضجروا؛ أن تكتبوا القليل الذي جرت العادة بتأجيله؛ والكثير الذي ندب فيه الكتاب؛ والإشهاد"; لأنه معلوم أنه لم يرد به القيراط؛ والدانق؛ ونحوه؛ إذ ليس في العادة المداينة بمثله إلى أجل؛ فأبان أن حكم القليل المتعارف فيه التأجيل؛ كحكم الكثير؛ فيما ندب إليه من الكتابة؛ والإشهاد؛ لما ثبت أن النزر اليسير غير مراد بالآية؛ وأن قليل ما جرت به العادة فهو مندوب إلى كتابته؛ والإشهاد فيه؛ وكل ما كان مبنيا على العادة فطريقه الاجتهاد؛ وغالب الظن؛ وهذا يدل على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث التي لا توقيف فيها؛ ولا اتفاق؛ وقوله: إلى أجله ؛ يعني إلى محل أجله؛ فيكتب ذكر الأجل في الكتاب؛ ومحله؛ كما كتب أصل الدين؛ وهذا يدل على أن عليهما أن يكتبا في الكتاب صفة الدين؛ ونقده؛ ومقداره ; لأن الأجل بعض أوصافه؛ فحكم سائر أوصافه بمنزلته.

وقوله (تعالى): ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة ؛ فيه بيان أن الغرض الذي أجرى بالأمر؛ وبالكتاب؛ واستشهاد الشهود هو الوثيقة؛ والاحتياط للمتداينين عند التجاحد؛ ورفع الخلاف؛ وبين المعنى المراد بالكتابة ؛ فأعلمهم أن ذلك أقسط عند الله؛ بمعنى أنه أعدل؛ وأولى ألا يقع فيه بينهم التظالم؛ وأنه مع ذلك أقوم للشهادة؛ يعني - والله أعلم - أنه أثبت لها؛ وأوضح منها؛ لو لم تكن مكتوبة؛ وأنه مع ذلك أقرب إلى نفي الريبة والشك فيها؛ فأبان لنا - جل وعلا - أنه أمر بالكتاب؛ والإشهاد؛ احتياطا لنا في ديننا ودنيانا؛ ودفع التظالم فيما بيننا؛ وأخبر مع ذلك أن في الكتاب من الاحتياط للشهادة ما نفى عنها الريب؛ والشك؛ وأنه أعدل عند الله من ألا يكون مكتوبا؛ فيرتاب الشاهد؛ فلا ينفك بعد ذلك من أن يقيمها على ما فيها من الارتياب؛ والشك؛ فيقدم على محظور؛ أو يتركها؛ فلا يقيمها؛ فيضيع حق الطالب؛ وفي هذا دليل على أن الشهادة لا تصح إلا مع زوال الريب؛ والشك فيها ؛ وأنه لا يجوز للشاهد إقامتها إذا لم يذكرها؛ وإن عرف خطه; لأن الله (تعالى) أخبر أن الكتاب مأمور به؛ لئلا يرتاب بالشهادة؛ فدل ذلك على أنه لا تجوز له إقامتها مع الشك فيها؛ فإذا كان الشك فيها يمنع؛ فعدم الذكر والعلم بها أولى أن يمنع صحتها.

قوله (تعالى): إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها ؛ يعني - والله أعلم - البياعات التي يستحق فيها كل واحد منهما على صاحبه تسليم ما عقد عليه من جهته؛ بلا تأجيل؛ فأباح ترك الكتاب فيها؛ وذلك توسعة منه - جل [ ص: 257 ] وعز - لعباده؛ ورحمة لهم؛ لئلا يضيق عليهم أمر تبايعهم في المأكول؛ والمشروب؛ والأقوات التي حاجتهم إليها ماسة في أكثر الأوقات؛ ثم قال (تعالى) - في نسق هذا الكلام -: وأشهدوا إذا تبايعتم ؛ وعمومه يقتضي الإشهاد على سائر عقود البياعات بالأثمان العاجلة ؛ والآجلة؛ وإنما خص التجارات الحاضرة غير المؤجلة بإباحة ترك الكتاب فيها فأما الإشهاد فهو مندوب إليه في جميعها؛ إلا النزر اليسير الذي ليس في العادة التوثق فيه بالإشهاد نحو شراء الخبز؛ والبقل؛ والماء؛ وما جرى مجرى ذلك؛ وقد روي عن جماعة من السلف أنهم رأوا الإشهاد في شراء البقل ونحوه؛ ولو كان مندوبا إليه لنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ والصحابة؛ والسلف؛ والمتقدمين؛ ولنقله الكافة لعموم الحاجة إليه؛ وفي علمنا بأنهم كانوا يتبايعون الأقوات؛ وما لا يستغني الإنسان عن شرائه؛ من غير نقل عنهم الإشهاد فيه؛ دلالة على أن الأمر بالإشهاد - وإن كان ندبا؛ وإرشادا - فإنما هو في البياعات المعقودة على ما يخشى فيه التجاحد من الأثمان الخطيرة؛ والأبدال النفيسة؛ لما يتعلق بها من الحقوق لبعضهم على بعض؛ من عيب؛ إن وجده؛ ورجوع ما يجب لمبتاعيه باستحقاق مستحق لجميعه؛ أو بعضه؛ وكان المندوب إليه فيما تضمنته هذه الآية الكتاب؛ والإشهاد على البياعات المعقودة على أثمان آجلة؛ والإشهاد على البياعات الحاضرة؛ دون الكتاب.

وروى الليث عن مجاهد ؛ في قوله (تعالى): وأشهدوا إذا تبايعتم ؛ قال: "إذا كان نسيئة كتب؛ وإذا كان نقدا أشهد"؛ وقال الحسن في النقد: "إن أشهدت فهو ثقة؛ وإن لم تشهد فلا بأس"؛ وعن الشعبي مثل ذلك؛ وقد قال قوم: إن الأمر بالإشهاد منسوخ بقوله (تعالى): فإن أمن بعضكم بعضا ؛ وقد بينا الصواب عندنا من ذلك فيما سلف.

التالي السابق


الخدمات العلمية