واختلف في شهادة الأعمى؛ فقال ؛ أبو حنيفة "لا تجوز ومحمد: بحال"؛ وروي نحوه عن شهادة الأعمى - رضي الله [ ص: 227 ] عنه -؛ وروى علي بن أبي طالب عن عمرو بن عبيد؛ قال: "لا تجوز الحسن بحال"؛ وروي عن شهادة الأعمى أشعث مثله؛ إلا أنه قال: "إلا أن تكون في شيء رآه قبل أن يذهب بصره"؛ وروى عن ابن لهيعة أبي طعمة؛ عن قال: "لا تجوز شهادة الأعمى "؛ وحدثنا سعيد بن جبير عبد الرحمن بن سيما قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: حدثني حجاج بن جبير بن حازم؛ عن قال: شهد أعمى عند قتادة على شهادة؛ فقال له إياس بن معاوية إياس: "لا نرد شهادتك إلا ألا تكون عدلا؛ ولكنك أعمى لا تبصر"؛ قال: فلم يقبلها؛ وقال أبو يوسف؛ ؛ وابن أبي ليلى : "إذا علمه قبل العمى جازت؛ وما علمه في حال العمى لم تجز"؛ وقال والشافعي ؛ شريح : " شهادة الأعمى جائزة"؛ وقال والشعبي ؛ مالك : " شهادة الأعمى جائزة؛ وإن علمه في حال العمى؛ إذا عرف الصوت؛ في الطلاق؛ والإقرار؛ ونحوه؛ وإن شهد على زنا؛ أو حد القذف؛ لم تقبل شهادته". والليث بن سعد
والدليل على بطلان ما حدثنا شهادة الأعمى قال: حدثنا عبد الباقي بن قانع عبد الله بن محمد بن ميمون البلخي الحافظ قال: حدثنا يحيى بن موسى؛ يعرف بـ "خت"؛ قال: حدثنا محمد بن سليمان بن مسمول قال: حدثنا عبد الله بن سلمة بن وهرام؛ عن أبيه؛ عن ؛ عن طاوس قال: ابن عباس فجعل من شرط صحة الشهادة معاينة الشاهد لما شهد به؛ والأعمى لا يعاين المشهود عليه؛ فلا تجوز شهادته؛ ومن جهة أخرى أن الأعمى يشهد بالاستدلال؛ فلا تصح شهادته؛ ألا ترى أن الصوت قد يشبه الصوت؛ وأن المتكلم قد يحاكي صوت غيره؛ ونغمته؛ حتى لا يغادر منها شيئا؛ ولا يشك سامعه - إذا كان بينه وبينه حجاب - أنه المحكي صوته؟ فغير جائز قبول شهادته على الصوت؛ إذ لا يرجع منه إلى يقين؛ وإنما يبنى أمره على غالب الظن؛ وأيضا فإن الشاهد مأخوذ عليه بأن يأتي بلفظ الشهادة؛ ولو عبر بلفظ غير لفظ الشهادة؛ بأن يقول: "أعلم"؛ أو: "أتيقن"؛ لم تقبل شهادته؛ فعلمت أنها حين كانت مخصوصة بهذا اللفظ؛ وهذا اللفظ يقتضي مشاهدة المشهود به؛ ومعاينته؛ فلم تجز شهادة من خرج من هذا الحد؛ وشهد عن غير معاينة. سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الشهادة؛ فقال: "ترى هذه الشمس.. فاشهد؛ وإلا فدع"؛
فإن قال قائل: يجوز للأعمى إقدامه على وطء امرأته إذا عرف صوتها؛ فعلمنا أنه يقين ليس بشك؛ إذ غير جائز لأحد الإقدام على الوطء بالشك؛ قيل له: يجوز له الإقدام على وطء امرأته بغالب الظن؛ بأن زفت إليه امرأة؛ وقيل له: هذه امرأتك؛ وهو لا يعرفها؛ يحل له وطؤها؛ [ ص: 228 ] وكذلك جائز له قبول هدية (جارية) بقول الرسول؛ ويجوز له الإقدام على وطئها؛ ولولا أخبره مخبر عن زيد بإقرار؛ أو بيع؛ أو قذف؛ لما جاز له إقامة الشهادة على المخبر عنه; لأن سبيل الشهادة اليقين؛ والمشاهدة؛ وسائر الأشياء التي ذكرت يجوز فيها استعمال غالب الظن؛ وقبول قول الواحد؛ فليس ذلك إذا أصلا للشهادة؛ وأما ؛ فإنما لم نقبله من قبل أنا قد علمنا أن حال تحمل الشهادة أضعف من حال الأداء؛ والدليل عليه أنه غير جائز أن يتحمل الشهادة وهو كافر؛ أو عبد؛ أو صبي؛ ثم يؤديها وهو حر؛ مسلم ؛ بالغ؛ تقبل شهادته؛ ولو أداها وهو صبي؛ أو عبد؛ أو كافر؛ لم تجز؛ فعلمنا أن حال الأداء أولى بالتأكيد من حال التحمل؛ فإذا لم يصح تحمل الأعمى للشهادة؛ وكان العمى مانعا من صحة التحمل؛ وجب أن يمنع صحة الأداء؛ وأيضا لو استشهده وبينه وبينه حائل؛ لما صحت شهادته؛ وكذلك لو أداها وبينهما حائل لم تجز شهادته؛ والعمى حائل بينه وبين المشهود عليه؛ فوجب ألا تجوز. إذا استشهد وهو بصير؛ ثم عمي
وفرق بينهما بأن قال: يصح أن يتحمل الشهادة بمعاينته؛ ثم يشهد عليه وهو غائب؛ أو ميت؛ فلا يمنع ذلك جوازها؛ فكذلك عمى الشاهد بمنزلة موت المشهود عليه؛ أو غيبته؛ فلا يمنع قبول شهادته؛ والجواب عن ذلك من وجهين؛ أحدهما أنه إنما يجب اعتبار الشاهد في نفسه؛ فإن كان من أهل الشهادة قبلناها؛ وإن لم يكن من أهل الشهادة لم نقبلها؛ والأعمى قد خرج من أن يكون من أهل الشهادة بعماه؛ فلا اعتبار بغيره؛ وأما الغائب؛ والميت؛ فإن شهادة الشاهد عليهما صحيحة؛ إذ لم يعترض فيه ما يخرجه من أن يكون من أهل الشهادة؛ أبو يوسف لا تؤثر في شهادة الشاهد؛ فلذلك جازت شهادته؛ والوجه الآخر أنا لا نجيز الشهادة على الميت؛ والغائب؛ إلا أن يحضر عنه خصم؛ فتقع الشهادة عليه؛ فيقوم حضوره مقام حضور الغائب؛ والميت؛ والأعمى في معنى من يشهد على غير خصم حاضر؛ فلا تصح شهادته؛ فإن احتجوا بقوله (تعالى): وغيب المشهود عليه وموته إذا تداينتم بدين ؛ إلى قوله (تعالى): واستشهدوا شهيدين من رجالكم ؛ وقوله (تعالى): ممن ترضون من الشهداء ؛ والأعمى قد يكون مرضيا؛ وهو من رجالنا الأحرار؛ فظاهر ذلك يقتضي قبول شهادته؛ قيل له: ظاهر الآية يدل على أن الأعمى غير مقبول الشهادة; لأنه قال: واستشهدوا ؛ والأعمى لا يصح استشهاده; لأن الاستشهاد هو إحضار المشهود عليه؛ ومعاينته إياه؛ وهو غير معاين؛ ولا مشاهد لمن يحضره; لأن العمى حائل بينه وبين ذلك؛ كحائط لو كان بينهما؛ فيمنعه ذلك من مشاهدته؛ ولما كانت الشهادة إنما هي مأخوذة [ ص: 229 ] من مشاهدة المشهود عليه؛ ومعاينته على الحال التي تقتضي الشهادة فيها إثبات الحق عليه؛ وكان ذلك معدوما في الأعمى؛ وجب أن تبطل شهادته؛ فهذه الآية لأن تكون دليلا على بطلان شهادته أولى من أن تدل على إجازتها.
وقال لا تجوز شهادة الأعمى إذا شهد بها قبل العمى؛ أو بعده؛ إلا في النسب؛ أن يشهد أن فلانا ابن فلان؛ قال زفر: : يشبه أن يكون ذهب في ذلك إلى أن النسب قد تصح الشهادة عليه بالخبر المستفيض؛ وإن لم يشاهده الشاهد؛ فلذلك جائز إذا تواتر عند الأعمى الخبر بأن فلانا ابن فلان؛ أن يشهد به عند الحاكم ؛ وتكون شهادته مقبولة؛ ويستدل على صحة ذلك بأن الأعمى والبصير سواء فيما ثبت حكمه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من طريق التواتر؛ وإن لم يشاهد المخبرين من طريق المعاينة؛ وإنما يسمع أخبارهم؛ فكذلك جائز أن يثبت عنده علم صحة النسب من طريق التواتر - وإن لم يشاهد المخبرين - فتجوز إقامة الشهادة به؛ وتكون شهادته مقبولة فيه؛ إذ ليس شرط هذه الشهادة معاينة المشهود به. أبو بكر