[ ص: 491 ] سورة الإسراء
مكية [إلا الآيات 26 و 32 و 33 و 57، ومن آية 73 إلى غاية آية 80 فمدنية]
وآياتها 111 [نزلت بعد القصص]
بسم الله الرحمن الرحيم
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير
سبحان : علم للتسبيح كعثمان للرجل، وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره، تقديره: أسبح الله سبحان، ثم نزل سبحان منزلة الفعل فسد مسده، ودل على التنزيه البليغ من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله، و "أسرى": وسرى لغتان، و "ليلا": نصب على الظرف.
فإن قلت: الإسراء لا يكون إلا بالليل، فما معنى ذكر الليل ؟ [ ص: 492 ] قلت: أراد بقوله: "ليلا" بلفظ التنكير: تقليل مدة الإسراء، وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية، ويشهد لذلك قراءة عبد الله : "من الليل"، أي: بعض الليل، كقوله: وحذيفة ومن الليل فتهجد به نافلة [الإسراء: 79]، يعني: الأمر بالقيام في بعض الليل، واختلف في فقيل: هو المكان الذي أسري منه المسجد الحرام بعينه، وهو الظاهر، وروي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل عليه السلام بالبراق"، وقيل: أسري به من دار والمراد أم هانئ بنت أبي طالب بالمسجد الحرام: الحرم، لإحاطته بالمسجد والتباسه به، وعن ابن عباس: الحرم كله مسجد، وروي أنه كان نائما في بيت بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته، وقص القصة على أم هانئ وقال: مثل لي النبيون فصليت بهم وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانئ، بثوبه فقال: مالك ؟ قالت: أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم، قال: وإن كذبوني، فخرج فجلس إليه أم هانئ أبو جهل فأخبره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحديث الإسراء، فقال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي، هلم فحدثهم، فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا، وارتد ناس ممن كان قد آمن به، وسعى رجال إلى -رضي الله عنه- فقال: إن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أتصدقه على ذلك ؟ قال: إني لأصدقه على أبعد من ذلك، فسمي الصديق ، وفيهم من [ ص: 493 ] سافر إلى ما ثم، فاستنعتوه المسجد فجلي له أبي بكر بيت المقدس، فطفق ينظر إليه وينعته لهم، فقالوا: أما النعت فقد أصاب، فقالوا: أخبرنا عن عيرنا، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها، وقال: تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس، يقدمها جمل أورق، فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية، فقال قائل منهم: هذه والله الشمس قد شرقت، فقال آخر: وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد، ثم لم يؤمنوا وقالوا: ما هذا إلا سحر مبين، وقد عرج به إلى السماء في تلك الليلة، وكان العروج به من بيت المقدس وأخبر قريشا أيضا- بما رأى في السماء من العجائب، وأنه لقي الأنبياء، وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى، واختلفوا في فقيل: كان قبل الهجرة بسنة، وعن وقت الإسراء، أنس أنه كان قبل البعث، واختلف في أنه كان في اليقظة أم في المنام، والحسن فعن -رضي الله عنها- أنها قالت: "والله، ما فقد جسد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن عرج بروحه"، عائشة وعن : إنما عرج بروحه، وعن معاوية كان في المنام رؤيا رآها، وأكثر الأقاويل بخلاف ذلك، الحسن: والمسجد الأقصى: بيت المقدس، لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد، باركنا حوله : يريد بركات الدين والدنيا، لأنه متعبد الأنبياء من وقت موسى ومهبط الوحي، وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة، وقرأ "ليريه" بالياء، ولقد تصرف الكلام على لفظ الغائب والمتكلم، فقيل: أسرى به ثم باركنا ليريه، على قراءة الحسن: "ثم من آياتنا"، "ثم إنه هو"، وهي طريقة الالتفات التي هي من طرق البلاغة، الحسن: إنه هو السميع : لأقوال محمد، البصير : بأفعاله، العالم بتهذبها وخلوصها، فيكرمه ويقربه على حسب ذلك.