قال ابن حجر : المشهور في هذه التسمية أنها بفتح الحاء وقد تكسر فعلى الأول هي صفة المرأة التي أنزلت بسببها ، وعلى الثاني صفة السورة كما قيل لبراءة : الفاضحة ، وفي جمال القراء تسمى أيضا سورة الامتحان وسورة المودة ، وأطلق ابن عباس رضي الله تعالى عنهم القول بمدنيتها ، وذكر بعضهم أن أولها نزل يوم فتح وابن الزبير مكة فكونها مدنية إما من باب التغليب أو مبني على أن المدني ما نزل بعد الهجرة ، وهي ثلاث عشرة آية بالاتفاق .
ومناسبتها لما قبلها أنه ذكر فيما قبل موالاة الذين نافقوا للذين كفروا من أهل الكتاب ، وذكر في هذه نهي المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء لئلا يشابهوا المنافقين ، وبسط الكلام فيه أتم بسط وقيل في ذلك أيضا : إن فيما قبل ذكر المعاهدين من أهل الكتاب وفي هذه ذكر المعاهدين من المشركين لأن فيها ما نزل في صلح الحديبية ، ولشدة اتصالها بالسورة قبلها فصل بها بينها وبين الصف مع تواخيهما في الافتتاح - بسبح . بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء نزلت في حاطب بن عمرو أبي بلتعة - وهو مولى عبد الله بن حميد بن زهير بن أسد بن عبد العزى - أخرج الإمام أحمد والبخاري وأبو داود ومسلم والترمذي والنسائي وجماعة وابن حبان كرم الله تعالى وجهه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا علي والزبير والمقداد فقال : «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فأتوني به فخرجنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا : أخرجي الكتاب قالت : ما معي من كتاب قلنا : لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام ما هذا يا حاطب ؟ ! قال : لا تعجل علي يا رسول الله إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها وكان [ ص: 66 ]
من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهلهم وأموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني فقال عمر رضي الله تعالى عنه : دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقال عليه الصلاة والسلام : إنه شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فنزلت يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء » إلخ . عن
وفي رواية عن ابن مردويه أنس عمر وعليا رضي الله تعالى عنهما في أثر تلك المرأة فلحقاها في الطريق فلم يقدرا على شيء معها فأقبلا راجعين ثم قال أحدهما لصاحبه : والله ما كذبنا ولا كذبنا ارجع بنا إليها فرجعا فسلا سيفيهما وقالا : والله لنذيقنك الموت أو لتدفعن الكتاب فأنكرت ثم قالت : أدفعه إليكما على أن لا ترداني إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقبلا ذلك فأخرجته لهما من قرون رأسها ، وفيه -على ما في الدر المنثور - أن المرأة تدعى أنه عليه الصلاة والسلام بعث أم سارة كانت مولاة لقريش ، وفي الكشاف يقال لها : سارة مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم ، وفي صحة خبر تردد ، وما تضمنه من رجوع الإمامين رضي الله تعالى عنهما بعيد ، وقيل : إن المبعوثين في أثرها أنس عمر وعلي وطلحة والزبير وعمار والمقداد وأبو مرثد وكانوا فرسانا ، والمعول عليه ما قدمنا ، والذين كانوا له في مكة بنوه وإخوته على ما روي عن عن عروة بن الزبير عبد الرحمن بن حاطب المذكور ، وفي رواية لأحمد عن أن جابر حاطبا قال : كانت والدتي معهم فيحتمل أنها مع بنيه وإخوته .
وصورة الكتاب - على ما في بعض الروايات -أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل ، وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم فإنه منجز له ما وعده ، وفي الخبر السابق على ما قيل : دليل على جواز قتل الجاسوس لتعليله صلى الله تعالى عليه وسلم المنع عن قتله بشهوده بدرا - وفيه بحث - وفي التعبير عن المشركين بالعدو مع الإضافة إلى ضميره عز وجل تغليظ لأمر اتخاذهم أولياء وإشارة إلى حلول عقاب الله تعالى بهم ، وفيه رمز إلى معنى قوله :
إذا صافى صديقك من تعادي فقد عاداك وانقطع الكلام
والعدو فعول من عدا كعفو من عفا ، ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد ، ونصب أولياء على أنه مفعول ثان - لتتخذوا - وقوله تعالى : تلقون إليهم بالمودة تفسير للموالاة أو لاتخاذها أو استئناف فلا محل لها من الإعراب ، والباء زائدة في المفعول كما في قوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [البقرة : 195] وإلقاء المودة مجاز عن إظهارها ، وتفسيره بالإيصال أي توصلون إليهم المودة لا يقطع التجوز . وقيل : الباء للتعدية لكون المعنى تفضون إليهم بالمودة ، وأفضى يتعدى بالباء كما في الأساس ، وقيل : هي للسببية والإلقاء مجاز عن الإرسال أي ترسلون إليهم أخبار النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم ، وعن البصريين أن الجار متعلق بالمصدر الدال عليه الفعل ، وفيه حذف المصدر مع بقاء معموله ، وجوز كون الجملة حالا من فاعل لا تتخذوا أو صفة - لأولياء - ولم يقل - تلقون إليهم أنتم - بناء على أنه لا يجب مثل هذا الضمير مع الصفة الجارية على غير من هي له أو الحال أو الخبر أو الصلة سواء في ذلك الاسم والفعل كما في شرح التسهيل لابن مالك إذا لم يحصل إلباس نحو زيد هند ضاربها أو يضربها بخلاف زيد عمر و ضاربه أو يضربه فإنه يجب معه هو لمكان الإلباس .
[ ص: 67 ]
وزعم بعضهم أن الإبراز في الصفات الجارية على غير من هي له إنما يشترط في الاسم دون الفعل كما هنا ومنع ذلك ، وتعقب الوجهان بأنهما يوهمان أنه تجوز الموالاة عند عدم الإلقاء فيحتاج إلى القول بأنه لا اعتبار للمفهوم للنهي عن الموالاة مطلقا في غير هذه الآية ، أو يقال : إن الحال والصفة لازمة ولذا كانت الجملة مفسرة وقوله تعالى : وقد كفروا بما جاءكم من الحق حال من فاعل لا تتخذوا وهي حال مترادفة إن كانت جملة تلقون حالية أيضا أو من فاعل تلقون وهي متداخلة على تقدير حاليتها ، وجوز كونه حالا من المفعول وكونه مستأنفا .
وقرأ الجحدري والمعلى عن - لما - باللام أي لأجل ما جاءكم بمعنى جعل ما هو سبب للإيمان سبب الكفر عاصم يخرجون الرسول وإياكم أي من مكة أن تؤمنوا بالله ربكم أي لإيمانكم أو كراهة إيمانكم بالله عز وجل ، والجار متعلق - بيخرجون - والجملة قيل : حال من فاعل " كفروا " أو استئناف كالتفسير لكفرهم كأنه قيل : كيف كفروا ؟ وأجيب بأنهم كفروا أشد الكفر بإخراج الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين لإيمانهم خاصة لا لغرض آخر ، وهذا أرجح من الوجه الأول لطباقه للمقام وكثرة فوائده ، والمضارع لاستحضار الحال الماضية لما فيها من مزيد الشناعة ، والاستمرار غير مناسب للمعنى ، وفي تؤمنوا قيل : تغليب للمؤمنين ، والالتفات عن ضمير المتكلم بأن يقال : بي إلى ما في النظم الجليل للإشعار بما يوجب الإيمان من الألوهية والربوبية إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي متعلق بقوله تعالى : لا تتخذوا إلخ كأنه قيل : لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي فجواب الشرط محذوف دل عليه ما تقدم ، وجعله حالا من فاعل الزمخشري لا تتخذوا ولم يقدر له جوابا أي لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء والحال أنكم خرجتم لأجل الجهاد وطلب مرضاتي ، واعترض بأن الشرط لا يقع حالا بدون جواب في غير إن الوصلية ، ولا بد فيها من الواو وأن ترد حيث يكون ضد المذكور أولى - كأحسن إلى زيد وإن أساء إليك - وما هنا ليس كذلك .
وأجيب بأن جوزه ، وارتضاه جار الله هنا لأن البلاغة وسوق الكلام يقتضيانه فيقال لمن تحققت صداقته من غير قصد للتعليق والشك : لا تخذلني إن كنت صديقي تهييجا للحمية ، وفيه من الحسن ما فيه فلا يضر إذا خالف المشهور ، ونصب المصدرين على ما أشرنا إليه على التعليل ، وجوز كونهما حالين أي مجاهدين ومبتغين ، والمراد بالخروج إما الخروج للغزو وإما الهجرة ، فالخطاب للمهاجرين خاصة لأن القصة صدرت منهم كما سمعت في سبب النزول ، وقوله تعالى : ابن جني تسرون إليهم بالمودة استئناف بياني كأنهم لما استشعروا العتاب مما تقدم سألوا ما صدر عنا حتى عوتبنا ؟ فقيل : تسرون إلخ ، وجوز أن يكون بدلا من تلقون بدل كل من كل إن أريد بالإلقاء الإلقاء خفية ، أو بدل بعض إن أريد الأعم لأن منه السر والجهر .
وقال : هو شبيه ببدل الاشتمال ، وجوز أبو حيان كونه خبر مبتدأ محذوف أي أنتم ابن عطية تسرون والكلام استئناف للإنكار عليهم ، وأنت تعلم أن الاستئناف لذلك حسن لكنه لا يحتاج إلى حذف والكلام في الباء هنا على ما يقتضيه ظاهر كلامهم كالباء فيما تقدم ، وقوله تعالى : وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم [ ص: 68 ]
في موضوع الحال ، "30 وأعلم " أفعل تفضيل ، والمفضل عليه محذوف أي منكم ، وأجاز كونه مضارعا ، والعلم قد يتعدى بالباء أو هي زائدة ، وما موصولة أو مصدرية ، وذكر " ما أعلنتم " مع الاستغناء عنه للإشارة إلى تساوي العلمين في علمه عز وجل ، ولذا قدم ابن عطية بما أخفيتم وفي هذه الحال إشارة إلى أنه لا طائل لهم في إسرار المودة إليهم كأنه قيل : تسرون إليهم بالمودة والحال أني أعلم ما أخفيتم وما أعلنتم ومطلع رسولي على ما تسرون فأي فائدة وجدوى لكم في الإسرار ؟ ومن يفعله أي الإسرار .
وقال وجمع : أي الاتخاذ ابن عطية منكم فقد ضل سواء السبيل أي الطريق المستوي والصراط الحق فإضافة سواء من إضافة الصفة إلى الموصوف ، ونصبه على المفعول به- لضل - وهو يتعدى كأضل ، وقيل : لا يتعدى وسواء ظرف كقوله :
كما عسل الطريق