ألا لا بارك الله في سهيل إذا ما بارك الله في الرجال
وقد أطال الشيخ قدس سره الكلام في الفتوحات عن أسرار حروفه، وأتى بالعجب العجاب، وفي ظهور الألف تارة، وخفائها أخرى، وسكون اللام أولا، وتحركها ثانيا، والختم باطنا بما به البدء ظاهرا، واشتمال الكلمة على متحرك وساكن، وصالح لأن يظهر بأحد الأمرين، إشارات لا تخفى على العارفين، فارجع إلى كتبهم، فهم أعرف بالله تعالى منا، سبحان من احتجب بنور العظمة، حتى تحيرت الأفهام في اللفظ الدال عليه، إذ انعكست له من تلك الأنوار أشعة بهرت أعين المستبصرين، فلم يستطيعوا أن يمعنوا النظر فيه وإليه، والقصور في القابل، لا في الفاعل :توهمت قدما أن ليلى تبرقعت وأن حجابا دونها يمنع اللثما
فلاحت فلا والله ما ثم حاجب سوى أن طرفي كان عن حسنها أعمى
والرحمن الرحيم المشهور أنهما صفتان مشبهتان، بنيتا لإفادة المبالغة، وأنهما من رحم مكسور العين، نقل إلى رحم [ ص: 59 ] مضمومها بعد جعله لازما، وهذا مطرد في باب المدح والذم، وأن الرحمة في اللغة رقة القلب، ولكونها من الكيفيات التابعة للمزاج المستحيل عليه سبحانه تؤخذ باعتبار غايتها، إما على طريقة المجاز المرسل بذكر لفظ السبب وإرادة المسبب، وإما على طريقة التمثيل بأن شبه حاله تعالى بالقياس إلى المرحومين في إيصال الخير إليهم بحال الملك إذ رق لهم، فأصابهم بمعروفه، وإنعامه، فاستعمل الكلام الموضوع للهيئة الثانية في الأولى من غير أن يتمحل في شيء من مفرداته، وإما على طريقة الاستعارة المصرحة بأن يشبه الإحسان على ما اختاره القاضي أبو بكر ، أو إرادته على ما اختاره بالرحمة، بجامع ترتب الانتفاع على كل، ويستعار له الرحمة ويشتق منها الرحمن الرحيم على حد - الحال ناطقة بكذا - وإما على طريقة الاستعارة المكنية التخييلية بأن يشبه معنى الضمير فيهما العائد إليه تعالى بملك رق قلبه على رعيته تشبيها مضمرا في النفس، ويحذف المشبه به، ويثبت له شيء من لوازمه، وهو الرحمة، وقيل: الرحمة في ذلك حقيقة شرعية، وأن الرحمن أبلغ من الرحيم، لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى، فتؤخذ تارة باعتبار الكمية، وأخرى باعتبار الكيفية، فعلى الأول قيل: يا رحمن الدنيا، لأنه يعم المؤمن والكافر، ورحيم الآخرة، لأنه يخص المؤمن، وعلى الثاني قيل: يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا، لأن النعم الأخروية كلها جسام، وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة، وأنه إنما قدم الرحمن، والقياس يقتضي الترقي لتقدم رحمة الدنيا، ولأنه صار كالعلم من حيث أنه لا يوصف به غيره، لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها، وذلك لا يصدق على غيره، وقول الأشعري، بني حنيفة في مسيلمة: رحمن اليمامة، وقول شاعرهم فيه :
سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائهم
أهم بأمر الحزم لا أستطيعه وقد حيل بين العير والنزوان
وأما سابعا فلأن قولهم: فعلى الأول قيل: يا رحمن الدنيا، لأنه يعم المؤمن والكافر، ورحيم الآخرة، لأنه يخص المؤمن، إن أرادوا به أن أبلغية الرحمن ههنا باعتبار كثرة أفراد الرحمة في الدنيا لوجودها في المؤمن والكافر فلا يستقيم عليه، ورحيم الآخرة، إذ النعم الأخروية غير متناهية، وإن خصت المؤمن، وإن أرادوا أنها باعتبار كثرة أفراد المرحومين فلا يخفى أن كثرة أفرادهم إنما تؤثر في الأبلغية باعتبار اقتضائها كثرة أفراد الرحمة في الدنيا أيضا، ومعلوم أن أفراد الرحمة في الآخرة أكثر منها بكثير، بل لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي أصلا، فهذا الوجه مخدوش على الحالين، على أن في اختصاص رحمة الآخرة بالمؤمنين مقالا، إذ قد ورد في الصحيح شفاعته صلى الله تعالى عليه وسلم لعامة الناس من هول الموقف، عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وروي تخفيف العذاب عن بعض الأشقياء في الآخرة، وكون الكفار في الأول تبعا غير مقصودين، كيف وهم بعد الموقف يلاقون ما هو أشد منه، فليس ذلك رحمة في حقهم، والتخفيف في الثاني على تقدير تحققه نزول من مرتبة من مراتب الغضب إلى مرتبة دونها، فليس رحمة من كل الوجوه، ليس بشيء، أما أولا فلأن القصد تبعا وأصالة لا مدخل له، وحبذا الولد من أين جاء، وأما ثانيا فلأن ملاقاتهم بعد لما هو أشد فلا يكون ذاك رحمة في حقهم يستدعي أن لا رحمة من الله تعالى لكافر في الدنيا، كما قد قيل به لقوله تعالى: ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين وقوله تعالى: ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها فيبطل حينئذ دعوى شمول الرحمة المؤمن والكافر في الدنيا، إذ لا فرق بين ما يكون للكافر في الدنيا مما يتراءى أنه رحمة، وما يكون له في الآخرة، فوراء كل عذاب شديد، وأما ثالثا فلأن كون التخفيف ليس برحمة من كل الوجوه لا يضر، وكل أهل النار يتمنى التخفيف، وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب وحنانيك بعض الشر أهون من بعض، وأما ثامنا فلأن قولهم: وعلى الثاني قيل: يا رحمن الدنيا والآخرة، إلخ، فيه بعض شيء، وهو أنه يصح أن يكون بالاعتبار الأول، لأن نعم الدنيا والآخرة تزيد على نعم الآخرة، نعم يجاب عنه بأنه يلزم حينئذ أن يكون ذكر رحيم الدنيا لغوا، ولا يلزم ذلك على اعتبار الكيفية، إذ المراد: يا موليا لجسام النعم في الدارين، ولما دونها في الدنيا، وأيضا مقصود القائل التوسل بكلا الاسمين المشتقين من الرحمة في مقام طلبها مشيرا إلى عموم الأول، وخصوص الثاني، ويحصل في ضمنه الاهتمام برحمته الدنيوية الواصلة إليه، الباعثة لمريد شكره، إلا أنه يرد عليه كسابقه أن الأثر لا يعرف، والمعروف المرفوع: وكفاية كونه من كلام السلف ليس بشيء، كما لا يخفى، وأما تاسعا فلأن السؤال عن تقديم الرحمن معترض بمقبول ومردود، وذكر (رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما)، ابن هشام أنه غير متجه، لأن هذا خارج عن كلام العرب، إذ لم يستعمل صفة ولا مجردا من أل، فهو بدل لا نعت، والرحيم نعت له، لا نعت لاسم الله سبحانه، إذ لا يتقدم البدل على النعت، ومما يوضح لك أن الرحمن غير صفة مجيئه كثيرا غير تابع نحو: الرحمن على العرش استوى ، الرحمن علم القرآن ، قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ، وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن ، وقال ابن خروف : هو صفة غالبة، ولم يقع تابعا إلا لله تعالى [ ص: 63 ] في البسملة، والحمد له، ولذا حكم عليه بغلبة الاسمية، وقل استعماله منكرا ومضافا، فوجب كونه بدلا، لا صفة، لكون لفظة الله أعرف المعارف، وقال غير واحد : أنهما ذكرا لإفادة الشمول والعموم كما تقول: الكبير والصغير يعرفه، ولو عكست صح، وكان المعنى بحاله، ومثله لا يلزم فيه الترتيب كما فصل في المثل السائر، وللعلماء في هذا الترتيب كلام كثير، وادعى العلامة المدقق في الكشف أن التحقيق يقتضي أن يرد النظم على هذا الوجه، ولا يجوز غيره، لأن الله اسم للذات الإلهية باعتبار أن الكل منه وإليه وجودا ورتبة وماهية، والرحمن اسم له باعتبار إفاضة الرحمة العامة، أعني الوجود على الممكنات، والرحيم اسم له باعتبار تخصيص كل ممكن بحصة من الرحمة، وهي الوجود الخاص، وما يتبعه من وجود كمالاته، فلو لم يورد كذلك، لم يكن على النهج الواقع ذوقا وشهودا، عقلا ووجودا، وأيضا لما كان المقصود تعليم وجه التيمن بأسمائه الحسنى وتقديمها عند كل ملم، كان المناسب أن يبدأ من الأعلى فالأعلى إرشادا لمن يقتصر على واحد أن يقتصر على الأولى، فالأولى، وتقريرا في ذهن السامع لوجه التنزل أولا فأولا انتهى، ويؤيد بعضه بعض ما أسلفناه من الآثار، والبعض الآخر في القلب منه شيء، لأن تخصيص الرحمن بالوجود العام، والرحيم بالكلمات تحكم غير مرضي، وربما ينافي المأثور على أنه لا معنى لإفاضة الوجود على الكل، إلا تخصيص كل ممكن بحصة منه، وهل يوجد في الخارج من النوع إلا الحصص الإفرادية، فتخصيص الإفاضة بالرحمن، والتخصيص بالرحيم على ما يلوح بمعزل عن التحقيق، والعجب ممن فاته ذلك، وأما عاشرا فلأن ما ذكروه في الجواب عن قول بني حنيفة بأنه غلو في الكفر، فيكون الإطلاق غير صحيح لغة وشرعا فيه أنه إذا كان إطلاقه عليه تعالى شأنه مجازا، كما زعموا، وبالغلبة، فكيف يقال: إن استعماله في حقيقته، وأصل معناه خطأ لغة، وقد ذهب السبكي إلى أن المخصوص به تعالى هو المعرف دون المنكر والمضاف، لوروده لغيره، ورد به على القول بأنه مجاز لا حقيقة له، وأن صحة المجاز إنما تقتضي الوضع للحقيقة لا الاستعمال، نعم هو في لسان الشرع يمنع إطلاقه على غيره مطلقا، وإن جاز لغة كالصلاة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وبذلك صرح العز بن عبد السلام، وقيل: إن رحمانا في البيت مصدر لا صفة مشبهة، والمراد: لا زلت ذا رحمة، وفيه ما لا يخفى، وأفهم كلامه أن الرحيم يوصف به غيره تعالى، وهو المعروف، لكن أخرج عن ابن أبي حاتم، أنه قال : الرحيم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه، ولعل مراده المعرف دون المنكر والمضاف، فافهم، وأما الحادي عشر، فلأن المحافظة على رؤوس الآي إنما تحسن كما قال الحسن البصري بعد إيقاع المعاني على النهج الذي يقتضيه حسن النظم، والتئامه، فأما أن تهمل المعاني، ويهتم للتحسين وحده، فليس من قبيل البلاغة. الزمخشري
وقال الشيخ عبد القاهر : أصل الحسن في جميع المحسنات اللفظية أن تكون الألفاظ تابعة للمعاني، فمجرد المحافظة على الرؤوس لا يصير نكتة للتقديم إلا بعد أن يثبت أن المعاني إذا أرسلت على سجيتها كانت تقتضي التقديم، على أن المحافظة لا تجري في كل سورة بل فيها ما يقتضي خلاف هذا، كسورة الرحمن، وأيضا هو مبني على أن الفاتحة أول نازل، فروعي فيها ذلك، ثم اطرد في غيرها، وعلى أن ودون ذلك سور من حديد، وعندي من باب الإشارة أن تأخير الرحيم لأنه صفة البسملة آية من السورة، محمد صلى الله تعالى عليه وسلم قال تعالى : بالمؤمنين رءوف رحيم وبه عليه السلام كمال الوجود، وبالرحيم تمت البسملة، وبتمامها تم العالم خلقا وإبداعا، وكان [ ص: 64 ] صلى الله تعالى عليه وسلم مبتدأ وجود العالم عقلا ونفسا، فبه بدء الوجود باطنا، وبه ختم المقام ظاهرا في عالم التخطيط، فقال: لا رسول بعدي، فالرحيم هو نبينا عليه الصلاة والسلام، وبسم الله هو أبونا آدم عليه السلام، وأعني في مقام ابتداء الأمر ونهايته، وذلك أن آدم عليه السلام حامل الأسماء، قال تعالى: وعلم آدم الأسماء كلها ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم حامل معاني تلك الأسماء التي حملها آدم عليه السلام.
لك ذات العلوم من عالم الغيــــــ ــب ومنها لآدم الأسماء
زدني بفرط الحب فيك تحيرا وارحم حشا بلظى هواك تسعرا
وعلى تفنن واصفيه بوصفه يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
فكان ما كان مما لست أذكره فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر