ولو جليت سرا على أكمه غدا بصيرا ومن راووقها تسمع الصم ولو أن ركبا يمموا ترب أرضها
وفي الركب ملسوع لما ضره السم ولو رسم الراقي حروف اسمها على
جبين مصاب جن أبرأه الرسم وفوق لواء الجيش لو رقم اسمها
لأسكر من تحت اللوا ذلك الرقم
كان الحب دائرة بقلبي فأوله وآخره سواء
والصبر يحمد في المواطن كلها إلا عليك فإنه مذموم
(الخامس) وهو ذكر ما يدل على اتصاف المحمود بالمحمودية، وقد اشتهر تقييده باللسان، وأريد به جارحة النطق، ولما كان الواقع كون آلة التكلم في الغالب هي تلك الجارحة خصوه بها، فلو فقد إنسان لسانه فأثنى بحروفه الشفوية، أو خلق النطق في بعض جوارحه، فأثنى به كما شوهد في مقطوع جميع اللسان، فهو حمد، وقضية التقييد أن لا يكون الصادر عمن لا جارحة له حمدا، وقد قال تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده وأما حمد الله تعالى نفسه نفسه مثلا، فذهب الأكثر إلى أنه وأمر به، أو مقول على ألسنة العباد، أو مجاز عن إظهار الصفات الكمالية الذي هو الغاية القصوى من الحمد، ومال السيد إلى الأخير، وقال إخبار باستحقاق الحمد، الدواني: كون الحمد في حقه سبحانه مجازا بعيد عن قاعدة أهل الحق من إثبات الكلام له حقيقة، والقول مساوق للكلام، فالأظهر أن الحصر في اللسان إضافي لمقابلة الجنان والأركان، والمراد الأمر الذي مصدره اللسان غالبا، أو هو قيد غالبي يسوغ الاستعمال فيه، واللفظ قد يكون موضوعا في أصل اللغة لعام، ويشتهر في بعض مخصوص، بحيث يصير فيه حقيقة عرفية، وسبب الاشتهار إما كثرة تداول ذلك الفرد كما في الدابة، وإما عدم الاطلاع على فرد آخر، فيستعمله أهل اللسان في ذلك الفرد حتى إذا استمر، ولم يطلع على إطلاقه على فرد آخر ظن أنه موضوع لخصوصه، كما في الميزان، فإنه في الأصل موضوع لآلة الوزن، ثم من لم يطلع إلا على ما له لسان [ ص: 70 ] وعمود، ربما يجزم بأنه موضوع له فقط، ولا يدري أن وراء ذلك موازين، ومثل هذا يجري في كثير من الألفاظ، والأمر في المشتقات لا يكاد يخفى على من له أدنى فطنة، لظهوره بالرجوع إلى قاعدة الاشتقاق، وفي غيرها ربما يشتبه على الجماهير، وبذلك يفوت كثير من حقائق الكتاب والسنة، فإن أكثرهما وارد على أصل اللغة، وعلى ذلك فقس الحمد، فإن حقيقته عندهم إظهار صفات الكمال، ولما كان الإظهار القولي أظهر أفراده وأشهرها عند العامة، شاع استعمال لفظ الحمد فيه، حتى صار كأنه مجاز في غيره، مع أنه بحسب الأصل أعم، بل الإظهار الفعلي أقوى وأتم، فهو بهذا الاسم أليق وأولى، كما هو شأن القول بالتشكيك، وفرقوا بين الحمد والمدح بأمور.
(أحدها) أن الحمد يختص بالثناء على الفعل الاختياري لذوي العلم، والمدح يكون في الاختياري وغيره ولذوي العلم وغيرهم، كما يقال: مدحت اللؤلؤة على صفتها، (وثانيها وثالثها) أن الحمد يشترط صدوره عن علم لا ظن، وأن تكون الصفات المحمودة صفات كمال، والمدح قد يكون عن ظن، وبصفة مستحسنة وإن كان فيها نقص ما.
(ورابعها) أن في الحمد من التعظيم والفخامة ما ليس في المدح، وهو أخص بالعقلاء، والعظماء، وأكثر إطلاقا على الله تعالى، (وخامسها) أن الحمد إخبار عن محاسن الغير مع المحبة والإجلال، والمدح إخبار عن المحاسن، ولذا كان الحمد إخبارا يتضمن إنشاء، والمدح خبرا محضا، (وسادسها) أن الحمد مأمور به مطلقا ففي الأثر: (من لم يحمد الناس لم يحمد الله)، والمدح ليس كذلك، ويشعر كلام (احثوا في وجوه المداحين التراب)، في الكشاف والفائق بترادفهما، ففي الأول: أنهما أخوان، وجعل فيه نقيض المدح أعني الذم نقيضا للحمد، وفي الثاني: الحمد المدح والوصف بالجميل، فالمدح عنده مخصوص بالاختياري، وتأول المدح بالجمال، وصباحة الوجه، واحتمال أن يراد من الأخوين ما يكون بينهما اشتقاق كبير بأن يشتركا في الحروف الأصول من غير ترتيب، كجبذ وجذب، وأن الأدباء يجوزون التعريف بالأعم، والنقيض هناك بالمعنى اللغوي، ويجوز أن يكون شيء واحد نقيضا لشيئين بينهما عموم وخصوص بهذا المعنى، لا بنفي ما قلناه، بل إذا أنصفت تكاد تجزم بأن الزمخشري قائل بالترادف، ولا تستفزك هذه الاحتمالات لأنها كسراب بقيعة، نعم، هذا القول بعيد منه، وهو شيخ العربية، وفتاها، فالحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن المدح يكون على غير الاختياري، وكأنه لذلك لم يقل عز شأنه: المدح لله، كما قالوا إظهارا، لأن الله تعالى فاعل مختار، وفي ذلك من الترغيب والترهيب المناسبين لمقام البعثة والتبليغ ما لا يخفى، وأما الشكر فهو أيضا مغاير للحمد، إلا أن بعضهم خصه بالعمل، والحمد بالقول، وبعض جعله على النعم الظاهرة، والآخر على النعم الباطنة، وادعى آخرون اختصاصه بفعل اللسان كالحمد في المشهور، إلا أنه على النعمة، وإليه يشير كلام الراغب، والمعروف أنه ما كان في مقابلتها قولا باللسان، وعملا وخدمة بالأركان، واعتقادا ومحبة بالجنان، وقول الزمخشري الطيبي: إن هذا عرف أهل الأصول، فإنهم يقولون: واجب، ويريدون منه وجوب العبادة، وهي لا تتم إلا بهذه الثلاثة، وإلا فالشكر اللغوي ليس إلا باللسان، غير طيب، فإن ظاهر الكتاب والسنة إطلاق الشكر على غير اللسان، قال تعالى: شكر المنعم اعملوا آل داود شكرا وروى عن الطبراني النواس بن سمعان فلو لم يفهموا رضي الله تعالى عنهم إطلاق الشكر على العمل لم ينتظروه، وزاد بعضهم في أقسام الشكر رابعا، وهو شكر الله تعالى بالله، فلا يشكره حق شكره إلا هو، ذكره صاحب التجريد، وأنشد: أن ناقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الجدعاء سرقت، فقال: (لئن ردها الله تعالى علي لأشكرن ربي) فلما ردت قال: (الحمد لله)، فانتظروا هل يحدث صوما أو صلاة، فظنوا أنه نسي فقالوا له : فقال: (ألم [ ص: 71 ] أقل: الحمد لله؟!)
وشكري ذوي الإحسان بالقلب تارة وبالقول أخرى ثم بالعمل الأثنى
وشكري لربي لا بقلبي وطاعتي ولا بلساني بل به شكرنا عنا
وأرسلها العراك ولم يذدها ولم يشفق على نفض الدخال
وإن حدثوا عنها فكلي مسامع وكلي إذا حدثتهم ألسن تتلو