وأما الخبر فيمن { فإن أحدكم لا يدري أين باتت استيقظ من نومه فيغسل يده ثلاثا قبل أن يدخلها في وضوئه } ، فإنهم كلهم مخالفون له ، وقائلون إن هذا لا يجب على المستيقظ من نومه . وقلنا نحن بل هو واجب عليه . وقالوا كلهم إن النجاسات [ ص: 156 ] التي احتجوا بهذه الأخبار في قبول الماء لها وفرقوا بها بين ورود النجاسة على الماء وبين ورود الماء على النجاسة فإنها تزال بغسلة واحدة . وهذا خلاف ما في هذين الخبرين جهارا ، لأن في أحدهما تطهير الإناء بسبع غسلات أولاهن بالتراب وفي الآخر تطهير اليد بثلاث غسلات ، وهم لا يقولون بهذا في النجاسات ، ولو كان هذان الخبران دليلين على قبول الماء للنجاسة لوجب أن يكون حكمهما مستعملا في إزالة النجاسات ، فبطل احتجاجهم بهذين الخبرين جملة ، والحمد لله .
ومن الباطل المتيقن أن يكون ما ظنت به النجاسة من اليد لا يطهر إلا بثلاث غسلات ، وإذا تيقنت النجاسة فيها اكتفي في إزالتها بغسلة واحدة ، فهذا قولهم الذي لا شنعة أشنع منه ، وهم يدعون إنفاذ حكم العقول في قياساتهم ، ولا حكم أشد منافرة للعقل من هذا الحكم ، ولو قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لسمعنا وأطعنا وقلنا : هو الحق ، لكن لما لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب إطراحه والرغبة عنه ، وأن نوقن بأنه الباطل ومن المحال أيضا أن يكون الأمر للمتنبه بغسل اليد ثلاثا خوف أن تقع على نجاسة ، إذ لو كان كذلك لكانت رجله في ذلك كيده ولكان باطن فخذيه وباطن أليتيه أحق بذلك من يده .
وأما فموافق لنا في الخبر أنه ليس دليلا على قبول الماء للنجاسة ، فبطل تعلقهم أيضا بهذا الخبر جملة ، وصح أنه حجة لنا عليهم ، والحمد لله رب العالمين ، فصح اتفاق جميعهم على أن هذين الخبرين لا يجعلان أصلا لسائر النجاسات ، وألا يقاس سائر النجاسات على حكمهما ، فبطل تعلقهم بهما . وأما حديث نهي البائل في الماء الراكد عن أن يتوضأ منه أو يغتسل ، فإنهم كلهم مخالفون له أيضا . أما مالك فإنه قال : إن كان الماء بركة إذا حرك طرفها الواحد لم يتحرك طرفها الآخر . فإنه لو بال فيها ما شاء أن يبول فله أن يتوضأ منها ويغتسل ، فإن كانت أقل من ذلك لم يكن له ولا لغيره أن يتوضأ منها ولا أن يغتسل فزاد في الحديث ما ليس فيه من تحريم ذلك على غير البائل ، وخالف الحديث فيما فيه بإباحته - في بعض أحوال كثرة الماء وقلته - للبائل فيه أن يتوضأ منه ويغتسل وكذلك قول أبو حنيفة في الماء إذا كان خمسمائة رطل أو أقل من خمسمائة رطل فخالف الحديث كما خالفه الشافعي ، وزاد فيه كما زاد أبو حنيفة ، وأما أبو حنيفة فخالفه [ ص: 157 ] كله . قال : إذا لم يتغير الماء ببوله فله أن يتوضأ منه ويغتسل ، وقال في بعض أقواله إذا كان كثيرا . فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة لمخالفتهم له . وأما نحن فأخذنا به كما ورد ، ولله الحمد كثيرا . مالك
وأما حديث الفأر في السمن فإنهم كلهم خالفوه ; لأن أبا حنيفة ومالكا أباحوا الاستصباح به ، وفي الحديث { والشافعي لا تقربوه } وأباح بيعه ، فبطل تعلقهم بجميع هذه الآثار وصح خلافهم لها ، وأنها حجة لنا عليهم . أبو حنيفة
فإن قيل : فما معنى هذه الآثار إن كانت لا تدل على قبول الماء النجاسة وما فائدتها ؟ قلنا : معناها ما اقتضاه لفظها ، لا يحل لأحد أن يقول إنسانا من الناس ما لا يقتضيه كلامه ، فكيف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء الوعيد الشديد على من قوله ما لم يقل . وأما فائدتها فهي أعظم فائدة ، وهي دخول الجنة بالطاعة لها ، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه .
وأما حديث القلتين فلا حجة لهم فيه أصلا . أول ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحد مقدار القلتين ، ولا شك في أنه عليه السلام لو أراد أن يجعلهما - حدا بين ما يقبل النجاسة وبين ما لا يقبلها لما أهمل أن يحدها لنا بحد ظاهر لا يحيل ، وليس هذا مما يوجب على المرء ويوكل فيه إلى اختياره ، ولو كان ذلك لكانت كل قلتين - صغرتا أو كبرتا - حدا في ذلك . فأما وأصحابه فقالوا : القلة القامة ، ومع ذلك فقد خالفوا هذا الخبر - على أن نسلم لهم تأويلهم الفاسد - لأن البئر وإن كان فيها قامتان أو ثلاث فإنها عندهم تنجس . وأما أبو حنيفة فليس حده في القلتين بأولى من حد غيره ممن فسر القلتين بغير تفسيره وكل قول لا برهان له فهو باطل . وأما نحن فنقول بهذا الخبر حقا ونقول : إن الماء إذا بلغ قلتين لم ينجس ولم يقبل الخبث والقلتان ما وقع عليه في اللغة اسم قلتين ، صغرتا أو كبرتا ، ولا خلاف في أن القلة التي تسع عشرة أرطال ماء تسمى عند الشافعي العرب قلة . وليس في هذا الخبر ذكر لقلال هجر أصلا ، ولا شك في أن بهجر قلالا صغارا وكبارا . فإن قيل إنه صلى الله عليه وسلم قد ذكر قلال هجر في حديث الإسراء . قلنا : نعم ، وليس ذلك يوجب أنه صلى الله عليه وسلم متى ما ذكر قلة فإنما أراد من قلال هجر ، وليس تفسير [ ص: 158 ] للقلتين بأولى من تفسير ابن جريج الذي قال : هما جرتان ، وتفسير مجاهد الحسن كذلك : إنها أي جرة كانت . وليس في قوله صلى الله عليه وسلم هذا دليل ولا نص على أن ما دون القلتين ينجس ويحمل الخبث ومن زاد هذا في الخبر فقد قوله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل فوجب طلب حكم ما دون القلتين من غير هذا الخبر ، فنظرنا فوجدنا ما حدثنا حمام قال : ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا محمد بن وضاح ثنا أبو علي عبد الصمد بن أبي سكينة - وهو ثقة - ثنا عبد العزيز بن أبي حازم أبو تمام عن أبيه عن قال { سهل بن سعد الساعدي } . قالوا يا رسول الله إنا نتوضأ من بئر بضاعة وفيها ما ينجي الناس والحائض والجيف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الماء لا ينجسه شيء
حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور أخبرنا ثنا وهب بن مسرة ثنا ابن وضاح ثنا أبو بكر بن أبي شيبة عن محمد بن فضيل أبي مالك الأشجعي عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { حذيفة } فعم عليه السلام كل ماء ولم يخص ماء من ماء . فقالوا : فإنكم تقولون إن فضلنا على الناس بثلاث - وذكر صلى الله عليه وسلم فيها - وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء فإنه ينجس ، فقد خالفتم هذين الخبرين . قلنا : معاذ الله من هذا أن نقوله ، بل الماء لا ينجس أصلا ، ولكنه طاهر بحسبه ، لو أمكننا تخليصه من جملة المحرم علينا لاستعملناه ، ولكنا لما لم نقدر على الوصول إلى استعماله كما أمرنا سقط عنا حكمه ، وهكذا كل شيء الماء إذا ظهرت فيه النجاسة فغيرت لونه وطعمه وريحه ، فالثوب طاهر كما كان ، إن أمكننا إزالة النجس عنه صلينا فيه ، وإن لم يمكنا الصلاة فيه إلا باستعمال النجس المحرم سقط عنا حكمه ، ولم تبطل الصلاة للباس ذلك الثوب ، لكن لاستعمال النجاسة التي فيه ، وكذلك خبز دهن بودك خنزير ، وهكذا كل شيء حاشا ما جاء [ ص: 159 ] النص بتحريمه بعينه فتجب الطاعة له ، كالمائع يلغ فيه الكلب في الإناء ، وكالماء الراكد للبائل ، وكالسمن الذائب يقع فيه الفأر الميت ، ولا مزيد . وقد روينا من طريق كثوب طاهر صب عليه خمر أو دم أو بول أن قتادة قال : لو اختلط الماء بالدم لكان الماء طهورا ، وبالله تعالى التوفيق . ابن مسعود
ولو كان الماء ينجس بملاقاة النجاسة للزم إذا بال إنسان في ساقية ما ألا يحل لأحد أن يتوضأ بما هو أسفل من موضع البائل ، لأن ذلك الماء الذي فيه البول أو العذرة منه يتوضأ بلا شك ، ولما تطهر فم أحد من دم أو قيء فيه ، لأن الماء إذا دخل في الفم النجس تنجس وهكذا أبدا ، والمفرق بين الماء وسائر المائعات في ذلك مبطل متحكم قائل بلا برهان . وهذا باطل .
قال : وأما تشنيعهم علينا بالفرق بين البائل المذكور في الحديث وغير البائل الذي لم يذكر فيه ، وبين الفأر يقع في السمن المذكور في الحديث وبين وقوعه في الزيت أو وقوع حرام ما في السمن إذ لم يذكر شيء من ذلك في الحديث فتشنع فاسد عائد عليهم ، ولو تدبروا كلامهم لعلموا أنهم مخطئون في التسوية بين البائل الذي ورد فيه النص وغير البائل الذي لا نص فيه ، وهل فرقنا بين البائل وغير البائل إلا كفرقهم معنا بين الماء الراكد المذكور في الحديث وغير الراكد الذي لم يذكر فيه ؟ وإلا فليقولوا لنا ما الذي أوجب الفرق بين الماء الراكد وغير الراكد ولم يوجب الفرق بين البائل وغير البائل ؟ إلا أن ما ذكر في الحديث لا يتعدى بحكمه إلى ما لم يذكر فيه بغير نص ، وكفرقهم بين الغاصب للماء فيحرم عليه شربه واستعماله ، وهو حلال لغير الغاصب له ، وهل البائل وغير البائل إلا كالزاني وغير الزاني والسارق وغير السارق والمصلي وغير المصلي ؟ لكل ذي اسم منها حكمه ، وهل الشنعة والخطأ الظاهر إلا أن يرد نص في البائل فيحمل ذلك الحكم على غير البائل وهل هذا إلا كمن حمل حكم السارق على غير السارق ، وحكم الزاني على غير الزاني ، وحكم المصلي على غير المصلي ، وهكذا في جميع الشريعة ونعوذ بالله من هذا . أبو محمد علي
ولو أنصفوا أنفسهم لأنكر المالكيون والشافعيون على أنفسهم تفريقهم بين الكف فينقض الوضوء ، وبين مس بظاهر الكف فلا ينقض الوضوء ، ولأنكر المالكيون على أنفسهم مس الذكر بباطن [ ص: 160 ] وما فرق الله تعالى بين فرجيهما في التحليل والتحريم والصداق والحد ، ولأنكر المالكيون والشافعيون تفريقهم بين حكم الشريفة وحكم الدنية في النكاح ، وهؤلاء المالكيون يفرقون معنا بين ما أدخل فيه الكلب لسانه وبين ما أدخل فيه ذنبه المبلول من الماء ، ويفرقون بين بول البقرة وبول الفرس ، ولا نص في ذلك ، بل أشنع من ذلك تفريقهم بين حكم التمر وحكم البسر في العرايا . وبين تفريقهم بين خرء الدجاجة المخلاة وخرئها إذا كانت مقصورة وبين بولها إذا شربت ماء طاهرا ، وفرقوا بين الفول وبين نفسه ، فجعلوه في الزكاة مع الجلبان صنفا واحدا ، وجعلوهما في البيوع صنفين ، وكل ذي عقل يدري أن الفرق بين البائل والمتغوط بنص جاء في أحدهما دون الآخر أوضح من الفرق بين الفول أمس والفول اليوم ، وبين الفول ونفسه بغير نص ولا دليل أصلا . بول الشاة إذا شربت ماء نجسا