وقال في مالك : إنه ينزف إلا أن تغلبهم كثرة الماء ، ولا يؤكل طعام عجن به ، ويغسل من الثياب ما غسل به ، ويعيد كل من توضأ بذلك الماء أو اغتسل به صلاة صلاها ما كان في الوقت . قال فإن وقعت في البئر الوزغة أو الفأرة فماتتا إنه يستقى منها حتى تطيب ، ينزفون منها ما استطاعوا ، فلو البئر تقع فيها الدجاجة فتموت فيها فإن من يتوضأ منه يعيد في الوقت فقط ، فلو وقع شيء من ذلك في مائع غير الماء لم يحل أكله ، تغير أو لم يتغير ، فإن وقع خمر في ماء وأعاد من توضأ به أبدا ، فلو تغير الماء من النجاسة المذكورة أو من شيء طاهر ، أعاد من توضأ به وصلى أبدا ، فلو بل في الماء خبز لم يجز الوضوء منه ، لم يضره ، ويؤكل كل ذلك ويشرب ، وذلك نحو الزنبور والعقرب والصرار والخنفساء والسرطان والضفدع وما أشبه ذلك . وقال مات شيء من خشاش الأرض في ماء أو في طعام أو شراب أو غير ذلك ابن القاسم صاحبه : قليل الماء يفسده قليل النجاسة ، ويتيمم من لم يجد سواه ، فإن توضأ وصلى به لم يعد إلا في الوقت .
قال : إن كان فرق بهذا القول بين ما ماتت فيه الوزغة والفأرة وبين ما ماتت فيه الدجاجة فهو خطأ ، لأنه قول بلا برهان ، وإن كان ساوى بين كل ذلك فقد تناقض قوله ، إذ منع من أكل الطعام المعمول بذلك الماء ، وإذ أمر بغسل ما مسه من الثياب ، ثم لم يأمر بإعادة الصلاة إلا في الوقت ، وهذا عنده اختيار لا إيجاب ، فإن كانت الصلاة التي يأمره بأن يأتي بها في الوقت تطوعا عنده ، فأي معنى للتطوع في إصلاح ما فسد من صلاة الفريضة ؟ فإن قال إن لذلك معنى ، قيل له : فما الذي يفسد ذلك المعنى إذا خرج الوقت ؟ وما الوجه الذي رغبتموه من أجله في أن يتطوع في الوقت ، ولم ترغبوه في التطوع بعد الوقت ؟ وإن كانت الصلاة التي يأمره أن يأتي بها في الوقت فرضا ، فكيف يجوز أن يصلي ظهرين ليوم واحد في وقت واحد ؟ وما الذي أسقطها عنه إذا خرج الوقت ؟ وهو يرى أن الصلاة الفرض يؤديها التارك لها فرضا ولا بد وإن خرج الوقت . [ ص: 152 ] ثم العجب من تفريق علي أبي حنيفة بين ومالك وهذا فرق لم يأت به قط قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة ، ولا قول صاحب ولا قياس ولا معقول ، والعجب من تحديدهم ذلك بما له دم وبالعيان ندري أن البرغوث له دم والذباب له دم . فإن قالوا : أردنا ما له دم سائل ، قيل : وهذا زائد في العجب ومن أين لكم هذا التقسيم بين الدماء في الميتات ؟ وأنتم مجمعون معنا ومع جميع أهل الإسلام على أن كل ميتة فهي حرام ، وبذلك جاء القرآن ، والبرغوث الميت والذباب الميت والعقرب الميت والخنفساء الميت حرام بلا خلاف من أحد ، فمن أين وقع لكم هذا التفريق بين أصناف الميتات المحرمات ؟ فقال بعضهم : قد أجمع المسلمون على ما لا دم له يموت في الماء وفي . المائعات وبين ما له دم يموت فيها ، وعلى أكل الباقلاء المطبوخ وفيه الدقش الميت وعلى أكل العسل وفيه النحل الميت ، وعلى أكل الجبن والتين كذلك ، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقل الذباب في الطعام . قيل لهم وبالله تعالى التوفيق : إن كان الإجماع صح بذلك كما ادعيتم ، وكان في الحديث المذكور دليل على جواز أكل أكل الخل وفيه الدود الميت كما زعمتم ، فإن وجه العمل في ذلك أحد وجهين : إما أن تقتصروا على ما صح به الإجماع من ذلك وجاء به الخبر خاصة . ويكون ما عدا ذلك بخلافه ، إذ أصلكم أن ما لاقى الطاهرات من الأنجاس فإنه ينجسها ، وما خرج عن أصله عندكم فإنكم لا ترون القياس عليه سائغا أو تقيسوا على الذباب كل طائر ، وعلى الدقش كل حيوان ذي أرجل ، وعلى الدود كل منساب . ومن أين وقع لكم أن تقيسوا على ذلك ما لا دم له ؟ فأخطأتم مرتين : إحداهما أن الذباب له دم ، والثانية اقتصاركم بالقياس على ما لا دم له ، دون أن تقيسوا على الذباب كل ذي جناحين أو كل ذي روح . فإن قالوا : قسنا ما عدا ذلك على حديث الفأر في السمن . قيل لهم : ومن أين لكم عموم القياس على ذلك الخبر ؟ فهلا قستم على الفأر كل ذي ذنب طويل ، أو كل [ ص: 153 ] حشرة من غير السباع وهذا ما لا انفصال لهم منه أصلا والعجب كله من حكمهم أن ما كان له دم سائل فهو النجس ، فيقال لهم : فأي فرق بين تحريم الله تعالى الميتة وبين تحريم الله تعالى الدم ؟ فمن أين جعلتم النجاسة للدم دون الميتة ؟ وأغرب ذلك أن الميتة لا دم لها بعد الموت فظهر فساد قولهم بكل وجه . الطعام يموت فيه الذباب
وأما قول ابن القاسم فظاهر الخطأ ، لأنه رأى التيمم أولى من الماء النجس . فوجب أن المستعمل له ليس متوضئا ، ثم لم ير الإعادة على من صلى كذلك إلا في الوقت ، وهو عنده مصل بغير وضوء . وقال : إذا كان الماء غير جار ، فسواء البئر والإناء والبقعة وغير ذلك إذا كان أقل من خمسمائة رطل بالبغدادي ، بما قل أو كثر ، فإنه ينجسه كل نجس وقع فيه وكل ميتة ، سواء ما له دم سائل وما ليس له دم سائل ، كل ذلك ميتة نجس يفسد ما وقع فيه ، فإن كان خمسمائة رطل لم ينجسه شيء مما وقع فيه إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه فإن كان ذلك في مائع غير الماء نجس كله وحرم استعماله ، كثيرا كان أو قليلا . وقال الشافعي صاحبه : جميع المائعات بمنزلة الماء ، إذا كان المائع خمسمائة رطل لم ينجسه شيء مما وقع فيه ، إلا أن يغير لونه أو طعمه أو ريحه ، فإن كان أقل من خمسمائة رطل ينجس . ولم يختلف أصحاب أبو ثور - وهو الواجب ولا بد على أصله - في أن الشافعي فإنه كله نجس حرام ولا يجوز الوضوء فيه ، وإن لم يظهر لذلك فيه أثر ، فلو وقع فيه رطل بول أو خمر أو نجاسة ما فلم يظهر لها فيه أثر ، فالماء طاهر يجزئ الوضوء به ويجوز شربه . إناء فيه خمسمائة رطل من ماء غير أوقية فوقع فيه نقطة بول أو خمر أو نجاسة ما
واحتج أصحاب لقولهم هذا بالحديث المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في { الشافعي } ، { غسل الإناء من ولوغ الكلب وهرقه } ، { وبأمره صلى الله عليه وسلم من استيقظ من نومه بغسل يده ثلاثا قبل أن يدخلها في وضوئه فإنه لا يدري أين باتت يده } ، وبقوله صلى الله عليه وسلم : { وبأمره صلى الله عليه وسلم البائل في الماء ألا يتوضأ منه ولا يغتسل } . إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء ولم يقبل الخبث
[ ص: 154 ] قالوا : فدلت هذه الأحاديث على أن الماء يقبل النجاسة ما لم يبلغ حدا ما . قالوا فكانت القلتان حدا منصوصا عليه فيما لا يقبل النجاسة منه ، واحتج بهذا أيضا أصحاب في قولهم . ثم اختلفوا في تحديد القلتين ، فقال بعض أصحاب أبي حنيفة : القلة أعلى الشيء فمعنى القلتين ههنا القامتان ، وقال أبي حنيفة - بما روى عن الشافعي : إن القلتين من قلال هجر ، وإن قلال هجر القلة الواحدة قربتان أو قربتان وشيء ، قال ابن جريج : القربة مائة رطل ، وقال الشافعي بذلك ، ولم يحد في القلتين حدا أكثر من أنه قال مرة : القلتان أربع قرب ، ومرة قال : خمس قرب ، ولم يحدها بأرطال . وقال أحمد بن حنبل إسحاق : القلتان ست قرب ، وقال وكيع : القلة الجرة وهو قول ويحيى بن آدم ، أي جرة كانت فهي قلة ، وهو قول الحسن البصري مجاهد ، قال وأبي عبيد القلة الجرة ، ولم يحد مجاهد في القلة حدا . أبو عبيد
وأظرف شيء فإن احتجوا في ذلك بأن الماء الجاري إذا خالطته النجاسة مضى وخلفه طاهر : فقد علموا يقينا أن الذي خالطته النجاسة إذا انحدر فإنما ينحدر كما هو ، وهم يبيحون لمن تناوله في انحداره فتطهر به أن يتوضأ منه ويغتسل ويشرب ، والنجاسة قد خالطته بلا شك ، فوقعوا في نفس ما شنعوا وأنكروا . فإن قالوا : لم نحتج في الفرق بين الماء الجاري وغير الجاري إلا بأن النهي إنما ورد عن الماء الراكد الذي يبال فيه . قلنا : صدقتم ، وهذا هو الحق وبذلك الأمر نفسه في ذلك الخبر نفسه فرقنا نحن بين من ورد عليه النهي وهو البائل وبين من لم يرد عليه النهي وهو غير البائل ، ولا سبيل إلى دليل يفرق بين ما أخذوا به من ذلك الخبر وبين ما تركوا منه . وبالله تعالى التوفيق . تفريقهم بين الماء الجاري وغير الجاري
واحتجوا بحديث الفأرة في السمن فيما ادعوه من قبول ما عدا الماء للنجاسة [ ص: 155 ] قال : هذا كل ما احتجوا به ، ما لهم حجة أصلا غير ما ذكرنا ، وكل هذه الأحاديث صحاح ثابتة لا مغمز فيها . وكلها لا حجة لهم في شيء منها . وكلها حجة عليهم لنا ، على ما نبين إن شاء الله عز وجل وبه تعالى نستعين . علي
فأول ذلك أنهم كلهم أقوالهم مخالفة لما في هذه الأخبار ، ونحن نقول بها كلها والحمد لله على ذلك .
أما حديث ولوغ الكلب في الإناء فإن وأصحابه خالفوه جهارا ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسله سبع مرات أولاهن بالتراب ، فقالوا هم : لا بل مرة واحدة فقط . فسقط تعلقهم بقول هم أول من عصاه وخالفه فتركوا ما فيه وادعوا فيه ما ليس فيه وأخطئوا مرتين . أبا حنيفة
أما فقال : لا يهرق إلا أن يكون ماء - فخالف الحديث أيضا علانية - وهو وأصحابه موافقون لنا على أن هذا الخبر لا يتعدى به إلى سواه وأنه لا يقاس شيء من النجاسات بولوغ الكلب ، وصدقوا في ذلك إذ من ادعى خلاف هذا فقد زاد في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله عليه السلام قط . مالك
وأما فإنه قال : إن كان ما في الإناء من الماء خمسمائة رطل فلا يهرق ولا يغسل الإناء . وإن كان فيه غير الماء أهرق بالغا ما بلغ . هذا ليس في الحديث أصلا لا بنص ولا بدليل ، فقد خالف هذا الخبر وزاد فيه ما ليس فيه من أنه إن أدخل فيه يده أو رجله أو ذنبه أهرق وغسل سبع مرات إحداهن بالتراب ، وهذه زيادة ليست في كلامه عليه السلام أصلا ، وقال : إن الشافعي كان في حكمه حكم ما ولغ فيه الكلب : يغسل سبعا إحداهن بالتراب . قال فإن ولغ فيه سبع لم يغسل أصلا ولا أهرق . فقاس الخنزير على الكلب ، ولم يقس السباع على الكلب - وهو بعضها - وإنما حرم الكلب بعموم النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع . فقد ظهر خلاف أقوالهم لهذا الخبر وموافقتنا نحن لما فيه ، فهو حجة لنا عليهم ، والحمد لله رب العالمين كثيرا ، وظهر فساد قياسهم وبطلانه ، وأنه دعاوى لا دليل على شيء منها . ولغ في الإناء خنزير