فصل
وأما العقود من المعاملات المالية والنكاحية وغيرها
فنذكر فيها قواعد جامعة عظيمة المنفعة ، [ فإن ذلك فيها أيسر منه في العبادات] .
فمن ذلك : صفة العقود . فالفقهاء فيها على ثلاثة أقوال :
أحدها : أن
nindex.php?page=treesubj&link=27654الأصل في العقود : أنها لا تصح إلا بالصيغ والعبارات التي قد يخصها بعض الفقهاء باسم الإيجاب والقبول ، سواء في ذلك : البيع ، والإجارة ، والهبة ، والنكاح ، والوقف ، والعتق ، وغير ذلك . وهذا ظاهر قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وهو قول في مذهب
أحمد ، يكون تارة رواية منصوصة في بعض المسائل ، كالبيع والوقف ، ويكون تارة رواية مخرجة ، كالهبة والإجارة .
[ ص: 154 ] ثم هؤلاء يقيمون الإشارة مقام العبارة عند العجز عنها ، كما في الأخرس .
ويقيمون الكتابة أيضا مقام العبارة عند الحاجة . وقد يستثنون مواضع دلت النصوص على جوازها إذا مست الحاجة إليها . كما في
nindex.php?page=treesubj&link=27283الهدي إذا عطب دون محله فإنه ينحر ثم يصبغ نعله المعلق في عنقه بدمه علامة للناس ، ومن أخذه ملكه . وكذلك الهدية ونحو ذلك ، لكن الأصل عندهم هو اللفظ ؛ لأن الأصل في العقود هو التراضي ، المذكور في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) [ النساء : 29] ، وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=4فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا ) [ النساء : 4] . والمعاني التي في النفس لا تنضبط إلا بالألفاظ التي جعلت لإبانة ما في القلب ، إذ الأفعال من المعاطاة ونحوها : تحتمل وجوها كثيرة ؛ ولأن العقود من جنس الأقوال ، فهي في المعاملات كالذكر والدعاء في العبادات .
والقول الثاني : أنها
nindex.php?page=treesubj&link=27654تصح بالأفعال ، [فيما] كثر عقده بالأفعال ، كالمبيعات [المحقرات] ، وكالوقف في مثل من بنى مسجدا وأذن للناس في الصلاة فيه ، أو سبل أرضا للدفن فيها ، أو بنى مطهرة وسبلها للناس ، وكبعض أنواع الإجارة : كمن دفع ثوبه إلى غسال أو خياط يعمل بالأجر ، أو ركب سفينة ملاح ، وكالهدية ، ونحو ذلك . فإن هذه العقود لو لم تنعقد بالأفعال الدالة عليها لفسدت أكثر أمور الناس ، ولأن الناس من لدن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى يومنا هذا ما زالوا يتعاقدون في مثل هذه الأشياء بلا لفظ ، بل بالفعل الدال على المقصود .
وهذا هو الغالب على أصول
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة ، وهو قول في مذهب
[ ص: 155 ] أحمد ووجه في مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، بخلاف المعاطاة في الأموال الجليلة فإنه لا حاجة إليه ، ولم يجر به العرف .
والقول الثالث : أن
nindex.php?page=treesubj&link=28264العقود تنعقد بكل ما دل على مقصودها ، من قول أو فعل وبكل ما عده الناس بيعا أو إجارة . فإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والأفعال . وليس لذلك حد مستقر ، لا في شرع ولا في لغة ، بل يتنوع بتنوع اصطلاح الناس ، كما تتنوع لغاتهم ، فإن ألفاظ البيع والإجارة في لغة العرب ليست هي الألفاظ التي في لغة
الفرس أو
الروم أو
الترك أو
البربر أو
الحبشة ، بل قد تختلف ألفاظ اللغة الواحدة .
ولا يجب على الناس التزام نوع معين من الاصطلاحات في المعاملات . ولا يحرم عليهم التعاقد بغير ما يتعاقد به غيرهم إذا كان ما تعاقدوا به دالا على مقصودهم . وإن كان قد يستحب بعض الصفات ، وهذا هو الغالب على أصول
مالك وظاهر مذهب
أحمد ؛ ولهذا يصحح في ظاهر مذهبه
nindex.php?page=treesubj&link=4497بيع المعاطاة مطلقا ، وإن كان قد وجد اللفظ من أحدهما والفعل من الآخر ، بأن يقول : خذ هذا بدراهم فيأخذه ، أو يقول : أعطني خبزا بدراهم ، فيعطيه ما يقبضه ، أو لم يوجد لفظ من أحدهما ، بأن يضع الثمن ويقبض جرزة البقل أو الحلواء ، أو غير ذلك ، كما يتعامل به غالب الناس ، أو يضع المتاع له ليوضع بدله ، فإذا وضع البدل الذي يرضى به أخذه ، كما يحكيه التجار عن عادة بعض أهل المشرق ، فكل ما عده الناس بيعا فهو بيع ، وكذلك في الهبة كل ما عده الناس هبة [ فهو هبة مثل الهدية ] .
[ ص: 156 ]
فَصْلٌ
وَأَمَّا الْعُقُودُ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ وَالنِّكَاحِيَّةِ وَغَيْرِهَا
فَنَذْكُرُ فِيهَا قَوَاعِدَ جَامِعَةً عَظِيمَةَ الْمَنْفَعَةِ ، [ فَإِنَّ ذَلِكَ فِيهَا أَيْسَرُ مِنْهُ فِي الْعِبَادَاتِ] .
فَمِنْ ذَلِكَ : صِفَةُ الْعُقُودِ . فَالْفُقَهَاءُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=27654الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ : أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إِلَّا بِالصِّيَغِ وَالْعِبَارَاتِ الَّتِي قَدْ يَخُصُّهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِاسْمِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ : الْبَيْعُ ، وَالْإِجَارَةُ ، وَالْهِبَةُ ، وَالنِّكَاحُ ، وَالْوَقْفُ ، وَالْعِتْقُ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَهَذَا ظَاهِرُ قَوْلِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ
أحمد ، يَكُونُ تَارَةً رِوَايَةً مَنْصُوصَةً فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ ، كَالْبَيْعِ وَالْوَقْفِ ، وَيَكُونُ تَارَةً رِوَايَةً مُخَرَّجَةً ، كَالْهِبَةِ وَالْإِجَارَةِ .
[ ص: 154 ] ثُمَّ هَؤُلَاءِ يُقِيمُونَ الْإِشَارَةَ مَقَامَ الْعِبَارَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهَا ، كَمَا فِي الْأَخْرَسِ .
وَيُقِيمُونَ الْكِتَابَةَ أَيْضًا مَقَامَ الْعِبَارَةِ عِنْدَ الْحَاجَةِ . وَقَدْ يَسْتَثْنُونَ مَوَاضِعَ دَلَّتِ النُّصُوصُ عَلَى جَوَازِهَا إِذَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهَا . كَمَا فِي
nindex.php?page=treesubj&link=27283الْهَدْيِ إِذَا عَطِبَ دُونَ مَحِلِّهِ فَإِنَّهُ يُنْحَرُ ثُمَّ يُصْبَغُ نَعْلُهُ الْمُعَلَّقُ فِي عُنُقِهِ بِدَمِهِ عَلَامَةً لِلنَّاسِ ، وَمَنْ أَخَذَهُ مَلَكَهُ . وَكَذَلِكَ الْهَدِيَّةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، لَكِنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمْ هُوَ اللَّفْظُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ هُوَ التَّرَاضِي ، الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=29إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) [ النِّسَاءِ : 29] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=4فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا ) [ النِّسَاءِ : 4] . وَالْمَعَانِي الَّتِي فِي النَّفْسِ لَا تَنْضَبِطُ إِلَّا بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي جُعِلَتْ لِإِبَانَةِ مَا فِي الْقَلْبِ ، إِذِ الْأَفْعَالُ مِنَ الْمُعَاطَاةِ وَنَحْوِهَا : تَحْتَمِلُ وُجُوهًا كَثِيرَةً ؛ وَلِأَنَّ الْعُقُودَ مِنْ جِنْسِ الْأَقْوَالِ ، فَهِيَ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا
nindex.php?page=treesubj&link=27654تَصِحُّ بِالْأَفْعَالِ ، [فِيمَا] كَثُرَ عَقْدُهُ بِالْأَفْعَالِ ، كَالْمَبِيعَاتِ [الْمُحَقَّرَاتِ] ، وَكَالْوَقْفِ فِي مِثْلِ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ ، أَوْ سَبَّلَ أَرْضًا لِلدَّفْنِ فِيهَا ، أَوْ بَنَى مِطْهَرَةً وَسَبَّلَهَا لِلنَّاسِ ، وَكَبَعْضِ أَنْوَاعِ الْإِجَارَةِ : كَمَنْ دَفَعَ ثَوْبَهُ إِلَى غَسَّالٍ أَوْ خَيَّاطٍ يَعْمَلُ بِالْأَجْرِ ، أَوْ رَكِبَ سَفِينَةَ مَلَّاحٍ ، وَكَالْهَدِيَّةِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَوْ لَمْ تَنْعَقِدْ بِالْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا لَفَسَدَتْ أَكْثَرُ أُمُورِ النَّاسِ ، وَلِأَنَّ النَّاسَ مِنْ لَدُنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَى يَوْمِنَا هَذَا مَا زَالُوا يَتَعَاقَدُونَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِلَا لَفْظٍ ، بَلْ بِالْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى الْمَقْصُودِ .
وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أُصُولِ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة ، وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ
[ ص: 155 ] أحمد وَوَجْهٌ فِي مَذْهَبِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ ، بِخِلَافِ الْمُعَاطَاةِ فِي الْأَمْوَالِ الْجَلِيلَةِ فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ ، وَلَمْ يَجْرِ بِهِ الْعُرْفُ .
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28264الْعُقُودَ تَنْعَقِدُ بِكُلِّ مَا دَلَّ عَلَى مَقْصُودِهَا ، مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَبِكُلِّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا أَوْ إِجَارَةً . فَإِنِ اخْتَلَفَ اصْطِلَاحُ النَّاسِ فِي الْأَلْفَاظِ وَالْأَفْعَالِ انْعَقَدَ الْعَقْدُ عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ بِمَا يَفْهَمُونَهُ بَيْنَهُمْ مِنَ الصِّيَغِ وَالْأَفْعَالِ . وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مُسْتَقِرٌّ ، لَا فِي شَرْعٍ وَلَا فِي لُغَةٍ ، بَلْ يَتَنَوَّعُ بِتَنَوُّعِ اصْطِلَاحِ النَّاسِ ، كَمَا تَتَنَوَّعُ لُغَاتُهُمْ ، فَإِنَّ أَلْفَاظَ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَيْسَتْ هِيَ الْأَلْفَاظُ الَّتِي فِي لُغَةِ
الْفُرْسِ أَوِ
الرُّومِ أَوِ
التُّرْكِ أَوِ
الْبَرْبَرِ أَوِ
الْحَبَشَةِ ، بَلْ قَدْ تَخْتَلِفُ أَلْفَاظُ اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ .
وَلَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ الْتِزَامُ نَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الِاصْطِلَاحَاتِ فِي الْمُعَامَلَاتِ . وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ التَّعَاقُدُ بِغَيْرِ مَا يَتَعَاقَدُ بِهِ غَيْرُهُمْ إِذَا كَانَ مَا تَعَاقَدُوا بِهِ دَالًّا عَلَى مَقْصُودِهِمْ . وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسْتَحَبُّ بَعْضُ الصِّفَاتِ ، وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أُصُولِ
مالك وَظَاهِرِ مَذْهَبِ
أحمد ؛ وَلِهَذَا يُصَحَّحُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ
nindex.php?page=treesubj&link=4497بَيْعُ الْمُعَاطَاةِ مُطْلَقًا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وُجِدَ اللَّفْظُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْفِعْلُ مِنَ الْآخَرِ ، بِأَنْ يَقُولَ : خُذْ هَذَا بِدَرَاهِمَ فَيَأْخُذُهُ ، أَوْ يَقُولَ : أَعْطِنِي خُبْزًا بِدَرَاهِمَ ، فَيُعْطِيهِ مَا يَقْبِضُهُ ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ لَفْظٌ مِنْ أَحَدِهِمَا ، بِأَنْ يَضَعَ الثَّمَنَ وَيَقْبِضَ جِرْزَةَ الْبَقْلِ أَوِ الْحَلْوَاءَ ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ، كَمَا يَتَعَامَلُ بِهِ غَالِبُ النَّاسِ ، أَوْ يَضَعَ الْمَتَاعَ لَهُ لِيُوضَعَ بَدَلَهُ ، فَإِذَا وَضَعَ الْبَدَلَ الَّذِي يَرْضَى بِهِ أَخَذَهُ ، كَمَا يَحْكِيهِ التُّجَّارُ عَنْ عَادَةِ بَعْضِ أَهْلِ الْمَشْرِقِ ، فَكُلُّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ بَيْعًا فَهُوَ بَيْعٌ ، وَكَذَلِكَ فِي الْهِبَةِ كُلُّ مَا عَدَّهُ النَّاسُ هِبَةً [ فَهُوَ هِبَةٌ مِثْلَ الْهَدِيَّةِ ] .
[ ص: 156 ]