وأما الذي فيه دية كاملة فالكلام فيه في موضعين : أحدهما في بيان والثاني في بيان شرائطه . سبب الوجوب
أما السبب فهو تفويت المنفعة المقصودة من العضو على الكمال ، وذلك في الأصل بأحد أمرين : إبانة العضو وإذهاب معنى العضو مع بقاء العضو صورة .
أما الأول فالأعضاء التي تتعلق بانتهاء كمال الدية أنواع ثلاثة : نوع لا نظير له في البدن ، ونوع في البدن منه اثنان ، ونوع في البدن منه أربعة ( أما ) الذي لا نظير له في البدن فستة أعضاء أحدها الأنف سواء استوعب جدعا أو قطع المارن منه وحده ، وهو ما لان من الأنف ، والثاني اللسان سواء استوعب قطعا أو قطع منه ما يذهب بالكلام كله ، والثالث الذكر سواء استوعب قطعا أو قطع الحشفة منه وحدها ، والأصل فيه ما روي عن أن رسول صلى الله عليه وسلم قال { سعيد بن المسيب } وروي أنه عليه الصلاة والسلام كتب في كتاب في النفس الدية وفي اللسان الدية وفي الذكر الدية وفي الأنف الدية وفي المارن الدية عمرو بن حزم { } ولأنه أبطل المنافع المقصودة من هذه الأعضاء ، والجمال أيضا من بعضها فالمقصود من الأنف الشم والجمال أيضا ، ومن اللسان الكلام ، ومن الذكر الجماع ، والحشفة يتعلق بها منفعة الإنزال ، وقد زال ذلك كله بالقطع . في النفس الدية وفي الأنف الدية وفي اللسان الدية
وإن كان ذهب بعض الكلام بقطع بعض اللسان دون بعض ففيه حكومة العدل لأنه لم يوجد تفويت المنفعة على سبيل الكمال ، وقيل تقسم الدية على عدد حروف الهجاء فيجب من الدية بقدر ما فات من الحروف .
ونقلت هذه القضية عن سيدنا رضي الله عنه لأن المقصود من اللسان هو الكلام ، وقد فات بعضه دون بعض فيجب من الدية بقدر الفائت منها لكن إنما يدخل في القسمة الحروف التي تفتقر إلى اللسان فأما ما لا يفتقر إلى اللسان من الشفوية والحلقية كالباء والفاء والهاء ونحوهما فلا تدخل في القسمة . علي
والرابع الصلب إذا احدودب بالضرب وانقطع الماء ، وهو المني ، فيه دية كاملة لوجود تفويت منفعة الجنس .
والخامس مسلك البول .
والسادس مسلك الغائط من المرأة إذا أفضاها إنسان فصارت لا تستمسك البول أو الغائط فعليه دية كاملة فإن صارت لا تستمسكهما فعليه لكل واحد منهما دية كاملة لأنه فوت منفعة مقصودة بالعضو على الكمال فيجب عليه كمال الدية ( وأما ) الأعضاء التي في البدن منها اثنان فالعينان ، والأذنان ، والشفتان ، والحاجبان إذا ذهب شعرهما ولم ينبت ، والثديان والحلمتان والأنثيان ، والأصل فيه ما روي عن أنه عليه الصلاة والسلام قال { ابن المسيب } ولأن في القطع كل اثنين من هذين العضوين تفويت منفعة الجنس منفعة مقصودة أوتفويت الجمال على الكمال كمنفعة البصر في العينين والبطش في اليدين والمشي في الرجلين والجمال في الأذنين والحاجبين إذا لم ينبتا والشفتين ومنفعة إمساك الريق في إحداهما وهي السفلى . وفي الأذنين الدية ، وفي العينين الدية ، وفي الرجلين الدية
والثديان وكاء للبن ، وفي الحلمتين منفعة الرضاع ، والأنثيان وكاء المني ( وأما ) الأعضاء التي منها أربعة في البدن فنوعان : أحدهما أشفار العينين ، وهي منابت الأهداب إذا لم تنبت لما في تفويتها من تفويت منفعة البصر والجمال أيضا على الكمال ، وفي كل شفر منها ربع الدية .
والثاني الأهداب ، وهي شعر الأشفار إذا لم تنبت لما قلنا ( وأما ) إذهاب معنى العضو مع بقاء صورته فنحو العقل والبصر والشم والذوق والجماع والإيلاد بأن ضرب على رأس إنسان فذهب عقله أو سمعه أو كلامه أو شمه أو ذوقه أو جماعه أو إيلاده بأن ضرب على ظهره فذهب ماء صلبه ، والأصل فيه ما روي عن سيدنا رضي الله عنه أنه قضى في رجل واحد [ ص: 312 ] بأربع ديات ، ضرب على رأسه فذهب عقله وكلامه وبصره وذكره لأنه فوت المنافع المقصودة عن هذه الأعضاء على سبيل الكمال ( أما ) العقل فلأن تفويته تفويت منافع الأعضاء كلها لأنه لا يمكن الانتفاع بها فيما وضعت له بفوت العقل . عمر
ألا ترى أن أفعال المجانين تخرج مخرج أفعال البهائم فكان إذهابه إبطالا للنفس معنى ( وأما ) السمع والبصر والكلام والشم والذوق والجماع والإيلاد فكل واحد منهما منفعة مقصودة ، وقد فوتها كلها .
ولو ضرب على رأس رجل فسقط شعره أو على رأس امرأة فسقط شعرها أو حلق لحية رجل أو نتفها أو حلق شعر امرأة ولم ينبت فإن كان حرا ففيه الدية عند أصحابنا رضي الله عنهم ، وعند فيه حكومة ( وجه ) قوله أنه لا يجب كمال الدية إلا بإتلاف النفس ; لأن الدية بدل النفس إلا أن الشرع ورد بذلك عند تفويت منفعة الجنس كما في قطع اليدين والرجلين ونحو ذلك ; لأن تفويت منفعة الجنس يجعل النفس تالفة من وجه ، ولم يوجد ذلك في حلق الشعر فبقي الحكم فيه مردودا إلى الأصل ، ولهذا لم يجب في حلق شعر سائر البدن ( ولنا ) أن الشعر للنساء والرجال جمال كامل . الشافعي
وكذا اللحية للرجال .
والدليل عليه ما روي من الحديث { أن الله تبارك وتعالى عز وجل خلق في سماء الدنيا ملائكة من تسبيحهم سبحان الذي زين الرجال باللحى والنساء بالذوائب } وتفويت الجمال على الكمال في حق الحر يوجب كمال الدية كالمارن والأذن الشاخصة ، والجامع بينهما إظهار شرف الآدمي وكرامته ، وشرفه في الجمال فوق شرفه في المنافع ثم تفويت المنافع على الكمال لما أوجب كمال الدية فتفويت الجمال على الكمال أولى بخلاف شعر سائر البدن لأنه لا جمال فيه على الكمال لأنه لا يظهر للناس فتفويته لا يوجب كمال الدية .
وقد روي عن سيدنا رضي الله عنه أنه قال في الرأس إذا حلق فلم ينبت الدية كاملة . علي
وكذا روي عنه أنه قال في اللحية إذا حلقت فلم تنبت الدية
وروي أن رجلا أغلى ماء فصبه على رأس رجل فانسلخ جلد رأسه فقضى سيدنا رضي الله عنه بالدية . علي
وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه قال إنما يجب كمال الدية في اللحية إذا كانت كاملة بحيث يتجمل بها فأما إذا كانت طاقات متفرقة لا يتجمل بها فلا شيء فيها ، وإن كانت غير متوفرة بحيث يقع بها الجمال الكامل ، وليست مما يشين ففيها حكومة عدل .
وأما شعر العبد ولحيته فذكر في الأصل أن فيه حكومة .
وروى الحسن عن رضي الله عنه أن فيه القيمة ( وجه ) هذه الرواية أن القيمة في العبيد كالدية في الأحرار فلما وجبت في الحر الدية تجب في العبد القيمة ( وجه ) رواية الأصل أن الجمال في العبد ليس بمقصود بل المقصود منهم الخدمة ، وتفويت ما ليس بمقصود لا يتعلق به كمال الدية . أبي حنيفة
ولو حلق رأس إنسان أو لحيته ثم نبت فلا شيء عليه ; لأن النابت قام مقام الفائت فكأنه لم يفت الجمال أصلا .
وفي الصعر - وهو اعوجاج الرقبة - كمال الدية لوجود تفويت منفعة مقصودة وتفويت الجمال على الكمال ، والله سبحانه وتعالى أعلم .