وأما فالكلام فيه في موضعين : أحدهما : في بيان محل إقامة هذا الحكم ، والثاني : في بيان موضع إقامة الحكم منه أما الأول فأصل المحل عند أصحابنا طرفان فقط ، وهما : اليد اليمنى ، والرجل اليسرى فتقطع اليد اليمنى في السرقة الأولى ، وتقطع الرجل اليسرى في السرقة الثانية ، ولا يقطع بعد ذلك أصلا ، ولكنه يضمن السرقة ، ويعزر ، ويحبس حتى يحدث توبة عندنا ، وعند أصل المحل ، ومراعاة الترتيب فيه - رحمه الله - : الأطراف الأربعة محل القطع على الترتيب : فتقطع اليد اليمنى في المرة الأولى ، وتقطع الرجل اليسرى في المرة الثانية ، وتقطع اليد اليسرى في المرة الثالثة ، وتقطع الرجل اليمنى في السرقة الرابعة ، احتج الشافعي - رحمه الله - بقوله تعالى { الشافعي ، والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } ، والأيدي اسم جمع ، والاثنان فما فوقهما جماعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الله تعالى { : إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } ، وأنه لم يكن لكل واحد إلا قلب واحد إلا أن الترتيب في قطع الأيدي ثبت بدليل آخر .
وهذا لا يخرج اليد اليسرى من أن تكون محلا للقطع في الجملة ، وروي أن - سيدنا - رضي الله عنه قطع سارق حلي أبا بكر ، وكان أقطع اليد ، والرجل . أسماء
( ولنا ) ما روي أن - سيدنا - رضي الله عنه أتي بسارق فقطع يده ، ثم أتي به الثانية وقد سرق فقطع رجله ، ثم أتي به الثالثة وقد سرق فقال : لا أقطعه إن قطعت يده فبأي شيء يأكل بأي شيء يتمسح ، وإن قطعت رجله بأي شيء يمشي إني لأستحي من الله فضربه بخشبة ، وحبسه . عليا
وروي أن - سيدنا - رضي الله عنه أتي بسارق أقطع اليد ، والرجل قد سرق نعالا يقال له سدوم ، وأراد أن يقطعه فقال له - سيدنا - عمر رضي الله عنه إنما عليه قطع يد ورجل فحبسه - سيدنا - علي رضي الله عنه ولم يقطعه ، وسيدنا عمر وسيدنا عمر رضي الله عنهما لم يزيدا في القطع على قطع اليد اليمنى ، والرجل اليسرى ، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ، ولم ينقل أنه أنكر عليهما منكر ; فيكون إجماعا من الصحابة رضي الله عنهم . علي
( ولنا ) أيضا دلالة الإجماع ، والمعقول ، أما دلالة الإجماع فهي أنا أجمعنا على أن اليد اليمنى إذا كانت مقطوعة لا يعدل إلى اليد اليسرى ، بل إلى الرجل اليسرى ، ولو كان لليد اليسرى مدخلا في القطع لكان لا يعدل إلا إليها ; لأنها منصوص عليها ، ولا يعدل عن المنصوص عليه إلى غيره فدل العدول إلى الرجل اليسرى لا إليها على أنه لا مدخل لها في القطع بالسرقة أصلا .
وهذا النوع من الاستدلال ذكره - رحمه الله - وأما المعقول فهو أن في قطع اليد اليسرى تفويت جنس منفعة من منافع النفس أصلا ، وهي منفعة البطش ; لأنها تفوت بقطع اليد اليسرى بعد قطع اليمنى فتصير النفس في حق هذه المنفعة هالكة ، فكان قطع اليد اليسرى إهلاك النفس من وجه ، وكذا قطع الرجل اليمنى بعد قطع الرجل اليسرى تفويت منفعة المشي ; لأن منفعة المشي تفوت بالكلية ، فكان قطع الرجل اليمنى إهلاك النفس من كل وجه ، وإهلاك النفس من كل وجه لا يصلح حدا في السرقة ، كذا إهلاك النفس من وجه ; لأن الثابت من وجه ملحق بالثابت من كل وجه في الحدود احتياطا ، ولا حجة له في الآية الشريفة ; لأن الكرخي رضي الله عنه قرأ " فاقطعوا أيمانهما " ، ولا يظن بمثله أن يقرأ ذلك من تلقاء نفسه . ابن مسعود
بل سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت قراءته مخرج التفسير لمبهم الكتاب العزيز ، وهكذا روي عن [ ص: 87 ] رضي الله عنهما في قوله - عز وجل - { عبد الله بن عباس فاقطعوا أيديهما } أنه قال أيمانهما ، وهكذا روي عن الحسن ، - رحمهما الله - وأما حديث لا قطع فقد روى وإبراهيم الزهري في الموطأ عن - سيدتنا - رضي الله عنها أنها قالت لما كان الذي سرق حلي عائشة أقطع اليد اليمنى فقطع - سيدنا - أسماء رضي الله عنه رجله اليسرى ، وكانت تنكر أن يكون أقطع اليد ، والرجل ، ثم إنما تقطع يده اليمنى في الكرة الأولى إذا كانت اليد اليسرى صحيحة يمكنه أن ينتفع بها بعد قطع اليد اليمنى . أبو بكر
والرجل اليمنى صحيحة يمكنه الانتفاع بها بعد قطع الرجل اليسرى ، لا تقطع اليد اليمنى ; لأن القطع في السرقة شرع زاجرا لا مهلكا ، فإذا لم تكن اليد اليسرى يمكن الانتفاع بها ; فقطع اليد اليمنى يقع تفويتا لجنس المنفعة ، وهي منفعة البطش أصلا فيقع إهلاكا للنفس من وجه فلا تقطع ، ولا يقطع رجله اليسرى أيضا ; لأنه يذهب أحد الشقين على الكمال فيهلك النفس من وجه فإن كانت اليد اليسرى مقطوعة ، أو شلاء ، أو مقطوعة الإبهام ، أو أصبعين سوى الإبهام تقطع يده اليمنى ; لأن القطع لا يتضمن فوات جنس المنفعة . ولو كانت اليد اليسرى مقطوعة أصبع واحدة سوى الإبهام
وكذا إن كانت الرجل اليمنى مقطوعة ، أو شلاء ، أو بها عرج يمنع المشي عليها لا تقطع اليد اليمنى ; لما فيه من فوات الشق ، ولا رجله اليسرى ، وإن كانت صحيحة ; لأنه يبقى بلا رجلين فيفوت جنس المنفعة فإن كان يستطيع القيام ، والمشي عليها تقطع يده اليمنى ; لأن الجنس لا يفوت ، وإن كان لا يستطيع لا يقطع لفوات الشق ولو كانت رجله اليمنى مقطوعة الأصابع كلها تقطع يده اليمنى ; لأن جنس المنفعة لا يفوت ، ولا فيه فوات الشق أيضا . ولو كانت يداه صحيحتين ، ولكن رجله اليسرى مقطوعة ، أو شلاء أو مقطوعة الإبهام أو الأصابع
لقوله - سبحانه وتعالى - { ولو سرق ويمناه شلاء ، أو مقطوعة الإبهام ، أو الأصابع فاقطعوا أيديهما } أي : أيمانهما من غير فصل بين يمين ، ويمين ، ولأنها لو كانت سليمة تقطع فالناقصة المعيبة أولى بالقطع ، ثم فرق بين القطع في السرقة ، وبين الإعتاق في الكفارة حيث جعل فوات إصبعين سوى الإبهام من اليد اليسرى نقصانا مانعا من قطع اليد اليمنى ، ولم يجعل فوات إصبعين نقصانا مانعا من جواز الإعتاق ما لم يكن ثلاثا .
( وجه ) الفرق : أن القطع حد فهذا القدر من النقصان يورث شبهة ، بخلاف العتق ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم ولو فهذا على ، وجهين : إما أن قال اقطع يده مطلقا ، وإما أن قيده فقال : اقطع يده اليمنى فإن أطلق فقال : له اقطع يده فقطع اليسرى لا ضمان عليه للحال ; لأنه فعل ما أمر به حيث أمره بقطع اليد ، وقد قطع اليد ، وإن قيد فقال : اقطع يده اليمنى فقطع اليسرى فإن أخرج السارق يده ، وقال هذا هو يميني فلا ضمان عليه أيضا ; لأنه قطع بأمره فلا يضمن كمن قال لآخر اقطع يدي فقطعه لا ضمان عليه كذا هذا ، وإن لم يخرج السارق يده ، ولم يقل ذلك ، ولكنه قطع اليسرى خطأ لا ضمان عليه عند أصحابنا رضي الله عنهم ، وعند قال الحاكم للحداد اقطع يد السارق فقطع اليد اليسرى رضي الله عنه يضمن ; لأن الخطأ في حقوق العباد ليس بعذر . زفر
( ولنا ) أن هذا خطأ في الاجتهاد ; لأنه أقام اليسار مقام اليمين باجتهاده متمسكا بظاهر قوله - سبحانه وتعالى - { فاقطعوا أيديهما } من غير فصل بين اليمين ، واليسار ، فكان هذا خطأ من المجتهد في الاجتهاد ، وأنه موضوع ، وموضوع المسألة في هذا الخطأ لا فيما إذا أخطأ فظن اليسار يمينا مع اعتقاد وجوب قطع اليمين مع ما أن عند - رحمه الله - : لا يضمن هناك أيضا على ما نبين ، وإن قطع اليسرى عمدا لا ضمان عليه أيضا عند أبي حنيفة ، وعندهما يضمن لهما أنه تعمد الظلم بإقامة اليسار مقام اليمين فلم يكن معذورا فيضمن ، أبي حنيفة رضي الله عنه أنه أتلف ، وأخلف خيرا مما أتلف ، فلا يضمن كرجلين شهدا على رجل ببيع عبد قيمته ألف بألفين ، ثم رجعا أنهما لا يضمنان ; لما قلنا كذا هذا . ولأبي حنيفة
وإنما قلنا : إنه أخلف خيرا مما أتلف ; لأنه لما قطع اليسرى فقد سلمت له اليمنى ; لأنها لا تقطع بعد ذلك ; لأنه لا يؤتى على أطرافه الأربعة ، واليمنى خير من اليسرى ثم على قول - عليه الرحمة - هل يكون هذا القطع - وهو قطع اليسرى - قطعا من السرقة حتى إذا هلك المال في يد السارق ، أو استهلكه لا يضمن ، أو لا يكون من السرقة حتى يضمن ؟ اختلف المشايخ فيه قال بعضهم : يكون ، وقال بعضهم : لا يكون هذا كله إذا قطع الحداد بأمر الحاكم ، فأما الأجنبي إذا قطع يده اليسرى فإن كان خطأ تجب الدية ، وإن كان عمدا يجب القصاص ، وسقط عنه القطع في اليمين ; لأنه لو قطع يؤدي إلى إهلاك النفس من ، وجه على ما بينا [ ص: 88 ] أبي حنيفة
ويرد عليه المسروق إن كان قائما ، وعليه ضمانه في الهلاك ; لأن المانع من الضمان هو القطع وقد سقط ، فهذا على وجهين : إما أن يكون قبل الخصومة ، وإما أن يكون بعدها ، فإن كان قبل الخصومة فعلى قاطعه القصاص إن كان عمدا ، والأرش إن كان خطأ ، وتقطع رجله اليسرى في السرقة كأنه سرق ، ولا يمين له ، وإن كان بعد الخصومة فإن كان قبل القضاء فكذلك الجواب ، إلا أنا ههنا لا نقطع رجله اليسرى ; لأنه لما خوصم كان الواجب في اليمين وقد فاتت ; فسقط الواجب كما لو ذهب بآفة سماوية ، وإن كان بعد القضاء فلا ضمان على القاطع ; لأنه احتسب لإقامة حد الله - سبحانه وتعالى - فكان قطعه عن السرقة حتى لا يجب الضمان على السارق فيما هلك من مال السرقة في يده ، أو استهلك . ولو وجب عليه قطع اليد اليمين في السرقة فلم تقطع حتى قطع قاطع يمينه
وأما فهو مفصل الزند عند عامة العلماء رضي الله عنهم . الموضع الذي يقطع من اليد اليمنى
وقال بعضهم تقطع الأصابع ، وقال الخوارج : تقطع من المنكب لظاهر قوله سبحانه وتعالى { فاقطعوا أيديهما } ، واليد اسم لهذه الجملة ، والصحيح قولنا ; لما روي أنه عليه الصلاة والسلام { قطع يد السارق من مفصل الزند } ، فكان فعله بيانا للمراد من الآية الشريفة كأنه نص - سبحانه وتعالى - فقال : { فاقطعوا أيديهما } من مفصل الزند ، وعليه عمل الأمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .