( ومنها ) لقوله تعالى { العدد في الشهادة بما يطلع عليه الرجال واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } ( وقوله ) سبحانه وتعالى { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } ; ولأن الواجب على الشاهد إقامة الشهادة لله - عز وجل - " الآية " وهو قوله تعالى { وأقيموا الشهادة لله } ، وقوله تعالى { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله } ولا تقع الشهادة لله إلا وأن تكون خالصة صافية عن جر النفع .
ومعلوم أن في الشهادة منفعة للشاهد من حيث التصديق ; ; لأن من صدق قوله يتلذذ به ، فلو قبل قول الفرد لم تخل شهادته عن جر النفع إلى نفسه ، فلا يخلص لله عز وجل ، فشرط العدد في الشهادة ليكون كل واحد مضافا إلى قول صاحبه ، فتصفو الشهادة لله - عز شأنه - ; ولأنه إذا كان فردا يخاف عليه السهو والنسيان ; لأن الإنسان مطبوع على السهو والغفلة ، فشرط العدد في الشهادة ليذكر البعض البعض عند اعتراض السهو والغفلة ، كما قال الله تعالى في إقامة امرأتين مقام رجل في الشهادة { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } ثم الشرط عدد المثنى في عموم الشهادات القائمة على ما يطلع عليه الرجال ، إلا في الشهادة بالزنا فإنه يشترط فيها عدد الأربعة لقوله تعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } ، وقوله تعالى { فإن لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } .
ولأن الشهادة في هذا الباب أحد نوعي الحجة ، فتعتبر بالنوع الآخر وهو الإقرار ، ثم عدد الأقارير الأربعة شرط ظهور الزنا عندنا فكذا عدد الشهود الأربعة بخلاف سائر الحدود ، فإنه لا يشترط العدد في الإقرار لظهورها ، فكذا في الشهادة ; ولأن عدد الأربعة في الزنا ثبت نصا بخلاف القياس ; لأن خبر من ليس بمعصوم من الكذب لا يخلو عن احتمال الكذب ، وعدد الأربعة في احتمال الكذب ، مثل عدد المثنى ما لم يدخل في حد التواتر ، لكنا عرفناه شرطا بنص خاص معدولا به عن القياس فبقي سائر الأبواب على أصل القياس وأما فيما لا يطلع عليه الرجال كالولادة والعيوب الباطنة في النساء فالعدد فيه ليس [ ص: 278 ] بشرط عندنا ، فتقبل فيه شهادة امرأة واحدة والثنتان أحوط ، وعند مالك - رحمهما الله - أن العدد فيه شرط ، إلا أن عند والشافعي - رحمه الله - يكتفى فيه بامرأتين ، وعند مالك - رحمه الله - لا بد من الأربع ، وجه قول الشافعي أن شهادة الرجال لما سقط اعتبارها في هذا الباب لمكان الضرورة وجب الاكتفاء بعددهم من النساء ، ووجه قول مالك - رحمه الله - أن الشرع أقام كل امرأتين في باب الشهادة مقام رجل واحد ، ثم لا يكتفى بأقل من رجلين ، فلا يكتفى بأقل من أربع نسوة . الشافعي
( ولنا ) أن شرط العدد في الشهادة في الأصل ثبت تعبدا غير معقول المعنى ; ; لأن خبر من ليس بمعصوم عن الكذب لا يفيد العلم قطعا ويقينا ، وإنما يفيده غالب الرأي وأكثر الظن ، وهذا ثبت بخبر الواحد العدل ، ولهذا لم يشترط العدد في رواية الأخبار إلا أنا عرفنا العدد فيها شرطا بالنص ، والنص ورد بالعدد في شهادة النساء في حالة مخصوصة ، وهي أن يكون معهن رجل بقوله تعالى عز شأنه : { فرجل وامرأتان } ، فبقيت حالة الانفراد عن الرجال على أصل القياس وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل شهادة القابلة على الولادة ، ولو شهد رجل واحد بالولادة يقبل ; لأنه لما قبل شهادة امرأة واحدة فشهادة رجل واحد أولى ، والله سبحانه وتعالى أعلم .