( وأما ) الذي يرجع إلى المرهون به فأنواع : منها أن يكون مضمونا ، والكلام في هذا الشرط يقع في موضعين : أحدهما في ، والثاني في صفة المضمون أما الأول فأصل الضمان هو كون المرهون به مضمونا شرط جواز الرهن ; لأن المرهون عندنا مضمون بمعنى سقوط الواجب عند هلاكه ، أو بمعنى استيفاء الواجب ، ولسنا نعني بالمضمون سوى أن يكون واجب التسليم على الراهن أصل اشتراط الضمان . ، والمضمون نوعان : دين ، وعين
أما الدين : فيجوز الرهن بأي سبب وجب من الإتلاف والغصب والبيع ونحوها ; لأن الديون كلها واجبة على اختلاف أسباب وجوبها ، فكان الرهن بها رهنا بمضمون فيصح ، وسواء كان مما يحتمل الاستبدال قبل القبض أو لا يحتمله ، كرأس مال السلم وبدل الصرف والمسلم فيه ، وهذا عند أصحابنا الثلاثة ، وقال : لا يجوز الرهن بهذه الديون وجه قوله أن سقوط الدين عند هلاك الرهن بطريق الاستبدال ، على معنى أن عين الدين تصير بدلا عن الدين لا بطريق الاستيفاء ; لأن الاستيفاء لا يتحقق إلا عند المجانسة ، والرهن مع الدين يكونان مختلفي الجنس عادة ، فلا يكون القول بالسقوط بطريق الاستيفاء ، فتعين أن يكون بطريق الاستبدال فيختص جواز الرهن بما يحتمل الاستبدال ، وهذه الديون كما لا يجوز استبدالها فلا يجوز الرهن بها . زفر
( ولنا ) أن السقوط بطريق الاستيفاء ; لما نذكر في حكم الرهن إن شاء الله تعالى واستيفاء هذه الديون ممكن وأما قوله : الاستيفاء يستدعي المجانسة قلنا : المجانسة ثابتة من وجه ; لأن الاستيفاء يقع بمالية الرهن لا بصورته ، والأموال كلها فيما يرجع إلى معنى المالية جنس واحد ، وقد يسقط اعتبار المجانسة من حيث الصورة ، ويكتفى بمطلق المالية للحاجة والضرورة ، كما في إتلاف ما لا مثل له من جنسه ، وقد تحققت الضرورة في باب الرهن ; لحاجة الناس إلى توثيق ديونهم من جانب الاستيفاء ، فأمكن القول بالاستيفاء ، وإذا جاز الرهن بهذه الديون فإن هلك الرهن في المجلس ، تم الصرف والسلم ; ; لأنه صار مستوفيا عين حقه في المجلس لا مستبدلا ، وإن لم يملك حتى افترقا ، بطلا ; لفوات شرط البقاء على الصحة وهو القبض في المجلس .
وأما العين فنقول : لا خلاف في أنه لا يجوز الرهن بالعين التي هي أمانة في يد الراهن ، كالوديعة والعارية ومال المضاربة والبضاعة والشركة والمستأجر ونحوها ، فإنها ليست بمضمونة أصلا [ ص: 143 ] وأما العين المضمونة فنوعان : نوع هو مضمون بنفسه ، وهو الذي يجب مثله عند هلاكه إن كان له مثل ، وقيمته إن لم يكن له مثل ، كالمغصوب في يد الغاصب ، والمهر في يد الزوج ، وبدل الخلع في يد المرأة ، وبدل الصلح عن دم العمد في يد العاقلة ، ولا خلاف في أنه يجوز الرهن به ، وللمرتهن أن يحبس الرهن حتى يسترد العين ، فإن هلك المرهون في يده قبل استرداد العين والعين قائمة يقال للراهن : سلم العين إلى المرتهن ، وخذ منه الأقل من قيمة الرهن ومن الدين ; لأن المرهون عندنا مضمون بذلك ، فإذا وصل إليه العين ، يجب عليه رد قدر المضمون إلى الراهن ، فإن هلكت العين والرهن قائم ، صار الرهن بها رهنا بقيمتها ، حتى وهلك الرهن بعد ذلك ، يهلك مضمونا بالأقل من قيمته وقيمة العين ; لأن قيمة العين بدلها ، وبدل الشيء قائم مقامه كأنه هو .
وأما الذي هو مضمون بغيره لا بنفسه ، كالمبيع في يد البائع ليس هو مضمونا بنفسه ، ألا ترى أنه لو هلك في يده ، لا يضمن شيئا ، بل هو مضمون بغير الثمن حتى يسقط الثمن المشترى إذا هلك ، فهل يجوز الرهن به ؟ ذكر في كتاب الصرف أنه يجوز ، وله أن يحبسه حتى يقبض المبيع ، وإن هلك في يده قبل القبض ، يهلك بالأقل من قيمته ومن قيمة المبيع ، ولا يصير قابضا للمبيع بهلاكه ، وله أن يقبض المبيع إذا أوفى ثمنه ، وعليه أيضا ضمان الأقل بهلاك الرهن .
ولو هلك المبيع قبل القبض والرهن قائم ، بطل البيع ; لأن إهلاك المبيع قبل القبض يوجب بطلان المبيع ، وعلى المشتري أن يرد الرهن على البائع .
ولو هلك في يده قبل الرد ، هلك بضمانه وهو الأقل من قيمته ومن قيمة المبيع للبائع ، ولا يبطل ضمانه بهلاك المبيع وبطلان البيع ; لأنه وإن هلك المبيع ، فقد سقط الثمن بمقابلته فكان بطلانه بعوض ، فلا يبطل ضمانه .
وروى الحسن عن أنه لا يصح الرهن ، وبه أخذ أبي حنيفة وجه رواية الكرخي الحسن أن قبض الرهن قبض استيفاء المرهون ، ولا يتحقق معنى الاستيفاء في المضمون بغيره ; لأن المشتري لا يصير مستوفيا شيئا بهلاك الرهن ، إنما يسقط عنه الثمن لا غير .
( وجه ) ظاهر الرواية الاستيفاء ههنا يحصل من حيث المعنى ; لأن المبيع قبل القبض إن لم يكن مضمونا بالقيمة فهو مضمون بالثمن ، ألا ترى أنه لو هلك ، يسقط الثمن عن المشتري ، فكان سقوط الثمن عنه كالعوض عن هلاك المبيع فيحصل مستوفيا مالية المبيع من الرهن من حيث المعنى ، فكان في معنى المضمون بنفسه فيصح الرهن به ولو تزوج امرأة على دراهم بعينها ، أو اشترى شيئا بدراهم بعينها فأعطى بها رهنا لم يجز عند أصحابنا الثلاثة رضي الله عنهم ، وعند يجوز ; بناء على أن الدراهم والدنانير لا تتعين في عقود المعاوضات ، وإن عينت فكان الواجب على الراهن مثلها لا عينها ، فلم يكن المعين مضمونا ; فلم يجز الرهن به ، وعنده يتعين بالتعيين بمنزلة العوض فكان المعين مضمونا ; فجاز الرهن به ، ولا يجوز زفر ; لأن المكفول به ليس بمضمون على الكفيل ، ألا ترى أنه لو هلك ، لا يجب على الراهن شيء ولا يسقط عن المرتهن بمقابلته . الرهن بالكفالة بالنفس
ولا يجوز ; لأن الشفعة ليست بمضمونة على المشتري ، بدليل أنه لو هلك ، لا يجب عليه شيء ولا يسقط عن المرتهن بشيء بمقابلته ، فكان رهنا بما ليس بمضمون ; فلم يجز ، ولا يجوز الرهن بالشفعة ; ; لأنه لو هلك ، لا يجب على المولى شيء ، ولا يسقط عن المرتهن شيء بمقابلته ، فلم يكن مضمونا أصلا فلا يصح الرهن به ، ولا يجوز الرهن بالعبد الجاني والعبد المديون ، بأن استأجر مغنية أو نائحة أو أعطاهما بالأجرة رهنا ; لأن الإجارة لم تصح فلم تجب الأجرة ، فكان رهنا بما ليس بمضمون ; فلم يجز ولو دفع إلى رجل رهنا ليقرضه فهلك الرهن قبل أن يقرضه يهلك مضمونا بالأقل من قيمته ومما سمى في القرض ، وإن حصل الارتهان بما ليس بمضمون لكنه في حكم المضمون ; ; لأنه قبض الرهن ليقرضه فكان قبض الرهن على جهة الضمان ، والمقبوض على جهة شيء كالمقبوض على حقيقته في الشرع ، كالمقبوض على سوم الشراء . الرهن بأجرة النائحة والمغنية