[ ص: 159 ] القسم الأول
فيما يجب العمل به مما يسمى دليلا شرعيا
ولما بان أنه على خمسة أنواع ، فالنظر المتعلق بها منه ما هو مختص بكل واحد منها بخصوصه ومنها ما هو مشترك بينها .
فلنرسم في كل واحد منها أصلا ، وهي ستة أصول .
nindex.php?page=treesubj&link=20751الأصل الأول
في تحقيق معنى الكتاب ، وما يتعلق به من المسائل ; لأنه الأول والأولى بتقديم النظر فيه
[1] أما
nindex.php?page=treesubj&link=20752حقيقة الكتاب فقد قيل فيه : هو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف بالأحرف السبعة المشهورة نقلا متواترا ، وفيه نظر .
فإنه لا معنى للكتاب سوى القرآن المنزل علينا على لسان
جبريل ، وذلك مما لا يخرج عن حقيقته بتقدير عدم نقله إلينا متواترا بل ولا بعدم نقله إلينا بالكلية ، بل غايته جهلنا بوجود القرآن بتقدير عدم نقله إلينا وعدم علمنا بكونه قرآنا بتقدير عدم تواتره ، وعلمنا بوجوده غير مأخوذ في حقيقته ، فلا يمكن أخذه في تحديده .
والأقرب في ذلك أن يقال : الكتاب هو القرآن المنزل .
فقولنا : ( القرآن ) احتراز عن سائر الكتب المنزلة من التوراة والإنجيل وغيرهما ، فإنها وإن كانت كتبا لله تعالى فليست هي الكتاب المعهود لنا المحتج به في شرعنا على الأحكام الشرعية الذي نحن بصدد تعريفه ، وفيه احتراز عن الكلام المنزل على النبي عليه السلام مما ليس بمتلو .
وقولنا : ( المنزل ) احتراز عن كلام النفس ، فإنه ليس بكتاب ، بل الكتاب هو الكلام المعبر عن الكلام النفساني ،
[2] ولذلك لم نقل هو الكلام القديم ولم نقل هو المعجز ; لأن المعجز أعم من الكتاب ولم نقل هو الكلام المعجز ; لأنه يخرج منه الآية وبعض الآية مع أنها من الكتاب وإن لم تكن معجزة .
[ ص: 160 ] وإذا أتينا على
nindex.php?page=treesubj&link=20752تعريف حقيقة الكتاب [3] ، فلا بد من النظر فيما يختص به من المسائل وهي خمس مسائل :
المسألة الأولى
nindex.php?page=treesubj&link=20755[4] اتفقوا على أن ما نقل إلينا من القرآن نقلا متواترا ، وعلمنا أنه من القرآن أنه حجة ، واختلفوا فيما نقل إلينا منه آحادا كمصحف
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ، وغيره أنه هل يكون حجة ، أم لا ؟
فنفاه
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وأثبته
أبو حنيفة ، وبنى
[5] عليه وجوب التتابع في صوم اليمين بما نقله
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود في مصحفه من قوله : " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " .
والمختار إنما هو مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي .
وحجته أن النبي عليه السلام كان مكلفا بإلقاء ما أنزل عليه من القرآن على طائفة تقوم الحجة القاطعة بقولهم ، ومن تقوم الحجة القاطعة بقولهم لا يتصور عليهم التوافق على عدم نقل ما سمعوه منه .
فالراوي له إذا كان واحدا إن ذكره على أنه قرآن فهو خطأ ، وإن لم يذكره على أنه قرآن فقد تردد بين أن يكون خبرا عن النبي عليه السلام ، وبين أن يكون ذلك مذهبا له فلا يكون حجة .
وهذا بخلاف خبر الواحد عن النبي عليه السلام ، وعلى هذا منع من وجوب التتابع في صوم اليمين على أحد قوليه .
فإن قيل : قولكم إن النبي عليه السلام كان يجب عليه إلقاء القرآن إلى عدد تقوم الحجة القاطعة بقولهم ، لا نسلم ذلك ، وكيف يمكن دعواه مع أن حفاظ القرآن في زمانه عليه السلام لم يبلغوا عدد التواتر لقلتهم ، وأن جمعه إنما كان
[ ص: 161 ] بطريق تلقي آحاد آياته من الآحاد ، ولذلك اختلفت مصاحف الصحابة .
ولو كان قد ألقاه إلى جماعة تقوم الحجة بقولهم ، لما كان كذلك .
ولهذا أيضا
nindex.php?page=treesubj&link=20762_20757اختلفوا في البسملة أنها من القرآن ، وأنكر
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود كون الفاتحة والمعوذتين من القرآن .
سلمنا وجوب ذلك على النبي عليه السلام ، وأنه سمعه منه جمع تقوم الحجة بقولهم ، ولكن إنما يمتنع السكوت عن نقله على الكل لعصمتهم عن الخطأ ، ولا يمتنع ذلك بالنسبة إلى بعضهم ، وإذا كان
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود من جملتهم وقد روى ما رواه فلم يقع الاتفاق من الكل على الخطأ بالسكوت
وعند ذلك فيتعين حمل روايته لذلك في مصحفه على أنه من القرآن ; لأن الظاهر من حاله الصدق ولم يوجد ما يعارضه .
غايته أنه غير مجمع على العمل به ، لعدم تواتره ، وإن لم يصرح بكونه قرآنا أمكن أن يكون من القرآن ، وأمكن أن لا يكون لكونه خبرا عن النبي عليه السلام وأمكن أن
[6] يكون لكونه مذهبا له كما ذكرتموه ، وهو حجة بتقدير كونه قرآنا ، وبتقدير كونه خبرا عن النبي عليه السلام .
وهما احتمالان وإنما لا يكون حجة بتقدير كونه مذهبا له ، وهو احتمال واحد ولا يخفى أن وقوع احتمال من احتمالين أغلب من وقوع احتمال واحد بعينه .
سلمنا أنه ليس بقرآن ، وأنه متردد بين الخبر وبين كونه مذهبا له .
إلا أن احتمال كونه خبرا راجح ; لأن روايته له موهم بالاحتجاج به .
ولو كان مذهبا له لصرح به ، نفيا للتلبيس عن السامع المعتقد كونه حجة مع الاختلاف في مذهب الصحابي هل هو حجة أم لا .
والجواب : أما وجوب إلقائه على عدد تقوم الحجة بقولهم ، فذلك مما لم يخالف فيه أحد من المسلمين ; لأن القرآن هو المعجزة الدالة على صدقه عليه السلام قطعا ، ومع عدم بلوغه إلى من لم يشاهده بخبر التواتر لا يكون حجة قاطعة بالنسبة إليه ، فلا يكون حجة عليه في تصديق النبي عليه السلام ولا يلزم من عدم بلوغ حفاظ القرآن في زمن النبي عليه السلام عدد التواتر أن يكون الحفاظ لآحاد آياته كذلك .
[ ص: 162 ] وأما
nindex.php?page=treesubj&link=20757التوقف في جمع آيات القرآن على أخبار الآحاد ، فلم يكن في كونها قرآنا بل في تقديمها وتأخيرها بالنسبة إلى غيرها وفي طولها وقصرها .
وأما ما اختلفت به المصاحف ، فما كان من الآحاد فليس من القرآن وما كان متواترا فهو منه .
وأما الاختلاف في التسمية ، إنما كان في وضعها في أول كل سورة لا في كونها من القرآن .
وأما إنكار
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ، فلم يكن لإنزال هذه السور على النبي عليه السلام ، بل لإجرائها مجرى القرآن في حكمه .
قولهم : إذا رواه
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود لم يتفق الكل على الخطأ .
قلنا : وإن كان كذلك ، إلا أن سكوت من سكت ، وإن لم يكن ممتنعا
[7] إلا أنه حرام
[8] لوجوب نقله عليه .
وعند ذلك فلو قلنا إن ما نقله
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود قرآن ، لزم ارتكاب من عداه من الصحابة للحرام بالسكوت .
ولو قلنا إنه ليس بقرآن لم يلزم منه ذلك ، لا بالنسبة إلى الراوي ولا بالنسبة إلى من عداه من الساكتين وبتقدير
[9] ارتكاب
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود للحرام مع كونه واحدا أولى من ارتكاب الجماعة له ، وعلى هذا فقد بطل قولهم بظهور صدقه فيما نقله معارض ، وتعين تردد نقله بين الخبر والمذهب .
قولهم : حمله على الخبر راجح ، لا نسلم ذلك .
قولهم : لو كان مذهبا لصرح به ، نفيا للتلبيس .
قلنا : أجمع المسلمون على أن كل خبر لم يصرح بكونه خبرا عن النبي عليه السلام ليس بحجة ، وما نحن فيه كذلك
[10] ، ولا يخفى أن الحمل على المذهب مع أنه مختلف في الاحتجاج به أولى من حمله على الخبر الذي ما صرح فيه بالخبرية ، مع أنه ليس بحجة بالاتفاق .
كيف وفيه موافقة النفي الأصلي وبراءة الذمة من التتابع بخلاف مقابله ، فكان أولى .
[ ص: 159 ] الْقِسْمُ الْأَوَّلُ
فِيمَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ مِمَّا يُسَمَّى دَلِيلًا شَرْعِيًّا
وَلَمَّا بَانَ أَنَّهُ عَلَى خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ ، فَالنَّظَرُ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا مِنْهُ مَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِخُصُوصِهِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهَا .
فَلْنَرْسُمْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَصْلًا ، وَهِيَ سِتَّةُ أُصُولٍ .
nindex.php?page=treesubj&link=20751الْأَصْلُ الْأَوَّلُ
فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْكِتَابِ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ ; لِأَنَّهُ الْأَوَّلُ وَالْأَوْلَى بِتَقْدِيمِ النَّظَرِ فِيهِ
[1] أَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=20752حَقِيقَةُ الْكِتَابِ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ : هُوَ مَا نُقِلَ إِلَيْنَا بَيْنَ دَفَّتَيِ الْمُصْحَفِ بِالْأَحْرُفِ السَّبْعَةِ الْمَشْهُورَةِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا ، وَفِيهِ نَظَرٌ .
فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْكِتَابِ سِوَى الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْنَا عَلَى لِسَانِ
جِبْرِيلَ ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْرُجُ عَنْ حَقِيقَتِهِ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ نَقْلِهِ إِلَيْنَا مُتَوَاتِرًا بَلْ وَلَا بِعَدَمِ نَقْلِهِ إِلَيْنَا بِالْكُلِّيَّةِ ، بَلْ غَايَتُهُ جَهْلُنَا بِوُجُودِ الْقُرْآنِ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ نَقْلِهِ إِلَيْنَا وَعَدَمِ عِلْمِنَا بِكَوْنِهِ قُرْآنًا بِتَقْدِيرِ عَدَمِ تَوَاتُرِهِ ، وَعِلْمُنَا بِوُجُودِهِ غَيْرُ مَأْخُوذٍ فِي حَقِيقَتِهِ ، فَلَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ فِي تَحْدِيدِهِ .
وَالْأَقْرَبُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : الْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ .
فَقَوْلُنَا : ( الْقُرْآنُ ) احْتِرَازٌ عَنْ سَائِرِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَغَيْرِهِمَا ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ كُتُبًا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَيْسَتْ هِيَ الْكِتَابَ الْمَعْهُودَ لَنَا الْمُحْتَجَّ بِهِ فِي شَرْعِنَا عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَعْرِيفِهِ ، وَفِيهِ احْتِرَازٌ عَنِ الْكَلَامِ الْمُنَزَّلِ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّا لَيْسَ بِمَتْلُوٍّ .
وَقَوْلُنَا : ( الْمُنَزَّلِ ) احْتِرَازٌ عَنْ كَلَامِ النَّفْسِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِكِتَابٍ ، بَلِ الْكِتَابُ هُوَ الْكَلَامُ الْمُعَبِّرُ عَنِ الْكَلَامِ النَّفْسَانِيِّ ،
[2] وَلِذَلِكَ لَمْ نَقُلْ هُوَ الْكَلَامُ الْقَدِيمُ وَلَمْ نَقُلْ هُوَ الْمُعْجِزُ ; لِأَنَّ الْمُعْجِزَ أَعَمُّ مِنَ الْكِتَابِ وَلَمْ نَقُلْ هُوَ الْكَلَامُ الْمُعْجِزُ ; لِأَنَّهُ يُخْرِجُ مِنْهُ الْآيَةَ وَبَعْضَ الْآيَةِ مَعَ أَنَّهَا مِنَ الْكِتَابِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْجِزَةً .
[ ص: 160 ] وَإِذَا أَتَيْنَا عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=20752تَعْرِيفِ حَقِيقَةِ الْكِتَابِ [3] ، فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ وَهِيَ خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
nindex.php?page=treesubj&link=20755[4] اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا نُقِلَ إِلَيْنَا مِنَ الْقُرْآنِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا ، وَعَلِمْنَا أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّهُ حُجَّةٌ ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا نُقِلَ إِلَيْنَا مِنْهُ آحَادًا كَمُصْحَفِ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَغَيْرِهِ أَنَّهُ هَلْ يَكُونُ حُجَّةً ، أَمْ لَا ؟
فَنَفَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ وَأَثْبَتَهُ
أَبُو حَنِيفَةَ ، وَبَنَى
[5] عَلَيْهِ وُجُوبَ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ الْيَمِينِ بِمَا نَقَلَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنُ مَسْعُودٍ فِي مُصْحَفِهِ مِنْ قَوْلِهِ : " فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ " .
وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ .
وَحُجَّتُهُ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُكَلَّفًا بِإِلْقَاءِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى طَائِفَةٍ تَقُومُ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ بِقَوْلِهِمْ ، وَمَنْ تَقُومُ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ بِقَوْلِهِمْ لَا يُتَصَوَّرُ عَلَيْهِمُ التَّوَافُقُ عَلَى عَدَمِ نَقْلِ مَا سَمِعُوهُ مِنْهُ .
فَالرَّاوِي لَهُ إِذَا كَانَ وَاحِدًا إِنْ ذَكَرَهُ عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ فَهُوَ خَطَأٌ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ فَقَدْ تَرَدَّدَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَذْهَبًا لَهُ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً .
وَهَذَا بِخِلَافِ خَبَرِ الْوَاحِدِ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَعَلَى هَذَا مَنَعَ مِنْ وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ الْيَمِينِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُكُمْ إِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ إِلْقَاءُ الْقُرْآنِ إِلَى عَدَدٍ تَقُومُ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ بِقَوْلِهِمْ ، لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ ، وَكَيْفَ يُمْكِنُ دَعْوَاهُ مَعَ أَنَّ حُفَّاظَ الْقُرْآنِ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَبْلُغُوا عَدَدَ التَّوَاتُرِ لِقِلَّتِهِمْ ، وَأَنَّ جَمْعَهُ إِنَّمَا كَانَ
[ ص: 161 ] بِطْرِيقِ تَلَقِّي آحَادِ آيَاتِهِ مِنَ الْآحَادِ ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ مَصَاحِفُ الصَّحَابَةِ .
وَلَوْ كَانَ قَدْ أَلْقَاهُ إِلَى جَمَاعَةٍ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ ، لَمَا كَانَ كَذَلِكَ .
وَلِهَذَا أَيْضًا
nindex.php?page=treesubj&link=20762_20757اخْتَلَفُوا فِي الْبَسْمَلَةِ أَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ ، وَأَنْكَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنُ مَسْعُودٍ كَوْنَ الْفَاتِحَةِ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ .
سَلَّمْنَا وُجُوبَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ جَمْعٌ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَمْتَنِعُ السُّكُوتُ عَنْ نَقْلِهِ عَلَى الْكُلِّ لِعِصْمَتِهِمْ عَنِ الْخَطَأِ ، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِهِمْ ، وَإِذَا كَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنُ مَسْعُودٍ مِنْ جُمْلَتِهِمْ وَقَدْ رَوَى مَا رَوَاهُ فَلَمْ يَقَعِ الِاتِّفَاقُ مِنَ الْكُلِّ عَلَى الْخَطَأِ بِالسُّكُوتِ
وَعِنْدَ ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ رِوَايَتِهِ لِذَلِكَ فِي مُصْحَفِهِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِ الصِّدْقُ وَلَمْ يُوجَدْ مَا يُعَارِضُهُ .
غَايَتُهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُجْمَعٍ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ ، لِعَدَمِ تَوَاتُرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِكَوْنِهِ قُرْآنًا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقُرْآنِ ، وَأَمْكَنَ أَنْ لَا يَكُونَ لِكَوْنِهِ خَبَرًا عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمْكَنَ أَنْ
[6] يَكُونُ لِكَوْنِهِ مَذْهَبًا لَهُ كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ ، وَهُوَ حُجَّةٌ بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ قُرْآنًا ، وَبِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ خَبَرًا عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَهُمَا احْتِمَالَانِ وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ حُجَّةً بِتَقْدِيرِ كَوْنِهِ مَذْهَبًا لَهُ ، وَهُوَ احْتِمَالٌ وَاحِدٌ وَلَا يَخْفَى أَنَّ وُقُوعَ احْتِمَالٍ مِنَ احْتِمَالَيْنِ أَغْلَبُ مِنْ وُقُوعِ احْتِمَالٍ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ .
سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ ، وَأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْخَبَرِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَذْهَبًا لَهُ .
إِلَّا أَنَّ احْتِمَالَ كَوْنِهِ خَبَرًا رَاجِحٌ ; لِأَنَّ رِوَايَتَهُ لَهُ مُوهِمٌ بِالِاحْتِجَاجِ بِهِ .
وَلَوْ كَانَ مَذْهَبًا لَهُ لَصَرَّحَ بِهِ ، نَفْيًا لِلتَّلْبِيسِ عَنِ السَّامِعِ الْمُعْتَقِدِ كَوْنِهِ حُجَّةً مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي مَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ أَمْ لَا .
وَالْجَوَابُ : أَمَّا وُجُوبُ إِلْقَائِهِ عَلَى عَدَدٍ تَقُومُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِمْ ، فَذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمُعْجِزَةُ الدَّالَّةُ عَلَى صِدْقِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَطْعًا ، وَمَعَ عَدَمِ بُلُوغِهِ إِلَى مَنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ لَا يَكُونُ حُجَّةً قَاطِعَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ فِي تَصْدِيقِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ بُلُوغِ حُفَّاظِ الْقُرْآنِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَدَدَ التَّوَاتُرِ أَنْ يَكُونَ الْحُفَّاظُ لِآحَادِ آيَاتِهِ كَذَلِكَ .
[ ص: 162 ] وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=20757التَّوَقُّفُ فِي جَمْعِ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ ، فَلَمْ يَكُنْ فِي كَوْنِهَا قُرْآنًا بَلْ فِي تَقْدِيمِهَا وَتَأْخِيرِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهَا وَفِي طُولِهَا وَقِصَرِهَا .
وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَتْ بِهِ الْمَصَاحِفُ ، فَمَا كَانَ مِنَ الْآحَادِ فَلَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَا كَانَ مُتَوَاتِرًا فَهُوَ مِنْهُ .
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي التَّسْمِيَةِ ، إِنَّمَا كَانَ فِي وَضْعِهَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ لَا فِي كَوْنِهَا مِنَ الْقُرْآنِ .
وَأَمَّا إِنْكَارُ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنِ مَسْعُودٍ ، فَلَمْ يَكُنْ لِإِنْزَالِ هَذِهِ السُّوَرِ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، بَلْ لِإِجْرَائِهَا مُجْرَى الْقُرْآنِ فِي حُكْمِهِ .
قَوْلُهُمْ : إِذَا رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنُ مَسْعُودٍ لَمْ يَتَّفِقِ الْكُلُّ عَلَى الْخَطَأِ .
قُلْنَا : وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ ، إِلَّا أَنَّ سُكُوتَ مَنْ سَكَتَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا
[7] إِلَّا أَنَّهُ حَرَامٌ
[8] لِوُجُوبِ نَقْلِهِ عَلَيْهِ .
وَعِنْدَ ذَلِكَ فَلَوْ قُلْنَا إِنَّ مَا نَقَلَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنُ مَسْعُودٍ قُرْآنٌ ، لَزِمَ ارْتِكَابُ مَنْ عَدَاهُ مِنَ الصَّحَابَةِ لِلْحَرَامِ بِالسُّكُوتِ .
وَلَوْ قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ ذَلِكَ ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّاوِي وَلَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ عَدَاهُ مِنَ السَّاكِتِينَ وَبِتَقْدِيرِ
[9] ارْتِكَابِ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنِ مَسْعُودٍ لِلْحَرَامِ مَعَ كَوْنِهِ وَاحِدًا أَوْلَى مِنَ ارْتِكَابِ الْجَمَاعَةِ لَهُ ، وَعَلَى هَذَا فَقَدَ بَطَلَ قَوْلُهُمْ بِظُهُورِ صِدْقِهِ فِيمَا نَقَلَهُ مُعَارِضٌ ، وَتَعَيَّنَ تَرَدُّدُ نَقْلِهِ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْمَذْهَبِ .
قَوْلُهُمْ : حَمْلُهُ عَلَى الْخَبَرِ رَاجِحٌ ، لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ .
قَوْلُهُمْ : لَوْ كَانَ مَذْهَبًا لَصَرَّحَ بِهِ ، نَفْيًا لِلتَّلْبِيسِ .
قُلْنَا : أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ لَمْ يُصَرَّحْ بِكَوْنِهِ خَبَرًا عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ
[10] ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْمَذْهَبِ مَعَ أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي مَا صَرَّحَ فِيهِ بِالْخَبَرِيَّةِ ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ بِالِاتِّفَاقِ .
كَيْفَ وَفِيهِ مُوَافَقَةُ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ وَبَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنَ التَّتَابُعِ بِخِلَافِ مُقَابِلِهِ ، فَكَانَ أَوْلَى .