[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله خالق الأفلاك ومدبرها ، ومزينها ، بالشهب الثاقبة ومنيرها ، وجاعل حركات السيارات دالة على اختلاف أحوال الكائنات وتدبيرها
[1] ، ومظهر حكمه في إبداعه لأنواع موجودات العالم وتصويرها ، المتفضل بسوابغ الإنعام قليلها وكثيرها . العادل فيما قضاه وأمضاه من الأحكام وتقديرها . الذي شرف نوع الإنسان بالعقل الهادي إلى أدلة التوحيد وتحريرها . وأهل خاصة العلماء لاستثمار أحكام الشريعة من مداركها وتقريرها
[2] ، حتى استقرت قاعدة الدين ، وظهرت حكمته في جمعها وتحبيرها .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة منجية من صغير الموبقات وكبيرها . وأشهد أن
محمدا عبده ورسوله الذي أزال - بواضح برهانه - وأزاح - بصادق بيانه - ما ظهر من شبه الملحدة وتزويرها . صلى الله عليه وعلى آله وصحابته المؤازرين له في إظهار دعوته بحدها وتشميرها ، والسلام .
وبعد ، فإنه لما كانت الأحكام الشرعية ، والقضايا الفقهية وسائل مقاصد المكلفين ، ومناط مصالح الدنيا والدين ، وأجل العلوم قدرا وأعلاها شرفا وذكرا ; لما يتعلق بها من مصالح العباد في المعاش والمعاد ، كانت أولى بالالتفات إليها وأجدر بالاعتماد عليها .
وحيث كان لا سبيل إلى استثمارها دون النظر في مسالكها ولا مطمع في اقتناصها من غير التفات إلى مداركها ، كان من اللازمات والقضايا الواجبات البحث في أغوارها ، والكشف عن أسرارها ، والإحاطة بمعانيها ، والمعرفة بمبانيها حتى تذلل
[3] طرق الاستثمار ، وينقاد جموح غامض الأفكار ؛ ولذلك كثر تدآبي
[4] ، وطال اغترابي في جمع فوائدها ، وتحقيق فرائدها من
[ ص: 4 ] مباحثات الفضلاء ، ومطارحات النبلاء حتى لان من معركها ما استصعب على المتدربين ، وظهر منها ما خفي على حذاق المتبحرين ، وأحطت منها بلباب الألباب ، واحتويت من معانيها على العجب العجاب ، فأحببت أن أجمع فيها كتابا حاويا لجميع مقاصد قواعد الأصول . مشتملا على حل ما انعقد من غوامضها على أرباب العقول ، متجنبا للإسهاب وغث الإطناب ، مميطا للقشر عن اللباب خدمة
[5] لمولانا السلطان الملك المعظم المكرم ; سلطان الأجواد والأمجاد ، أجل العالم ، وأفضل من تمتد إليه أعناق الهمم والعزائم ، ملك أرباب الفضائل ، ناقد خلاص الأفاضل ، باعث أموات الخواطر ، ناشر رفات العلوم الدواثر بما خصه الله به من الفضائل التي حاز بها قصب سبق الأولين ، والمناقب التي يقف دون إحصائها عد الحاصرين . فبيده زمامها ، وإليه حلها وإبرامها ، وبه كشف أغوارها ، والميز بين ظلمها وأنوارها
[6] أدام الله سعادته إدامة لا تغرب طوالعها ، ولا تنضب مشارعها ، وإن كنت في ضرب المثال كحامل تمر إلى هجر أو طل إلى مطر ، لكنه أقصى درجات القدر ، وغاية منال أفكار البشر
[7] وأرجو أن يصادف منه القبول ، وأن يقع منه الإغضاء عما فيه من الغفلة والذهول .
( وسميته كتاب الإحكام في أصول الأحكام )
وقد جعلته مشتملا على أربع قواعد :
الأولى : في تحقيق مفهوم أصول الفقه ومباديه .
[ ص: 5 ] الثانية : في تحقيق الدليل السمعي وأقسامه ، وما يتعلق به من لوازمه وأحكامه .
الثالثة : في أحكام المجتهدين ، وأحوال المفتين والمستفتين .
الرابعة : في ترجيحات طرق المطلوبات .
اللهم فيسر ختامه ، وسهل إتمامه ، وبصرنا بسلوك مسالك الحق اليقين ، وجنبنا برحمتك عن طرق الزائغين ، وسلمنا من غوائل البدع . واقطع عنا علائق الطمع . وآمنا يوم الخوف والجزع . إنك ملاذ القاصدين ، وكهف
[8] الراغبين .
[ ص: 3 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ خَالِقِ الْأَفْلَاكِ وَمُدَبِّرِهَا ، وَمُزَيِّنِهَا ، بِالشُّهُبِ الثَّاقِبَةِ وَمُنِيرِهَا ، وَجَاعِلِ حَرَكَاتِ السَّيَّارَاتِ دَالَّةً عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْكَائِنَاتِ وَتَدْبِيرِهَا
[1] ، وَمُظْهِرِ حِكَمَهُ فِي إِبْدَاعِهِ لِأَنْوَاعِ مَوْجُودَاتِ الْعَالَمِ وَتَصْوِيرِهَا ، الْمُتَفَضِّلِ بِسَوَابِغِ الْإِنْعَامِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا . الْعَادِلِ فِيمَا قَضَاهُ وَأَمْضَاهُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَتَقْدِيرِهَا . الَّذِي شَرَّفَ نَوْعَ الْإِنْسَانِ بِالْعَقْلِ الْهَادِي إِلَى أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَتَحْرِيرِهَا . وَأَهَّلَ خَاصَّةَ الْعُلَمَاءِ لِاسْتِثْمَارِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ مِنْ مَدَارِكِهَا وَتَقْرِيرِهَا
[2] ، حَتَّى اسْتَقَرَّتْ قَاعِدَةُ الدِّينِ ، وَظَهَرَتْ حِكْمَتُهُ فِي جَمْعِهَا وَتَحْبِيرِهَا .
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، شَهَادَةً مُنْجِيَةً مِنْ صَغِيرِ الْمُوبِقَاتِ وَكَبِيرِهَا . وَأَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الَّذِي أَزَالَ - بِوَاضِحِ بُرْهَانِهِ - وَأَزَاحَ - بِصَادِقِ بَيَانِهِ - مَا ظَهَرَ مِنْ شُبَهِ الْمُلْحِدَةِ وَتَزْوِيرِهَا . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحَابَتِهِ الْمُؤَازِرِينَ لَهُ فِي إِظْهَارِ دَعَوْتِهِ بِحَدِّهَا وَتَشْمِيرِهَا ، وَالسَّلَامُ .
وَبَعْدُ ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ ، وَالْقَضَايَا الْفِقْهِيَّةُ وَسَائِلَ مَقَاصِدِ الْمُكَلَّفِينَ ، وَمَنَاطَ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ ، وَأَجَلَّ الْعُلُومِ قَدْرًا وَأَعْلَاهَا شَرَفًا وَذِكْرًا ; لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ ، كَانَتْ أَوْلَى بِالِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا وَأَجْدَرَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَيْهَا .
وَحَيْثُ كَانَ لَا سَبِيلَ إِلَى اسْتِثْمَارِهَا دُونَ النَّظَرِ فِي مَسَالِكِهَا وَلَا مَطْمَعَ فِي اقْتِنَاصِهَا مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى مَدَارِكِهَا ، كَانَ مِنَ الْلَازِمَاتِ وَالْقَضَايَا الْوَاجِبَاتِ الْبَحْثُ فِي أَغْوَارِهَا ، وَالْكَشْفُ عَنْ أَسْرَارِهَا ، وَالْإِحَاطَةُ بِمَعَانِيهَا ، وَالْمَعْرِفَةُ بِمَبَانِيهَا حَتَّى تُذَلَّلَ
[3] طُرُقُ الِاسْتِثْمَارِ ، وَيَنْقَادَ جُمُوحُ غَامِضِ الْأَفْكَارِ ؛ وَلِذَلِكَ كَثُرَ تَدْآبِي
[4] ، وَطَالَ اغْتِرَابِي فِي جَمْعِ فَوَائِدِهَا ، وَتَحْقِيقِ فَرَائِدِهَا مِنْ
[ ص: 4 ] مُبَاحَثَاتِ الْفُضَلَاءِ ، وَمُطَارَحَاتِ النُّبَلَاءِ حَتَّى لَانَ مِنْ مَعْرَكِهَا مَا اسْتُصْعِبَ عَلَى الْمُتَدَرِّبِينَ ، وَظَهَرَ مِنْهَا مَا خَفِيَ عَلَى حُذَّاقِ الْمُتَبَحِّرِينَ ، وَأَحَطْتُ مِنْهَا بِلُبَابِ الْأَلْبَابِ ، وَاحْتَوَيْتُ مِنْ مَعَانِيهَا عَلَى الْعَجَبِ الْعُجَابِ ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَجْمَعَ فِيهَا كِتَابًا حَاوِيًا لِجَمِيعِ مَقَاصِدِ قَوَاعِدِ الْأُصُولِ . مُشْتَمِلًا عَلَى حَلِّ مَا انْعَقَدَ مِنْ غَوَامِضِهَا عَلَى أَرْبَابِ الْعُقُولِ ، مُتَجَنِّبًا لِلْإِسْهَابِ وَغَثِّ الْإِطْنَابِ ، مُمِيطًا لِلْقِشْرِ عَنِ اللُّبَابِ خِدْمَةً
[5] لِمَوْلَانَا السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْمُعَظَّمِ الْمُكَرَّمِ ; سُلْطَانِ الْأَجْوَادِ وَالْأَمْجَادِ ، أَجَلِّ الْعَالَمِ ، وَأَفْضَلِ مَنْ تَمْتَدُّ إِلَيْهِ أَعْنَاقُ الْهِمَمِ وَالْعَزَائِمِ ، مَلِكِ أَرْبَابِ الْفَضَائِلِ ، نَاقِدِ خَلَاصِ الْأَفَاضِلِ ، بَاعِثِ أَمْوَاتِ الْخَوَاطِرِ ، نَاشِرِ رُفَاتِ الْعُلُومِ الدَّوَاثِرِ بِمَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ الَّتِي حَازَ بِهَا قَصَبَ سَبْقِ الْأَوَّلِينَ ، وَالْمَنَاقِبِ الَّتِي يَقِفُ دُونَ إِحْصَائِهَا عَدُّ الْحَاصِرِينَ . فَبِيَدِهِ زِمَامُهَا ، وَإِلَيْهِ حَلُّهَا وَإِبْرَامُهَا ، وَبِهِ كَشْفُ أَغْوَارِهَا ، وَالْمَيْزُ بَيْنَ ظُلْمِهَا وَأَنْوَارِهَا
[6] أَدَامَ اللَّهُ سَعَادَتَهُ إِدَامَةً لَا تَغْرُبُ طَوَالِعُهَا ، وَلَا تَنْضُبُ مَشَارِعُهَا ، وَإِنْ كُنْتُ فِي ضَرْبِ الْمِثَالِ كَحَامِلِ تَمْرٍ إِلَى هَجَرَ أَوْ طَلٍّ إِلَى مَطَرٍ ، لَكِنَّهُ أَقْصَى دَرَجَاتِ الْقَدْرِ ، وَغَايَةُ مَنَالِ أَفْكَارِ الْبَشَرِ
[7] وَأَرْجُو أَنْ يُصَادِفَ مِنْهُ الْقَبُولَ ، وَأَنْ يَقَعَ مِنْهُ الْإِغْضَاءُ عَمَّا فِيهِ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالذُّهُولِ .
( وَسَمَّيْتُهُ كِتَابَ الْإِحْكَامِ فِي أُصُولِ الْأَحْكَامِ )
وَقَدْ جَعَلَتْهُ مُشْتَمِلًا عَلَى أَرْبَعِ قَوَاعِدَ :
الْأُولَى : فِي تَحْقِيقِ مَفْهُومِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَمَبَادِيهِ .
[ ص: 5 ] الثَّانِيَةُ : فِي تَحْقِيقِ الدَّلِيلِ السَّمْعِيِّ وَأَقْسَامِهِ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ لَوَازِمِهِ وَأَحْكَامِهِ .
الثَّالِثَةُ : فِي أَحْكَامِ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَأَحْوَالِ الْمُفْتِينَ وَالْمُسْتَفْتِينَ .
الرَّابِعَةُ : فِي تَرْجِيحَاتِ طُرُقِ الْمَطْلُوبَاتِ .
اللَّهُمَّ فَيَسِّرْ خِتَامَهُ ، وَسَهِّلْ إِتْمَامَهُ ، وَبَصِّرْنَا بِسُلُوكِ مَسَالِكِ الْحَقِّ الْيَقِينِ ، وَجَنِّبْنَا بِرَحْمَتِكِ عَنْ طُرُقِ الزَّائِغِينَ ، وَسَلِّمْنَا مِنْ غَوَائِلِ الْبِدَعِ . وَاقْطَعْ عَنَّا عَلَائِقَ الطَّمَعِ . وَآمِّنَّا يَوْمَ الْخَوْفِ وَالْجَزَعِ . إِنَّكَ مَلَاذُ الْقَاصِدِينَ ، وَكَهْفُ
[8] الرَّاغِبِينَ .