السؤال
لديَّ سؤال عن حديث لا أذكر لفظه بالضبط، ولكنه عن أدنى أهل الجنة منزلة، والإشكال في جزء منه، وهو عندما يرى الرجل أحد خدمه، فيظن أنه ملك، فيتهيأ للسجود له، فيقول له: مه، ماذا تفعل، فيقول أراك ملك من ملائكة الله -يعني يريد أن يسجد له-.
فهنا كيف يسجد للملك، مع أن السجود لغير الله شرك؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذا حديث طويل في صفة العرض والحساب، وفيه ذكر أدنى أهل الجنة منزلة، وفيه اختلاف في لفظه وسنده، وفي رفعه ووقفه، وقد سئل عنه الدار قطني -كما في كتاب العلل- فقال: يرويه المنهال بن عمرو واختلف عنه؛ فرواه زيد بن أبي أنيسة، وأبو خالد الدالاني، عن المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة، عن مسروق، عن عبد الله.
ورفعه زيد بن أبي أنيسة من أوله إلى آخره، رفعه أبو خالد الدالاني في آخره.
ورواه الأعمش، عن المنهال بن عمرو، فقال: عن قيس بن السكن، وأبي عبيدة، عن عبد الله، ولم يذكر فيه مسروقا، ووقف الحديث.
ورواه عبد الأعلى بن أبي المساور، عن المنهال، بإسناد الأعمش إلا أنه رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ورواه إدريس الأودي، عن المنهال، عن قيس بن السكن، عن عبد الله موقوفا، ولم يذكر فيه أبا عبيدة، ولا مسروقا.
ورواه إسماعيل بن عياش، عن أبي فروة يزيد بن سنان، عن زيد بن أبي أنيسة، عن المنهال بن عمرو، فقال: عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، ووهم فيه.
قال ذلك هياج بن بسطام، عن إسماعيل. والصحيح حديث أبي خالد الدالاني، وزيد بن أبي أنيسة، عن المنهال، عن أبي عبيدة، عن مسروق، عن عبد الله مرفوعا. اهـ.
وبخصوص محل إشكال السائل منه، فقد رواه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة، وعبد الله بن أحمد في كتاب السنة، والطبراني في المعجم الكبير، من طريقي أبي خالد الدالاني وزيد بن أبي أنيسة، كلاهما، عن المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، مرفوعا. بلفظ : فينطلق يرمل في الجنة حتى إذا دنا من الناس رفع له قصر من درة فيخر ساجدا، فيقال له: ارفع رأسك ما لك؟ فيقول: رأيت ربي -أو تراءى لي ربي- فيقال له: إنما هو منزل من منازلك، قال: ثم يلقى رجلا، فيتهيأ للسجود له، فيقال له: مه، ما لك؟ فيقول: رأيت أنك ملك من الملائكة، فيقول: إنما أنا خازن من خزانك ... الحديث.
وهذا اللفظ المشكل بذكر السجود للملك: غير محفوظ! والحديث قد رواه الإمام إسحاق بن راهويه في مسنده – وعنه محمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة – وأبو بكر الشافعي في الغيلانيات، من طريق الأعمش، عن المنهال بن عمرو، حدثنا قيس بن السكن، وأبو عبيدة بن عبد الله، عن ابن مسعود، موقوفا. بلفظ: ثم يستقبله رجل مثل النور، فإذا رآه هوى يسجد له، فيقول: ما شأنك؟ فيقول: ألست بربي؟ فيقول: إنما أنا قهرمان ... الحديث.
قال ابن حجر في المطالب العالية: هذا إسناد صحيح متصل رجاله ثقات. اهـ. وصححه أيضا البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة.
وهذا اللفظ ليس فيه إشكال، فقد همَّ بالسجود له؛ لأنه يظنه ربه تبارك وتعالى، كما همَّ قبل ذلك بالسجود لما رأى نور القصر. وبنحوه رواه أبو نعيم في صفة الجنة، والدار قطني في كتاب الرؤية، من طريق قريش بن حيان، حدثنا بكر بن وائل، عن الزهري، عن أبي عبد الله الأغر، عن أبي هريرة، مرفوعا، بلفظ: بينا هو يمضي فيها، إذ رأى ضوءا، فيخر ساجدا، فيقال له: ما لك؟ فيقول: أليس هذا ربي تجلى لي؟ فإذا هو برجل قائم فيقول: لا هذا منزل من منازلك، وأنا قهرمان من قهارمتك.
ويؤكد هذا اللفظ أن محمد بن نصر المروزي قد رواه في تعظيم قدر الصلاة، بالسند الأول، من طريق أبي غسان مالك بن إسماعيل، حدثنا عبد السلام بن حرب النهدي، حدثنا أبو خالد الدالاني، به، على الشك، بلفظ: فينطلق فيستقبله رجل فيتهيأ للسجود، فيقال له: ما لك؟ فيقول: رأيت ملِكا أو ملَكا ...الحديث. والملِك - بكسر اللام - هو الله تعالى.
ورواه الحاكم من طريق أحمد بن حازم بن أبي غرزة الغفاري، حدثنا مالك بن إسماعيل النهدي، به، بلفظ: فينطلق فيستقبله رجل فيقول: أنت ملك؟ فيقال: إنما ذلك قهرمان من قهارمتك. وهذا اللفظ ليس فيه إشكال.
ورواه الدار قطني في الرؤية، وحمزة السهمي في تاريخ جرجان، وابن المحب الصامت في صفات رب العالمين، من طريق أبي طيبة، عن كرز بن وبرة، عن نعيم بن أبي هند، عن أبي عبيدة، عن أبيه ابن مسعود، مرفوعا، بلفظ: فينطلق يرفل في الجنة حتى يبدو له شيء لم يك ما رأى معه شيئا، فيخر ساجدا فيقول: ما لك؟ فيقول: أليس هذا ربي تجلى لي؟ يقول: لا، ولكنه منزلك، وهو أدنى منازلك، قال: فيتلقاه رجل إذا رأى وجهه وثيابه قام مبهوتا يظن أنه ملك، فيسلم عليه، فيرد عليه السلام، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا قهرمان من قهارمتك.
وهذا اللفظ أيضا ليس فيه إشكال؛ فليس فيه سجود، وإنما هو سلام.
ثم إن حديث ابن مسعود قد رواه الشيخان في صحيحيها من طريق إبراهيم النخعي، عن عبيدة السلماني، عن ابن مسعود، مرفوعا مختصرا، بلفظ: إن آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجا من النار رجل يخرج حبوا، فيقول له ربه: ادخل الجنة، فيقول: رب الجنة ملأى، فيقول له ذلك ثلاث مرات، فكل ذلك يعيد عليه الجنة ملأى، فيقول: إن لك مثل الدنيا عشر مرار.
ورواه مسلم من طريق ثابت البناني، عن أنس، عن ابن مسعود، مرفوعا مطولا، وليس فيه الجملة محل الإشكال، وقد سبق إيراد لفظه في الفتوى: 420928.
وأخيرا ننبه على أن قول الأخ السائل: "السجود لغير الله شرك" لا يصح على إطلاقه، بل هذا إذا كان على وجه العبادة، بخلاف سجود التحية والتكريم، فليس بشرك، ومنه سجود الملائكة لآدم عليه السلام، وسجود أبوي يوسف له، كما قال تعالى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا {يوسف:100}، وقد كان هذا مباحا في شريعتهم، ثم حرم في شريعتنا. وراجع في ذلك الفتويين: 126101، 237514.
والله أعلم.