الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فبداية لا بد من التنبه إلى أن الذهبي -رحمه الله- قد قطع بكون الساجد لقبر النبي صلى الله عليه وسلم عاص على أية حال، فلا يسوغ لعباد القبور والمشاهد أن يستشهدوا بكلامه، فإنه لا خلاف في حرمة السجود لغير الله وإنما الخلاف هل هو كفر بمجرده أم بحسب نية فاعله وقصده، والذهبي رحمه الله لم يكفر من سجد لقبر النبي صلى الله عليه وسلم بإطلاق، بل فصل بحسب القصد من السجود، هل هو على سبيل التحية والتعظيم والتوقير فلا يكفر، أم على سبيل العبادة فيكفر. فالحرمة لا خلاف ولا إشكال فيها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: أجمع المسلمون على أن السجود لغير الله محرم. انتهى.
وقال أيضاً: ولا يجوز السجود لغير الله من الأحياء والأموات، ولا تقبيل القبور ويعزر فاعله. انتهى.
ويدل لحرمة السجود لغير الله عامة ولقبر النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ما رواه قيس بن سعد قال: أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم، فقلت: رسول الله أحق أن يسجد له، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أتيت الحيرة فرأيتهم يسجدون لمرزبان لهم فأنت يا رسول الله أحق أن نسجد لك، قال: أرأيت لو مررت بقبري أكنت تسجد له؟ قال: قلت: لا، قال: فلا تفعلوا. رواه أبو داود، وصححه الألباني.
فهذا يدل على أن الصحابة وإن كان بعضهم سوغ السجود للنبي صلى الله عليه وسلم وهو حي من باب التحية والإكرام والتوقير، إلا أنه لا يسوغه لقبره صلى الله عليه وسلم بعد موته لانتفاء هذا المعنى.. ولما قدم معاذ من الشام سجد للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما هذا يا معاذ؟ قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تفعلوا. رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.
وهذا يدل على أن السجود بغير نية العبادة لا يكون كفراً بمجرده. وعلى أية حال فالتفصيل الذي ذكره الذهبي محل خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يقول به، ومنهم من يطلق الكفر في حق من سجد لغير الله، وممن وافق الذهبي على تفصيله الشوكاني، فإن صاحب (مختصر الأزهار) لما قال: الردة باعتقاد أو فعل أو زي أو لفظ كفري وإن لم يعتقد معناه، إلا حاكياً أو مكرهاً ومنها السجود لغير الله. انتهى.
قال الشوكاني في السيل الجرار: اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار... فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشر لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام، ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر. وأما قوله (ومنها السجود لغير الله) فلا بد من تقييده بأن يكون سجوده هذا قاصداً لربوبية من سجد له، فإنه بهذا السجود قد أشرك بالله عز وجل وأثبت معه إلهاً آخر، وأما إذا لم يقصد إلا مجرد التعظيم كما يقع كثيراً لمن دخل على ملوك الأعاجم أنه يقبل الأرض تعظيماً له، فليس هذا من الكفر في شيء، وقد علم كل من كان من الأعلام أن التكفير بالإلزام من أعظم مزالق الأقدام فمن أراد المخاطرة بدينه فعلى نفسه جنى. انتهى.
وقال الزيلعي في تبين الحقائق: وما يفعلون من تقبيل الأرض بين يدي العلماء فحرام، والفاعل والراضي به آثمان لأنه يشبه عباده الوثن، وذكر الصدر الشهيد أنه لا يكفر بهذا السجود لأنه يريد به التحية. انتهى.
وكذا قال ابن نجيم في البحر الرائق.
وفي باب حكم المرتد من مطالب أولي النهى للرحيباني: أو سجد لصنم أو كوكب. كشمس أو قمر كفر، لأنه أشرك به سبحانه وتعالى (ويتجه السجود للحكام والموتى بقصد العبادة كفر) قولاً واحداً باتفاق المسلمين (والتحية) لمخلوق بالسجود له (كبيرة) من الكبائر العظام والسجود لمخلوق حي أو ميت (مع الإطلاق) العاري عن كونه لخالق أو مخلوق (أكبر) إثماً وأعظم جرماً، إذ السجود لا يكون إلا لله وهو اتجاه حسن. انتهى.
وفي باب شروط من تقبل شهادته من الكتاب نفسه، عد السجود لغير الله كبيرة من الكبائر، وقال البجيرمي في تحفة الحبيب: مجرد السجود بين يدي المشايخ لا يقتضي تعظيم الشيخ كتعظيم الله عز وجل بحيث يكون معبوداً، والكفر إنما يكون إذا قصد ذلك. انتهى.
وقال الرملي في نهاية المحتاج: قال ابن الصلاح: ما يفعله عوام الفقراء من السجود بين يدي المشايخ فهو من العظائم ولو كان بطهارة وإلى القبلة وأخشى أن يكون كفراً. انتهى.
وعلق على ذلك الشرواني في حاشيته على تحفة المحتاج فقال: إنما قال ذلك ولم يجعله كفراً حقيقة، لأن مجرد السجود بين يدي المشايخ لا يقتضي تعظيم الشيخ كتعظيم الله عز وجل بحيث يكون معبوداً، والكفر إنما يكون إذا قصد ذلك. انتهى.
وقال النووي في المجموع وفي الروضة: ما يفعله كثير من الجهلة من السجود بين يدي المشايخ حرام قطعاً بكل حال سواء كان إلى القبلة أو غيرها، وسواء قصد السجود لله تعالى أو غفل، وفي بعض صوره ما يقتضي الكفر أو يقاربه. انتهى.
وعلق الشرواني على ذلك فقال: قال الشارح في الأعلام بعد نقله ما في الروضة: هذا يفهم أنه قد يكون كفراً بأن قصد به عبادة مخلوق أو التقرب إليه، وقد يكون حراماً بأن قصد به تعظيمة أي التذلل له أو أطلق، وكذا يقال في الوالد والعلماء. انتهى.
ومن أهل العلم من لم يفصل بل أطلق الكفر.
قال السرخسي في المبسوط: السجود لغير الله تعالى على وجه التعظيم كفر. انتهى.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في منهج الطلاب في كتاب الردة: .. أو إلقاء مصحف بقاذورة أو سجود لمخلوق. انتهى.
وقال الجمل في حاشيته: أي ولو نبياً وإن أنكر الاستخفاف أو لم يطابق قلبه جوارحه لأن ظاهر حاله يخالفه... نعم إن دلت قرينة قوية على عدم دلالة الفعل على الاستخفاف كسجود أسير في دار الحرب بحضرة كافر خشية منه فلا كفر. انتهى.
وقال ابن حجر الهيتمي في تحفة المحتاج في كتب الردة: أو سجود لصنم أو شمس. أو مخلوق آخر وسحر فيه نحو عبادة كوكب، لأنه أثبت لله تعالى شريكاً، وزعم الجويني أن الفعل بمجرده لا يكون كفراً، رده ولده، نعم إن دلت قرينة قوية على عدم دلالة الفعل على الاستخفاف كأن كان الإلقاء لخشية أخذ كافر أو السجود من أسير في دار الحرب بحضرتهم فلا كفر. انتهى.
وجاء في الموسوعة الفقهية: أجمع الفقهاء على أن السجود لغير صنم ونحوه، كأحد الجبابرة أو الملوك أو أي مخلوق آخر، هو من المحرمات وكبيرة من كبائر الذنوب، فإن أراد الساجد بسجوده عبادة ذلك المخلوق كفر وخرج عن الملة بإجماع العلماء، وإن لم يرد بها عبادة فقد اختلف الفقهاء فقال بعض الحنفية: يكفر مطلقاً سواء كانت له إرادة أو لم تكن له إرادة، وقال آخرون منهم: إذا أراد بها التحية لم يكفر بها، وإن لم تكن له إرادة كفر عند أكثر أهل العلم. انتهى.
وأما السؤال عن مخالفة كلام الذهبي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. متفق عليه. فالجواب: أنه لا يخالفه، لأن الذنب الذي يستحق صاحبه اللعن لا يلزم أن يكون كفراً مخرجاً من الملة، كآكل الربا والراشي والمرتشي والسارق وشارب الخمر والواشمات والنامصات وغير ذلك ممن ثبت اللعن في حقه.
ونختم بهذه الفائدة من كلام الشيخ وليد بن راشد السعيدان في الإجماع العقدي: أجمعوا على أن السجود عبادة فلا يجوز صرفه لغير الله تعالى، وأجمعوا على أن السجود تعبداً لغير الله تعالى من الشرك الأكبر، واتفق المسلمون على أنه لا يسجد لقبر النبي صلى الله عليه وسلم فما بالك بقبر غيره؟ واتفقوا على أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا يستلم ولا يقبل ولا يركع عنده البتة، واتفق الأئمة على النهي عن ما يفعله بعض الأتباع عند كبرائهم من الانحناء بين يديه أو وضع الرأس على الأرض قدامه، أو تقبيل الأرض بين يديه فهذا محرم تحريماً قطعياً ووسيلة من وسائل الشرك بل هو الشرك بعينه إن قصدوا به التقرب والتعبد لهذا الشيخ أو الأمير. انتهى.
والله أعلم.