السؤال
أفعال الرسول (صلى الله عليه وسلم) خمسة أقسام وسؤالي في قسمين منها الثالث والرابع، (أفعاله صلى الله عليه وسلم المطلقة والأخرى التي جاءت تفصيلا لمجمل أو تقييدا لمطلق): عموماً هل أي فعل قام به الرسول (صلى الله عليه وسلم) سواءً في القسم الثالث أو الرابع وواظب عليه طوال حياته ولم يثبت أنه تركه يعني أنه واجب؟ حيث يمكن أن يحتج بهذا البعض قائلين بأن كل فعل التزم به الرسول (صلى الله عليه وسلم) طوال حياته ولم يثبت أنه تركه (صلى الله عليه وسلم) مرة واجب دون النظر في أي أدلة أو آراء بعد ذلك. أرجو تقوية أي كلام بأدلته وبكلام العلماء فيه ما أمكن ذلك. وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فيرى بعض العلماء أن مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على الفعل وعدم تركه: طريق للعلم بوجوب ذلك الفعل، إن لم يكن هناك دليل آخر يدل على عدم وجوبه، جاء في البحر المحيط للزركشي ـ في تعداد الطرق التي بها تعرف جهة الفعل من كونه واجبا ومندوبا ومباحا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ـ: وأما الخاص بالوجوب، فعرف بطرق... رابعها: أن يداوم على الفعل مع عدم ما يدل على عدم الوجوب؛ لأنه لو كان غير واجب لأخل بتركه. اهـ.
وقال الصفي الهندي في (نهاية الوصول في دراية الأصول): أن يداوم على الفعل مع عدم ما يدل على عدم الوجوب، فإن هذا يدل على الوجوب ظاهرًا، لأنه لو كان غير واجب لنصب عليه دليلًا، أو لأخل بتركه لئلا يكون موهمًا لإيجاب ما ليس بواجب. اهـ.
وقال الرازي في (المحصول) في بيان طرق معرفة الندب: رابعها أن يداوم على الفعل ثم يخل به من غير نسخ، فتكون إدامته عليه الصلاة والسلام دليلا على كونه طاعة، وإخلاله به من غير نسخ دليلا على عدم الوجوب. اهـ.
ويرى بعض أهل العلم أن المواظبة على الفعل لا تدل على الوجوب، قال أبو بكر الجصاص الحنفي في «الفصول في الأصول»: إن قيل: لما روي: «أن النبي عليه السلام صلى في شهر رمضان ليلة، أو ليلتين، ثم لم يخرج حتى اجتمعوا بعد ذلك، فلما أصبح قال لهم: خشيت أن تكتب عليكم» فدل على: أن مداومته على فعل الشيء موجب للتأسي به فيه، لولاه لم يكن لقوله: "خشيت أن تكتب عليكم" معنى.
قيل له: هذا من أدل الدلائل على نفي الوجوب من وجهين:
أحدهما: أن كلامنا في ظاهر فعل النبي عليه السلام هل يقتضي الوجوب أم لا؟ ولم نتكلم في المداومة، وقد صلى النبي عليه السلام بهم ليلتين، وأخبر مع ذلك: أنها لم تجب بفعله، فلو كان فعله يقتضي الوجوب لكان قد وجب بأول ليلة.
والثاني: قوله: خشيت أن تكتب عليكم لو داومت، فأخبر: أنها كانت تكتب عليهم من جهة الفعل، ولو كانت مداومته على الفعل تقتضي الوجوب لقال: لو داومت عليها لوجبت بالمداومة، وكان لا يحتاج أن تكتب عليهم بغيرها. اهـ.
والمالكية يسمون ما واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم من القربات: رغائب، ويجعلونها من جملة المستحبات، قال ابن رشد في «المقدمات الممهدات»: وهو -أي المستحب- ينقسم على ثلاثة أقسام: سنن، ورغائب، ونوافل. فالسنن ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفعله واقترن بأمره ما يدل على أن مراده به الندب، أو لم تقترن به قرينة على مذهب من يحمل الأوامر على الندب، ما لم يقترن بها ما يدل أن المراد بها الوجوب. أو ما داوم النبي صلى الله عليه وسلم على فعله، بخلاف صفة النوافل. والرغائب ما داوم النبي صلى الله عليه وسلم على فعله بصفة النوافل أو رغب فيه بقوله من فعل كذا فله كذا. والنوافل ما قرر الشرع أن في فعله ثوابا من غير أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم به أو يرغب فيه أو يداوم على فعله. اهـ.
وقال في مراقي السعود:
رغيبةٌ ما فيه رغَّب النَّبي … بذكر ما فيه من الأجر جُبي
أو دامَ فعلُه بوصفِ النفلِ … والنفلَ من تلك القيودِ أخْلِ
وسُنَّة ما أحمد قد واظبا … عليه والظهور فيه وجبا
قال الشيخ الشنقيطي في «نثر الورود شرح مراقي السعود»: يعني أن الرغيبة في اصطلاح المالكية تطلق على أمرين، الأول: ما رَغَّب فيه النبي صلى الله عليه وسلم بذكر ما فيه من الثواب كقوله: من فعل كذا فله كذا. والثاني: ما داوم صلى الله عليه وسلم على فعله بصفة النفل لا بصفة المسنون. اهـ.
والله أعلم.