السؤال
نعلم أن الحدود يقيمها الإمام ولا يقيمها الأفراد، ولكن لو قُدِّر أن أقام مجموعة من الناس الحد على شخص، ولم يقمه الإمام الحاكم، فهل يسقط الحد عنه، وهل من الضرورة أن يكون الإمام هنا هو الحاكم العام، فلو فُرض أن أقام الحد إمامُ جماعة مسلمة كهذه الجماعات الموجودة اليوم، وخاصة تلك التي لا تعترف بشرعية الأنظمة المعاصرة، أو أقامه إمام جماعة مسلمة في بلد كفر، لا يعترف بالشريعة الإسلامية، كحال تلك الجماعات الموجودة في أوروبا وغيرها، فهل يسقط الحد عنه، أم يكتفى فيه فقط بالتوبة؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلا يجوز لآحاد الناس أو أي جماعة من الجماعات إقامة الحدود، وعدم وجود حاكم يحكم بالشريعة لا يسوغ لآحاد الناس أو أي جماعة منهم إقامة الحدود، بل لا يجوز ذلك.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة بالمملكة العربية السعودية: ولا يقيم الحدود إلا الحاكم المسلم أو من يقوم مقام الحاكم، ولا يجوز لأفراد المسلمين أن يقيموا الحدود لما يلزم على ذلك من الفوضى والفتنة اهـ .
وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: اتفق الفقهاء على أنه لا يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه، وذلك لمصلحة العباد، وهي صيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم. والإمام قادر على الإقامة لشوكته، ومنعته، وانقياد الرعية له قهرا وجبرا، كما أن تهمة الميل والمحاباة والتواني عن الإقامة منتفية في حقه، فيقيمها على وجهه فيحصل الغرض المشروع بيقين. اهـ .
ومن ابتلي بإتيان موجب حد وجب عليه أن يتوب إلى الله توبة نصوحًا، وينبغي له أن يستر نفسه ولا يطالب بإقامة الحد عليه، كما ينبغي لمن علم بفاحشته أن يستر عليه وينصحه، ويمنعه عن المنكر بالوسيلة المشروعة التي يستطيعها، وعلى هذا دلت النصوص الشرعية، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام بعد رجمه الْأَسْلَمِيِّ فقال: اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلَمَّ بِشَيء مِنْهَا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ وَليَتُبْ إلى الله، فَإنَّه مَنْ يُبْدِ لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عليهِ كتابَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. رواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع. وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. رواه مسلم.
وإن صدق العبد في توبته، تاب الله عليه- وإن لم يُقَمْ عليه الحد- كما قال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً* إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً {الفرقان:68-70}.
والتوبة المقبولة شروطها: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما تقدم منه، والعزم على أن لا يعود إليه، وإن تعلق الأمر بحق من حقوق الآدميين: وجب رد الحق إلى صاحبه أو استحلاله منه، وليس من شروطها إقامة الحد، ففي حديث رجم ماعز الذي سبق ذكره: فَمَنْ أَلَمَّ بِشَيء مِنْهَا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ وَليَتُبْ إلى الله.
ولما جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي قَالَ له: وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِر اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ متفق عليه.
قال النووي في شرح مسلم: وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى سُقُوط إِثْم الْمَعَاصِي الْكَبَائِر بِالتَّوْبَةِ، وَهُوَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. اهـ.
وقد فصلنا الكلام على ما تقدم من موضوعات في الفتاوى رقم: 23376، 17547، 49568، 49683، 54406فانظرها.
ونسأل الله أن يتوب على عصاة المسلمين وأن يستر عليهم بستره الجميل، وأن يعفو عنا وعنهم يوم الدين؛ إنه جواد كريم.
والله أعلم.