السؤال
أريد أن أسأل: هل كانت أحكام الشريعة الإسلامية تطبق علنا أمام كل الناس؟ وهل كان يُشهَّر بالفاعل أو العاصي؟
وإذا كان الأمر كذلك. فكيف يأمرنا الإسلام بالستر على المذنبين والعُصاة، والأحكام تطبق علانية ويعرفهم الناس، ويُفضحون، وتفضح أيضا عائلاتهم؟
فمثلاً لو كان الحد هو القتل بأي طريقة، فإن الميت لن يضره التَّشهير به، ومعرفة الناس لذنبه، ولكن ذلك سيضر أهله وأبناءه.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن الشرع رغَّب في ستر العصاة، ورغب العصاةَ أنفسهم بستر أنفسهم وعدم المجاهرة بمعاصيهم.
ففي الحديث: أَيُّهَا النَّاسُ: قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ اللَّهِ. مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا، فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ. فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِي لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ. رواه مالك في الموطأ.
قال ابن عبد البر -رحمه الله- في التمهيد: فِيهِ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّتْرَ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ إِذَا أَتَى فَاحِشَةً. وَوَاجِبٌ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَيْضًا فِي غَيْرِهِ، مَا لَمْ يَكُنْ سُلْطَانًا يُقِيمُ الْحُدُودَ. اهــ.
وحد القصاص في القتل العمد لم يوجب الشرع أن يقام في طائفة من الناس يشاهدونه، فلو أقامه السلطان في السجن بعدد محدود ممن يتولى إقامته، لكفى.
والحد الذي جاء الشرع بأن يشهده الناس هو حد الزنا، كما في قول الله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. {سورة النور:2}.
وهذا لا يتعارض مع الستر الذي جاء به الشرع؛ لعدة أمور:
أولها: من المعلوم أن حد الزنا لا يقام على الشخص إلا بأحد أمرين:
أولهما: أن يعترف هو بالزنا عند الحاكم.
ثانيهما: أن يشهد عليه أربعة شهود عند الحاكم بأنهم رأوه يزني.
وفي كلا الحالين يكون الزاني هو الذي جاهر بمعصيته، وأشهر نفسه وفضحها، وليس التشهير به وفضح أمره بسبب إقامة الحد عليه. هو الذي شهره وفضحه.
ثانيهما: لم تنص الآية على عدد معين من الحضور، وإنما نصت على "طائفة" وقد ورد عن ابن عباس -رضي الله عنه- ومجاهدٌ أن الواحد يكفي؛ لأن الطائفة تطلق على الشخص الواحد.
ثالثها: لو فرضنا أن حضور الناس لإقامة هذا الحد فيه تشهير بالعاصي، فإن هناك مصلحة عظيمة لحضورهم تَرْبو على مصلحة ستره، فقد ذكر العلماء أن حضور طائفة من المؤمنين لإقامة الحد فيه فوائد.
من أعظمها أن مما شرعت له الحدود أن تكون زواجر لكل من تُسوِّل له نفسه ارتكاب تلك الجريمة، وتحقيق هذه الفائدة يقتضي حضور طائفة من الناس؛ ليتناقلوا الخبر ويشيعوه بين الناس.
قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: وَفِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ مِنْ مَقَاصِدِ الْحُدُودِ مَعَ عُقُوبَةِ الْجَانِي أَنْ يَرْتَدِعَ غَيْرُهُ. وَبِحُضُورِ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَتَّعِظُ بِهِ الْحَاضِرُونَ، وَيَزْدَجِرُونَ، وَيَشِيعُ الْحَدِيثُ فِيهِ بِنَقْلِ الْحَاضِرِ إِلَى الْغَائِبِ. انتهى.
ومنها -والله أعلم- أن حضور طائفة المؤمنين لإقامة الحد، ومعرفتهم لسببه، يرفع عن الحاكم تهمة القتل خارج القانون. بينما لو اختفى الشخص ثم عرف فيما بعدُ أن الحاكم قتله، ربما يكون ذلك بابا لمثل تلك التهم.
وكذا يقال في حد قطع يد السارق، فإنه لم يأت الشرع بإشهاد الناس على قطعه -فيما نعلم- ولكن سينزجر من تُسوِّل له نفسه السرقة حين يرى تلك اليد الآثمة قد قُطعت، واستراح الناس من شرها، وهذه مصلحة أكبر من مصلحة ستره.
وأما ما ذكرتَه من الضرر الذي سيلحق بسمعة أهله، فمن المقرر شرعا أن كل نفس بما كسبت رهينة، وأنه ليس على الإنسان شيء من وزر قريبه.
والمجتمع المسلم الذي تربى على هذه المعاني، لن يوجه اللوم والعتاب إلى أقاربه، وإنما يفعل هذا من قلَّ نصيبه من العلم والتربية.
والله أعلم.