فصل : فإذا صح ما ذكرنا أن العمرى والرقبى يملك بهما الرقبى ، فسنشرح المذهب فيها ونبدأ بالعمرى منهما ، وللمعمر في العمرى ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يقول : قد جعلتها لك عمرك .
والثاني : أن يقول : قد جعلتها لك عمري .
والثالث : أن يقول : قد جعلتها لك عمري أنا .
فأما الحال الأول وهو أن ، فلا يخلو في ذلك من ثلاثة أقسام : يقول : قد جعلتها لك عمرك أو حياتك
أحدها : أن يقول : قد جعلتها لك عمرك ولعقبك من بعدك ، أو لورثتك بعدك ، فهذه [ ص: 541 ] عطية جائزة وتمليك صحيح ، قد ملكها المعمر ملكا تاما ثم صارت لورثته من بعده هبة ناجزة وملكا صحيحا ، وتمامها بعد عقد العمرى بالقبض الذي به تتم الهبات ، وليس للمعطي بعد الإقباض الرجوع فيها وإن كان قبله مخيرا .
والقسم الثاني : أن ، فهذه عطية وتمليك فاسد : لأن تمليك الأعيان لا يصح أن يتقدر بمدة ، ولا يجوز أن يجعل على التأبيد لما كان الشرط يقتضي أن يكون فاسدا ثم هي على ملك المعطي سواء أقبض أو لم يقبض ، وله استرجاعها وإن تصرف فيها المعطى ، أو لا يرجع عليه بأجرها مدة تصرفه فيها : لأنه قد أباحه إياها . يقول : قد جعلتها لك مدة عمرك على أنك إذا مت عادت إلي إن كنت حيا ، أو إلى ورثتي إن كنت ميتا
والقسم الثالث : أن كما ذكرنا في القسم الثاني ، ولأن يكون له ولورثته كما ذكرنا في القسم الأول ففيه قولان : أحدهما : وهو قوله في القديم رواه يقول : قد جعلتها لك مدة عمرك ، ولا يشترط أن يرجع إليه بعد موته الزعفراني عنه : أنه عطية باطلة لتقديرها بمدة الحياة ، ولأن جابرا روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : : لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث فجعل صحيح العطية بأن يجعله له ولعقبه ، فإذا لم يجعلها لعقبه لم يصح ، ولأنه تمليك عين قدر بمدة فوجب أن يكون باطلا كما لو قال : بعتك داري هذه عمرك ، ولأنها عمرى مقدرة فوجب أن تكون باطلة كما لو قال : قد أعمرتها سنة ، ولأنه إذا جعلها له مدة عمره فقد يحتمل أن يريد الرجوع إليه بعد موته فيبطل ، ويحتمل أن يريد أن يورث عنه فيصح ، فلم يجز أن يحمل على الصحة مع الاحتمال الفاسد . أيما رجل أعمر له ولعقبه فإنها للذي يعطاها لا يرجع إلى الذي أعطاها
والقول الثاني : وهو الصحيح وبه قال في الجديد وأكثر القديم أنها عطية جائزة وتمليك صحيح يكون للمعطي في حياته ثم لورثته بعد وفاته بقوله عنه : ولرواية لا تعمروا ولا ترقبوا ، فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو سبيل الميراث زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل العمرى للوارث ، ولما روي أن رجلا من الأنصار أعمر أمه عبدا ، فلما توفيت نازعه الورثة فيه فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - به ميراثا فقال الرجل : يا رسول الله ، إنما جعلته لها عمرها فقال عليه السلام : فذلك أبعد لك ولأن الأملاك المستقرة إنما يتقدر زمانها بحياة المالك ، ثم تنتقل بعد موته إلى ورثة المالك ، فلم يكن ما جعله له من الملك مدة حياته منافيا لحكم الأملاك ، وإذا لم تنافيه اقتضى أن يصح ، وإذا صح اقتضى أن يكون موروثا فأما البيع إذا قال : بعتكها مدة حياتك فهو باطل . والفرق بينهما من وجهين :
أحدهما : وهو فرق ابن سريج على هذا الشرط يقتضي فسخا منتظرا ، والبيع إذا كان فيه فسخ منتظر بطل ، والهبة إذا كان فيها فسخ منتظر لم تبطل كهبة الأب ؛ فلذلك بطل البيع بهذا الشرط ، ولم يبطل العمرى بهذا الشرط .
[ ص: 542 ] والفرق الثاني : وهو فرق أبي إسحاق المروزي أن شروط البيع تقابل جزاء من الثمن ، فإذا بطلت سقط ما قابلها منه فأفضى إلى جهالة الثمن ؛ فلذلك بطل البيع بهذا الشرط وليس في العمرى ثمن يقضي هذا الشرط إلى جهالته ؛ فلذلك صحت مع الشروط .
فأما رواية جابر أنه أعمر عمرى له ولعقبه مع باقي الروايات المطلقة التي هي على العموم إذ ليس تتنافى في ذلك ، فإذا قلنا بقوله في القديم أن التمليك للرقبة لا يصح ، فإن الميراث فيها لا يستحق فقد اختلف أصحابنا على هذا القول على وجهين : هل يملك المعمر المعطي الانتفاع بها مدة حياته أم لا ؟
أحدهما : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه قد ملك الانتفاع بها مدة حياته وهذا مذهب مالك .
والوجه الثاني : وهو الصحيح أنه لا يملك الانتفاع بها : لأن التمليك متوجه إلى الرقبة بما ذكرناه ، وإذا بطل لم يجز أن ينتقل إلى ملك المنفعة كالبيع الفاسد ، فعلى هذا الوجه لو تصرف فيها المعطي وانتفع لم يكن عليه أجرة : لأنها مباحة له ولأن كل ما لا يضمن بالعقد الصحيح لا يضمن بالعقد الفاسد ، ولكن لو تلفت في يده ، فإن كان تلفها من غير فعله لم يضمن لما ذكرنا ، وإن كان تلفها بفعله ضمنها : لأنه عدوان ، وهو غير مالك لها ، فهذا حكم قوله : ( قد جعلتها لك مدة عمرك ) ، وإن قلنا بقوله في الجديد أن العطية صحيحة ، وأن العمرى موروثة فلا رجعة للمعمر المعطي فيها بعد القبض .