[ ص: 81 ] النوع التاسع والعشرون
في تلاوته وتاليه وكيفية تلاوته ورعاية حق المصحف الكريم آداب
اعلم أنه ينبغي لمح موقع النعم على من علمه الله تعالى القرآن العظيم أو بعضه ، [ ص: 82 ] بكونه أعظم المعجزات ، لبقائه ببقاء دعوة الإسلام ، ولكونه صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين ، فالحجة بالقرآن العظيم قائمة على كل عصر وزمان لأنه كلام رب العالمين ، وأشرف كتبه جل وعلا ، فلير من عنده القرآن أن الله تعالى أنعم عليه نعمة عظيمة ، وليستحضر من أفعاله أن يكون القرآن حجة له لا عليه ; لأن القرآن مشتمل على طلب أمور ، والكف عن أمور ، وذكر أخبار قوم قامت عليهم الحجة فصاروا عبرة للمعتبرين حين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم ، وأهلكوا لما عصوا ، وليحذر من علم حالهم أن يعصي ، فيصير مآله مآلهم ; فإذا استحضر صاحب القرآن علو شأنه بكونه ظرفا لكتاب الله تعالى ، وصدره مصحفا له انكفتت نفسه عند التوفيق عن الرذائل ، وأقبلت على العمل الصالح الهائل .
وأكبر معين على ذلك حسن ترتيله وتلاوته ، وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : ورتل القرآن ترتيلا ( المزمل : 4 ) وقال تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ( الإسراء : 106 ) فحق على كل امرئ مسلم قرأ القرآن أن يرتله ، تفخيم ألفاظه والإبانة عن حروفه ، والإفصاح لجميعه بالتمديد له حتى يصل بكل ما بعده ، وأن يسكت بين النفس والنفس حتى يرجع إليه نفسه ، وألا يدغم حرفا في حرف ، لأن أقل ما في ذلك أن يسقط من حسناته بعضها ، وينبغي للناس أن يرغبوا في تكثير حسناتهم ; فهذا الذي وصفت وكمال ترتيله
وقيل : أقل الترتيل أن يأتي بما يبين ما يقرأ به ، وإن كان مستعجلا في قراءته ، وأكمله أن يتوقف فيها ما لم يخرجه إلى التمديد والتمطيط ; فمن أراد أن يقرأ القرآن بكمال الترتيل ، فليقرأه على منازله ، فإن كان يقرأ تهديدا لفظ به لفظ المتهدد ، وإن كان يقرأ لفظ تعظيم لفظ به على التعظيم . أقل ما يجب من الترتيل .
وينبغي أن يشتغل قلبه في التفكر في معنى ما يلفظ بلسانه ، فيعرف من كل آية معناها ، [ ص: 83 ] ولا يجاوزها إلى غيرها حتى يعرف معناها ، فإذا مر به آية رحمة وقف عندها وفرح بما وعده الله تعالى منها ، واستبشر إلى ذلك ، وسأل الله برحمته الجنة ، وإن قرأ آية عذاب وقف عندها وتأمل معناها ، فإن كانت في الكافرين اعترف بالإيمان ، فقال : آمنا بالله وحده وعرف موضع التخويف ، ثم سأل الله تعالى أن يعيذه من النار .
وإن هو مر بآية فيها نداء للذين آمنوا فقال : يا أيها الذين آمنوا وقف عندها ، وقد كان بعضهم يقول : لبيك ربي وسعديك ، ويتأمل ما بعدها مما أمر به ونهي عنه ; فيعتقد قبول ذلك . فإن كان من الأمر الذي قد قصر عنه فيما مضى اعتذر عن فعله في ذلك الوقت واستغفر ربه في تقصيره ، وذلك مثل قوله : ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا ( التحريم : 6 ) .
وعلى كل أحد أن ينظر في أمر أهله في صلاتهم وصيامهم وأداء ما يلزمهم في طهاراتهم وجناباتهم ، وحيض النساء ونفاسهن . وعلى كل أحد أن يتفقد ذلك في أهله ، ويراعيهم بمسألتهم عن ذلك ، فمن كان منهم يحسن ذلك كانت مسألته تذكيرا له وتأكيدا لما في قلبه ، وإن كان لا يحسن كان ذلك تعليما له ، ثم هكذا يراعي صغار ولده ويعلمهم إذا بلغوا سبعا أو ثماني سنين ، ويضربهم إذا بلغوا العشر على ترك ذلك ; فمن كان من الناس قد قصر فيما مضى اعتقد قبوله ، والأخذ به فيما يستقبل ، وإن كان يفعل ذلك وقد عرفه ، فإنه إذا مر به تأمله وتفهمه .
وكذلك قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا ( التحريم : 8 ) ، فإذا [ ص: 84 ] قرأ هذه الآية تذكر أفعاله في نفسه وذنوبه فيما بينه وبين غيره من الظلامات والغيبة وغيرها ، ورد ظلامته ، واستغفر من كل ذنب قصر في عمله ، ونوى أن يقوم بذلك ويستحل كل من بينه وبينه شيء من هذه الظلامات وغيرها ، من كان منهم حاضرا ، وأن يكتب إلى من كان غائبا ، وأن يرد ما كان يأخذه على من أخذه منه ، فيعتقد هذا في وقت قراءة القرآن حتى يعلم الله تعالى منه أنه قد سمع وأطاع ; فإذا فعل الإنسان هذا كان قد قام بكمال ترتيل القرآن ، فإذا وقف على آية لم يعرف معناها ، يحفظها حتى يسأل عنها من يعرف معناها ; ليكون متعلما لذلك طالبا للعمل به ، وإن كانت الآية قد اختلف فيها ، اعتقد من قولهم أقل ما يكون ، وإن احتاط على نفسه بأن يعتقد أوكد ما في ذلك كان أفضل له وأحوط لأمر دينه .
وإن كان ما يقرؤه من الآي فيما قص الله على الناس من خبر من مضى من الأمم ، فلينظر في ذلك ، وإلى ما صرف الله عن هذه الأمة منه ، فيجدد لله على ذلك شكرا .
وإن كان ما يقرؤه من الآي مما أمر الله به أو نهى عنه ، أضمر قبول الأمر والائتمار ، والانتهاء عن المنهي والاجتناب له ، فإن كان ما يقرؤه من ذلك وعيدا وعد الله به المؤمنين فلينظر إلى قلبه ، فإن جنح إلى الرجاء فزعه بالخوف ، وإن جنح إلى الخوف فسح له في الرجاء ، حتى يكون خوفه ورجاؤه معتدلين ، فإن ذلك كمال الإيمان .
وإن كان ما يقرؤه من الآي من المتشابه الذي تفرد الله بتأويله ، فليعتقد الإيمان به كما أمر الله تعالى ، فقال : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ( آل عمران : 7 ) يعني عاقبة الأمر منه ، ثم قال تعالى : وما يعلم تأويله إلا الله ( آل عمران : 7 ) .
وإن كان موعظة اتعظ بها ، فإنه إذا فعل هذا فقد نال كمال الترتيل .
[ ص: 85 ] وقال بعضهم : الناس في تلاوة القرآن ثلاثة : مقامات
الأول : فينظر إليه من كلامه ، وتكلمه بخطابه ، وتمليه بمناجاته ، وتعرفه من صفاته ، فإن كل كلمة تنبئ عن معنى اسم أو وصف أو حكم أو إرادة أو فعل لأن الكلام ينبئ عن معاني الأوصاف ، ويدل على الموصوف ، وهذا مقام العارفين من المؤمنين ; لأنه لا ينظر إلى نفسه ، ولا إلى قراءته ، ولا إلى تعلق الإنعام به ، من حيث إنه منعم عليه ، بل هو مقصور الفهم عن المتكلم ، موقوف الفكر عليه ، مستغرق بمشاهدة المتكلم ; ولهذا قال من يشهد أوصاف المتكلم في كلامه ومعرفة معاني خطابه ، : لقد تجلى الله لخلقه بكلامه ولكن لا يبصرون . جعفر بن محمد الصادق
ومن كلام : لو طهرت القلوب لم تشبع من التلاوة للقرآن . الشيخ أبي عبد الله القرشي
الثاني : فمقام هذا الحياء والتعظيم ، وحاله الإصغاء والفهم ، وهذا لعموم المقربين . من يشهد بقلبه كأنه تعالى يخاطبه ويناجيه بألطافه ، ويتملقه بإنعامه وإحسانه ،
الثالث : فمقام هذا السؤال والتمكن ، وحاله الطلب ; وهذا المقام لخصوص أصحاب اليمين ; فإذا كان العبد يلقى السمع من بين يدي سميعه مصغيا إلى سر كلامه ، شهيد القلب لمعاني صفاته ، ناظرا إلى قدرته ، تاركا لمعقوله ومعهود علمه ، متبرئا من حوله وقوته ، معظما للمتكلم ، متفرغا إلى الفهم ، بحال مستقيم ، وقلب سليم ، وصفاء يقين ، وقوة علم وتمكين ، سمع فصل الخطاب وشهد غيب الجواب ; لأن الترتيل في القرآن ، والتدبر لمعاني الكلام ، وحسن الاقتصاد إلى المتكلم في الإفهام ، والإيقاف على المراد ، وصدق الرغبة في الطلب سبب للاطلاع على المطلع من السر المكنون المستودع . من يرى أنه يناجي ربه سبحانه ،
[ ص: 86 ] وكل كلمة من الخطاب تتوجه عشر جهات ، للعارف من كل جهة مقام ومشاهدات : أولها الإيمان بها ، والتسليم لها ، والتوبة إليها ، والصبر عليها ، والرضا بها ، والخوف منها ، والرجاء إليها ، والشكر عليها ، والمحبة لها ، والتوكل فيها . فهذه المقامات العشر هي مقامات المتقين ، وهى منطوية في كل كلمة يشهدها أهل التمكين والمناجاة ، ويعرفها أهل العلم والحياة ، لأن كلام المحبوب حياة للقلوب ، لا ينذر به إلا حي ، ولا يحيا به إلا مستجيب ، كما قال تعالى : لينذر من كان حيا ( يس : 70 ) وقال تعالى : إذا دعاكم لما يحييكم ( الأنفال : 24 ) .
ولا يشهد هذه العشر مشاهدات إلا من يتنقل في العشر المقامات المذكورة في سورة الأحزاب ( الآية : 35 ) ، أولها مقام المسلمين ، وآخرها مقام الذاكرين ، وبعد مقام الذكر هذه المشاهدات العشر ، فعندها لا تمل المناجاة ، لوجود المصافاة ، وعلم كيف تجلى له تلك الصفات الإلهية في طي هذه الأدوات ، ولولا استتار كنه جمال كلامه بكسوة الحروف ، لما ثبت لسماع الكلام عرش ولا ثرى ، ولا تمكن لفهم عظيم الكلام إلا على حد فهم الخلق ، فكل أحد يفهم عنه بفهمه الذي قسم له حكمة منه .
قال بعض العلماء : في ; فالميمات ميادين القرآن ، والراءات بساتين القرآن ، والحاءات مقاصير القرآن ، والمسبحات عرائس القرآن ، والحواميم ديابيج القرآن ، والمفصل رياضه ، وما سوى ذلك . فإذا دخل المريد في الميادين ، وقطف من البساتين ، ودخل المقاصير ، وشهد العرائس ، ولبس الديابيج ، وتنزه في الرياض ، وسكن غرفات المقامات اقتطعه عما سواه ، وأوقفه ما يراه ، وشغله المشاهدة له عما عداه ; ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : القرآن ميادين وبساتين مقاصير ، وعرائس ، وديابيج ، ورياض أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه ، وغرائبه فروضه وحدوده ، فإن القرآن نزل على خمسة : حلال ، وحرام ، ومحكم ، وأمثال ، ومتشابه ، فخذوا الحلال ، ودعوا الحرام ، واعملوا بالمحكم ، وآمنوا بالمتشابه ، واعتبروا بالأمثال .
[ ص: 87 ] وقال رضي الله عنه : لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوها . وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن . ابن مسعود
قال ابن سبع في كتاب " شفاء الصدر " : هذا الذي قال أبو الدرداء - لا يحصل بمجرد تفسيره الظاهر ، وقد قال بعض العلماء : لكل آية ستون ألف فهم ، وما بقي من فهمه أكثر ، وقال آخرون : القرآن يحتوي على سبعة وسبعين ألف علم ، إذ لكل كلمة علم ، ثم يتضاعف ذلك أربعا ، إذ لكل كلمة ظاهر وباطن ، وحد ومطلع . وابن مسعود
وبالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله وصفاته ، وفى القرآن شرح ذاته وصفاته وأفعاله .