( وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير ) .
اتصال هذه الآيات بما قبلها جلي ظاهر ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فقوله تعالى : ( وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) معطوف على قوله تعالى : ( إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك ) إلخ . والمعنى اذكر أيها الرسول للناس يوم يجمع الله الرسل . فيسألهم جميعا عما أجابتهم به أممهم ، إذ يقول لعيسى اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إلخ ، وإذ يقول له بعد ذلك : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ أي يسأله : أقالوا هذا القول بأمر منك أم هم ، افتروه وابتدعوه من عند أنفسهم ؟ [ ص: 219 ] ومعنى قوله : ( من دون الله ) كائنين من دون الله أو حال كونكم متجاوزين بذلك توحيد الله وإفراده بالعبادة . فهذا التعبير يصدق باتخاذ إله أو أكثر مع الله تعالى وهو الشرك ، فإن عبادة الشرك المتخذ غير عبادة الله خالق السماوات والأرض ; سواء اعتقد المشرك أن هذا المتخذ ينفع ويضر بالاستقلال وهو نادر أو اعتقد أنه ينفع ويضر بإقدار الله إياه وتفويضه بعض الأمر إليه فيما وراء الأسباب ، أو بالوساطة عند الله ، أي بحمله تعالى بما له من التأثير والكرامة على النفع والضر ، وهو الأكثر الذي كان عليه مشركو العرب عند البعثة كما حكى الله عنهم في قوله : ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) ( 10 : 18 ) وقوله : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) ( 39 : 3 ) إلخ . وقلما يوجد في متعلمي الحضر من يتخذ إلها غير الله متجاوزا بعبادته الإيمان بالله الذي هو خالق الكون ومدبره ، فإن هو أن تدبير الكون كله صادر عن قوة غيبية لا يدرك أحد كنهها ، فالموحدون أتباع الرسل يتوجهون بعباداتهم القولية والفعلية إلى صاحب هذه القوة الغيبية وحده ، معتقدين أنه هو الفاعل المطلق وحده ، وإن كان فعل ينسب إلى غيره فإنما ينسب إليه كذبا ، أو على أنه فعله بإقدار الله إياه عليه وتسخيره له بمقتضى سننه في خلقه التي قام بها نظام الأسباب والمسببات بمشيئته وحكمته ، والمشركون يتوجهون تارة إليه وتارة إلى بعض ما يستكبرون خصائصه من خلقه ، كالشمس والنجم ، وبعض مواليد الأرض ، وتارة يتوجهون إليهما معا فيجعلون الثاني وسيلة إلى الأول ، ومن يشعر بسلطة غيبية تتجلى له في بعض الخلق فهو يخشى ضرها ويرجو نفعها ، ولا يمتد نظر عقله ولا شعور قلبه إلى سلطة فوقها ولا يتفكر في خلق هذه الأكوان فهو أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان ، فلا يعد من العقلاء المستعدين لفهم الشرائع وحقائق الدين ، على أنه يصدق عليه أنه اتخذ إلها من دون الله ، ولكن هذا النوع من الاتخاذ غير مراد هنا; لأن الذين شرعوا للناس عبادة الإيمان الفطري المغروس في غرائز البشر المسيح وأمه كانوا من شعوب مرتقية حتى في وثنيتها ، ولها فلسفة دقيقة فيها ، وهم اليونان والرومان ، وبعض اليهود المطلعين على تلك الفلسفة جد الاطلاع . وجملة القول : أن اتخاذ إله من دون الله يراد به عبادة غيره سواء كانت خالصة لغيره أو شركة بينه وبين غيره ، ولو بدعاء غيره والتوجه إليه ليكون واسطة عنده ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ) ( 98 : 5 ) .
أما المسيح إلها فقد تقدم بيانه في مواضع من تفسير هذه السورة ، وأما أمه فعبادتها كانت متفقا عليها في الكنائس الشرقية والغربية بعد اتخاذهم قسطنطين ، ثم أنكرت عبادتها فرقة البروتستانت التي حدثت بعد الإسلام بعدة قرون .
إن هذه العبادة التي يوجهها النصارى إلى مريم والدة المسيح ( عليهما السلام ) منها ما هو [ ص: 220 ] صلاة ذات دعاء وثناء واستغاثة واستشفاع ، ومنها صيام ينسب إليها ، ويسمى باسمها ، وكل ذلك يقرن بالخضوع والخشوع لذكرها ولصورها وتماثيلها ، واعتقاد السلطة الغيبية لها التي يمكنها بها في اعتقادهم أن تنفع وتضر في الدنيا والآخرة بنفسها أو بوساطة ابنها ، وقد صرحوا بوجوب العبادة لها ، ولكن لا نعرف عن فرقة من فرقهم إطلاق كلمة ( إله ) عليها ، بل يسمونها ( والدة الإله ) ويصرح بعض فرقهم بأن ذلك حقيقة لا مجاز ، والقرآن يقول هنا : إنهم اتخذوها وابنها إلهين ، والاتخاذ غير التسمية ، فهو يصدق بالعبادة وهي واقعة قطعا ، وبين في آية أخرى أنهم قالوا : ( إن الله هو المسيح ابن مريم ) ( 5 : 17 ، 72 ) وذلك معنى آخر . وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى في أهل الكتاب : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ( 9 : 31 ) أنهم اتبعوهم فيما يحلون ويحرمون لا أنهم سموهم أربابا .
وأول نص صريح رأيته في عبادة النصارى لمريم عبادة حقيقية ما في كتاب ( السواعي ) من كتب الروم الأرثوذكس ، وقد اطلعت على هذا الكتاب في دير يسمى ( بدير البلمند ) وأنا في أول العهد بمعاهد التعليم . وطوائف الكاثوليك يصرحون بذلك ويفاخرون به ، وقد زين الجزويت في بيروت العدد التاسع من السنة السابعة لمجلتهم ( المشرق ) بصورتها وبالنقوش الملونة إذ جعلوه تذكارا لمرور خمسين سنة على إعلان البابا بيوس التاسع أن مريم البتول " حبل بها بلا دنس الخطية " وأثبتوا في هذا العدد عبادة الكنائس الشرقية لمريم كالكنائس الغربية ، ومنه قول ( الأب لويس شيخو ) في مقالة له فيه عن الكنائس الشرقية : ( إن تعبد الكنيسة الأرمنية للبتول الطاهرة أم الله لأمر مشهور " وقوله " قد امتازت الكنيسة القبطية بعبادتها للبتول المغبوطة أم الله " . من يسمع أو يقرأ سؤال الله تعالى لعيسى عن عبادة النصارى .
[ ص: 221 ] له ولأمه تتوق نفسه إلى معرفة جوابه عليه السلام ، وتتوجه إلى السؤال والاستفهام; فلذلك جاء كأمثاله بأسلوب الاستئناف ( قال سبحانك ) بدأ عليه السلام جوابه بتنزيهه إلهه وربه عز وجل عن أن يكون معه إله ، خلافا لمن قال : إن التنزيه هنا إنما هو عن ذلك القول المسئول عنه ، فذهب إلى أن معنى الجملة : أنزهك تنزيها لائقا من أن أقول ذلك ، أو من أن يقال ذلك في حقك ، وظن أن هذا هو الذي يقتضيه سياق النظم ، وستعلم ما فيه من الضعف ، وأن ما اخترناه هو الحق .
وكلمة " سبحان " قيل : إنها علم للتسبيح ، وقيل : إنها مصدر لـ ( سبح ) الثلاثي كالغفران ، واستعملت مضافة باطراد إلا ما شذ في الشعر ، والتسبيح تنزيه الله تعالى عما لا يليق به ، وهو من مادة السبح والسباحة وهي الذهاب السريع البعيد في البحر أو البر ، ومن الثاني سبح الخيل وقالوا : فرس سبوح ( كصبور ) ومثله التقديس من القدس وهو الذهاب البعيد في الأرض ، ثم استعمل التسبيح والتقديس في التنزيه قالوا : إن التسبيح يدل على الإبعاد ولكن عن كل شر وسوء ; ولذا خص بتنزيه الله تعالى ، ويقابله اللعن ، فهو يدل على الإبعاد ولكن عن كل خير وكذلك لفظ الإبعاد والبعد غلب استعماله في مقام الشر ( ألا بعدا لعاد قوم هود ) ( 11 : 60 ) ، ( أولئك في ضلال بعيد ) ( 14 : 3 ) قال الراغب : ، وأصله المر السريع في عبادة الله تعالى ، وجعل ذلك في فعل الخير ، كما جعل الإبعاد في الشر ، فقيل : أبعده الله ، وجعل التسبيح عاما في العبادات قولا كان أو فعلا أو نية اهـ ، ثم أورد الشواهد من الآيات على إطلاق التسبيح بمعنى الصلاة وبمعنى الدلالة على التنزيه كتسبيح السماوات والأرض وما فيهما . والمراد بتسبيح النية العلم والاعتقاد ، وفي كلمة " سبحانك " ومثلها " سبحان الله " مبالغة في هذا التنزيه أي مبالغة ، إذ تدل على المبالغة بمادتها الدالة بمأخذها الاشتقاقي على البعد والإيغال والسبح الطويل في هذا البحر المديد الطويل ، وبصيغتها الأصلية وهي التسبيح التي هي مسمى اسم المصدر ( سبحان ) ومدلوله فإن التفعيل يدل على التكثير ، ثم بالعدول عن هذه الصيغة التي هي مصدر إلى الاسم الذي جعل علما عليها على قول والتسبيح تنزيه الله تعالى فإن اسم المصدر يدل على المصدر ومن المصدر وثباته حقيقته; لأن مدلوله هو لفظ المصدر فانتقال الذهن منه إلى المصدر ومن المصدر إلى المعنى بمنزلة تكرار لفظ المصدر ، بل هو أبلغ وأدل على إرادة الحقيقة دون التجوز ، ولم أر أحدا سبقني إلى بيان هذا على كونه في غاية الظهور عند من تأمله ( ومن شدة الظهور الخفاء ) . ابن جني
قلنا : إن عيسى عليه السلام بدأ جوابه بتنزيه الله عز وجل عن أن يكون معه إله ، فأثبت بهذا إنه على علم يقيني ضروري بأن الله تعالى منزه في ذاته وصفاته عن أن يشارك في ألوهيته ، وانتقل من هذا إلى تبرئة نفسه العالمة بالحق عن قول ما ليس له بحق ، فقال : [ ص: 222 ] ( ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق ) أي ليس من شأني ولا مما يصح وقوعه مني أن أقول قولا ليس لي أدنى حق أن أقوله; لأنك أيدتني بالعصمة من مثل هذا الباطل . ولا يخفى أن هذا أبلغ في البراءة من نفي ذلك القول ، وإنكاره إنكارا مجردا; لأن نفي الشأن يستلزم نفي الفعل نفيا مؤيدا بالدليل ، فهو بتنزيه الله تعالى أولا أثبت أن ذلك القول الذي سئل عنه تمهيدا لإقامة الحجة على من اتخذوه وأمه إلهين قول باطل ليس فيه شائبة من الحق ، ثم قفى على ذلك بأنه ليس من شأنه ولا مما يقع من مثله أن يقول ما ليس له بحق ، فنتيجة المقدمتين الثابتتين إنه لم يقل ذلك القول .
ثم أكد هذه النتيجة بحجة أخرى قاطعة على سبيل الترقي من البرهان الأدنى الراجع إلى نفسه وهو عصمته عليه السلام ، إلى البرهان الأعلى الراجع إلى ربه العلام ، فقال : ( إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ) أي إن كان ذلك القول قد وقع مني فرضا فقد علمته; لأن علمك محيط بكل شيء ، تعلم ما أسره وأخفيه في نفسي ، فكيف لا تعلم ما أظهرته ودعوت إليه فعلمه مني غيري ؟ ولا أعلم ما تخفيه من علومك الذاتية التي لا تهديني إليها بنظر واستدلال كسبي ، إلا ما تظهرني عليه بوحي وهبي . قيل : إن إضافة كلمة " نفس " إلى الله تعالى من باب المشاكلة ، على أنها وردت بغير مقابل يسوغ ذلك ، كقوله تعالى : ( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) ( 6 : 54 ) ، ( ويحذركم الله نفسه ) ( 3 : 28 ، 30 ) وقيل : إنها بمعنى الذات والمهم فهم المعنى من هذا الإطلاق . معروف بالنقل والعقل ، فاستشكال إطلاق الوحي للأسماء مع هذا ضرب من الجهل ( وتنزيه الله تعالى عن مشابهة نفسه لأنفس خلقه إنك أنت علام الغيوب ) أي إنك أنت المحيط بالعلوم الغيبية وحدك; لأن علمك المحيط بكل ما كان وما يكون وما هو كائن علم ذاتي لا منتزع من صور المعلومات ، ولا مستفاد بتلقين ولا بنظر واستدلال ، وإنما علم غيرك منك لا من ذاته ، فإما أن يناله بما آتيته من المشاعر أو العقل ، وإما أن يتلقاه مما تهبه من الإلهام والوحي ، أي وقد علمت أني لم أقل ذلك القول . وشرط " إن " لا يقتضي الوقوع ، ثم إنه بعد تنزيه ربه ، وتبرئة نفسه ، وإقامة البرهانين على براءته ، بين حقيقة ما قاله لقومه; لأن الشهادة عليهم لا تكون تامة كاملة ، بحيث تظهر لهم هنالك حجة الله البالغة ، إلا بإثبات ما كان يجب أن يكونوا عليه من أمر الدين والتوحيد بعد نفي ضده ، فكان من شأن السامع لما سبق من النفي أن يسأل عما قاله في موضوعه ولذلك قال : ( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ) فهذا قول يتضمن إنكار أن يكون أمرهم باتخاذه وأمه إلهين وإثبات ضده ، أي ما قلت لهم في شأن الإيمان وأصل الدين وأساسه الذي يبنى عليه غيره ولا يعتد بغيره دونه ، إلا ما أمرتني بالتزامه اعتقادا وتبليغا وهو الأمر بعبادتك وحدك مع التصريح بأنك ربي وربهم ، وأنني عبد من عبادك مثلهم ، أي إلا أنك خصصتني بالرسالة إليهم . فقوله : ( أن اعبدوا الله ) تفسير للمأمور به ، وإنما [ ص: 223 ] قال : ( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به ) ولم يقل : ما أمرتهم إلا بما أمرتني به ، أدبا مع الله تعالى ومرعاة لما ورد في السؤال ( أأنت قلت ) .
( وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ) أي وكنت قائما عليهم أراقبهم وأشهد على ما يقولون ويفعلون فأقر الحق وأنكر الباطل مدة دوام وجودي بينهم ( فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ) أي فلما توفيتني إليك كنت أنت المراقب لهم وحدك إذ انتهت مدة رسالتي فيهم ومراقبتي لهم وشهادتي عليهم ، فلا أشهد على ما وقع منهم وأنا لست فيهم ، وأنت شهيد عليهم وشهيد بيني وبينهم ، بما أنك شهيد على كل شيء في ملكك ، وأنت أكبر شهادة ممن تجعلهم شهداء من خلقك ( قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم ) ( 6 : 19 ) .
وقد مر في هذه السورة ما يزكي عيسى عليه السلام لنفسه ويؤيد قوله هنا ، وذلك قوله تعالى : ( تبرئة لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) ( 5 : 72 ) فجملة " وقال المسيح يا بني إسرائيل " إلخ . حالية ، أي قالوا قولهم ذلك والحال أن المسيح أمرهم بضده ، وهو أن يعبدوا الله وحده .
وفي أناجيلهم من بقايا التوحيد الذي أمرهم به ما رواه يوحنا في إنجيله عنه وهو قوله عليه السلام ( 7 : 3 وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ، ويسوع المسيح الذي أرسلته ) وفي إنجيل برنابا من تجريد التوحيد والاستدلال عليه بالآيات البينات ما هو جدير بأن يكون وحيا صحيحا من الله تعالى إلى رسوله عيسى عليه الصلاة والسلام .