(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83nindex.php?page=treesubj&link=28973_28675وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون )
الآيات السابقة كانت تذكيرا بالنعم التاريخية الملية ، وبالتقصير في الشكر وعواقبه ، وذلك كالتفضيل على العالمين الذي يرفع النفس ، والإنجاء من آل
فرعون ومن الغرق ، وإيتاء
موسى الكتاب والآيات البينات ، وتسهيل المعيشة عليهم في التيه بما ساق الله إليهم من المن والسلوى ، ثم ما كان منهم في أثر كل نعمة وما أعقبه كفر النعم من النقم . ولم يذكر فيما سبق من الأحكام العملية إلا ما جاء على سبيل التبع لهذه الأصول . وفي هذه الآية وما بعدها التذكير بأمهات الأحكام في العبادات والمعاملات وما كان من إهمالها وترك العمل بها . هذا هو المراد أولا وبالذات على أن فيما يأتي إعادة الإشارة إلى بعض ما مضى ، قضى بها ما كان عليه
اليهود من سوء الفهم وغلظ القلوب وكثرة المشاغبات والمماراة ، فالخطاب معهم دائما في باب الإطناب .
قال الأستاذ الإمام : لاحظ بعض البلغاء والمفسرين أن القرآن يطنب ويبدئ ويعيد في خطاب
اليهود خاصة ، وذلك لما كانت شحنت به أذهانهم مما يسمى علما أو فقها ، فأبعدهم عن أن يصل شعاع الحق إلى ما وراء ذلك في نفوسهم ويكتفي بالإيجاز ، بل بالإشارة الدقيقة في خطاب العرب لما كانوا عليه من سرعة الفهم ورقة الإحساس لقربهم من السذاجة الفطرية ، فالإشارة إلى البرهان في ضمن تمثيل يغني عندهم عن الإسهاب والتطويل ؛ ولذلك خاطبهم بمثل قوله في الأصنام : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=73وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ) ( 22 : 73 ) .
[ ص: 303 ] قوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ) أي واذكر أيها الرسول إذ أخذنا ميثاق
بني إسرائيل ، وقد تقدم ذكر أخذ الميثاق عليهم في سياق خطابهم ، ولم يبينه لعلمهم به ، وقوله هنا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83لا تعبدون إلا الله ) . . . إلخ بيان له - أي للميثاق - لا مقول قول محذوف كما قال المفسر .
يقال : أخذت عليك عهدا تفعل كذا ، كما تقول : أن تفعل كذا سواء ، وهو خبر بمعنى النهي للمبالغة والتأكيد ، يلاحظ فيه أن الأمر والنهي قد امتثل فيخبر بوقوعه ، أو إنه - لتوثيقه والتشديد في تأكيده - سيمتثل حتما فيخبر بأنه كائن لا محالة . ( أقول ) وهذا النهي عن عبادة غير الله مستلزم للأمر بعبادته - تعالى - ولم يصرح به ؛ ولأنهم كانوا يعبدون الله ، وإنما يخشى عليهم الشرك به كما وقع منهم في بعض الأجيال ومن غيرهم من الشعوب ، فالأصل الأول لدين الله على ألسنة جميع رسله هو أن يعبد الله وحده ، ولا يشرك به عبادة أحد سواه من ملك ولا بشر ولا ما دونهما بدعاء ولا بغيره من أنواع العبادة ، كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=36واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ) ( 4 : 36 ) فالتوحيد لا يحصل إلا بالجمع بين الأمرين .
قال - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وبالوالدين إحسانا ) أي وتحسنون
nindex.php?page=treesubj&link=18004_18005_19806بالوالدين إحسانا ، والإحسان نهاية البر فيدخل فيه جميع ما يجب من الرعاية والعناية ، وقد أكد الله الأمر بإكرام الوالدين في التوراة حتى إنه يوجد فيها الآن أن من يسب والديه يقتل ، وقد قرن الأمر بالإحسان بالوالدين إلى الأمر بالتوحيد أو النهي عن الشرك ، فهو كقوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) ( 17 : 23 ) . وليست هذه العناية بأمر الوالدين في الكتب السماوية لكونهما سبب وجود الولد كما يقول الناس ، فإنه لا منة لهما على الولد بهذه السببية ؛ لأنها لم تكن إكراما له ولا عناية به ، كيف وهو لم يكن معروفا أو موجودا فيكرم ! ، وإنما كانت بباعث الشهوة وإرضاء النفس ، ومنهم من لم يكن يخطر بباله الولد إلا بعد الزواج بزمن طويل ، ومنهم من كان يود ألا يولد له ، أو أن يكون له ولد واحد أو ولدان فقط فيكون له أكثر . فإذا كان وجوب الإحسان بالوالدين معلولا لإرادتهما الولد ، فينبغي أن يخص هذا الإحسان بولد لم يكن لهما من الزوجية حظ سواه بعينه ، وهو ما لا وجود له ، ذلك كلام شعري ، والعلة الصحيحة في وجوب هذا الإحسان على الولد هي العناية الصادقة التي بذلاها في تربيته ، والقيام بشئونه أيام كان ضعيفا عاجزا جاهلا ، لا يملك لنفسه نفعا ، ولا يقدر أن يدفع عنها ضررا ، إذ كانا يحوطانه بالعناية والرعاية ، ويكفلانه حتى يقدر على الاستقلال والقيام بشأن نفسه ، فهذا هو الإحسان الذي يكون منهما عن علم واختيار ، بل مع الشغف الصحيح والحنان العظيم ، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان ، وإذا وجب على الإنسان أن يشكر لكل من يساعده على أمر عسير فضله ، ويكافئه بما يليق به على حسب الحال في المساعد ، وما كانت به المساعدة ، فكيف لا يجب أن يكون الشكر للوالدين بعد الشكر لله - تعالى - وهما اللذان كانا يساعدانه على كل شيء أيام كان يتعذر عليه كل شيء ؟ ! .
[ ص: 304 ] وكذلك حب الوالدين للولد ليست علته - كما يقول الناس - كونه جزءا منهما وفلذة كبدهما ، هذا كلام شعري لا حقيقي أيضا ، فإن جسم الإنسان مركب من الأغذية النباتية والحيوانية ، فلو كانت العلة صحيحة ، لكان ينبغي أن يحب الحنطة والغنم أكثر مما يحب والديه ، وإنما لحب الوالدين الولد منبعان : ( أحدهما ) : حنان فطري أودعه الله - تعالى - فيهما لإتمام حكمته ( وثانيهما ) : ما جرت به سنة البشر من التفاخر بالأولاد ، ومن الأمل بالاستفادة منهم في المستقبل ، وليست الفائدة محصورة في المال والعون على المعيشة ، وإنما تتناول الشرف والجاه أيضا .
وكم أب قد علا بابن له شرفا كما علا برسول الله عدنان
ولما كان حب الوالدين للأولاد بمكانة من القوة لا يخشى زوالها ، ترك النص على الإحسان بهم وثنى بالإحسان بمن دونهم في النسب ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83nindex.php?page=treesubj&link=18033وذي القربى ) .
الإحسان هو الذي يقوي غرائز الفطرة ، ويوثق الروابط الطبيعية بين الأقربين حتى تبلغ البيوت في وحدة المصلحة درجة الكمال ، والأمة : تتألف من البيوت ( العائلات ) ، فصلاحها صلاحها ، وهاهنا قال الأستاذ كلمة جليلة وهي : ( ومن لم يكن له بيت لا تكون له أمة ) ، وذلك أن عاطفة التراحم وداعية التعاون إنما تكونان على أشدهما وأكملهما في الفطرة بين الوالدين والأولاد ، ثم بين سائر الأقربين ، فمن فسدت فطرته حتى لا خير فيه لأهله ، فأي خير يرجى منه للبعداء والأبعدين ؟ ومن لا خير فيه للناس لا يصلح أن يكون جزءا من بنية أمة ؛ لأنه لم تنفع فيه اللحمة النسبية التي هي أقوى لحمة طبيعية تصل بين الناس ، فأي لحمة بعدها تصله بغير الأهل فتجعله جزءا منهم يسره ما يسرهم ويؤلمه ما يؤلمهم ، ويرى منفعتهم عين منفعته ومضرتهم عين مضرته ، وهو ما يجب على كل شخص لأمته ؟ قضى نظام الفطرة بأن تكون نعرة القرابة أقوى من كل نعرة ، وصلتها أمتن من كل صلة ، فجاء الدين يقدم حقوق الأقربين على سائر الحقوق ، وجعل حقوقهم على حسب قربهم من الشخص .
ثم ذكر حقوق أهل الحاجة من سائر الناس فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83واليتامى والمساكين ) ، واليتيم هو من مات أبوه وهو صغير ، وقد قدم الوصية به على الوصية بالمسكين ، ولم يقيدها بفقر ولا مسكنة ، فعلم أنها مقصودة لذاتها .
قال الأستاذ الإمام : أكد الله - تعالى - الوصية باليتيم ، وفي القرآن والسنة كثير من هذه الوصايا ، وحسبك أن القرآن نهى عن
nindex.php?page=treesubj&link=19814_33307قهر اليتيم وشدد الوعيد على أكل ماله تشديدا خاصا ، ولو كان السر في ذلك غلبة المسكنة على اليتامى ، لاكتفى هنا بذكر المساكين . كلا إن السر في ذلك هو كون اليتيم لا يجد في الغالب من تبعثه عاطفة الرحمة الفطرية على العناية بتربيته والقيام بحفظ حقوقه ، والعناية بأموره الدينية والدنيوية ، فإن الأم إن وجدت تكون في الأغلب عاجزة ، ولا سيما إذا تزوجت بعد أبيه ، فأراد الله - تعالى - وهو أرحم الراحمين بما أكد من الوصية بالأيتام
[ ص: 305 ] أن يكونوا من الناس بمنزلة أبنائهم يربونهم تربية دينية دنيوية ؛ لئلا يفسدوا ويفسد بهم غيرهم ، فينتشر الفساد في الأمة فتنحل انحلالا ، فالعناية بتربية اليتامى هي الذريعة لمنع كونهم قدوة سيئة لسائر الأولاد . والتربية لا تتيسر مع وجود هذه القدوة ، فإهمال اليتامى إهمال لسائر أولاد الأمة .
أما المساكين فلا يراد بهم هؤلاء السائلون الشحاذون الملحفون الذين يقدرون على كسب ما يفي بحاجاتهم ، أو يجدون ما ينفقون ولو لم يكتسبوا ، إلا أنهم اتخذوا السؤال حرفة ، يبتغون بها الثروة من حيث لا يعملون عملا ينفع الناس ، ولكن
nindex.php?page=treesubj&link=3140المسكين من يعجز عن كسب يكفيه .
وأما قوله - عز وجل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83nindex.php?page=treesubj&link=28973_32614وقولوا للناس حسنا ) فهو كلام جديد له شأن مخصوص ، ولذلك تغير فيه الأسلوب ، فلم يرد على النسق الذي قبله مع دخوله في الميثاق ، فإنه بين فيما سبق الحقوق العملية وعبر عنها بالإحسان ، ويستحيل أن يحسن الإنسان بالفعل إلى جميع الناس ؛ لأنه لا يمكن أن يعامل جميع الناس ، فالذين لا بد له من معاملتهم هم أهل بيته وأقاربه الذين ينشأ فيهم ويتربى بينهم ، فجاء النص بوجوب الإحسان في معاملتهم لتصلح بذلك حال البيوت .
ثم إن اليتامى والمساكين من قومه هم الذين لا يستغنون عن إحسانه وإحسان أمثاله بالفعل ؛ لأنه لا قيم للأولين ، ولا غناء عند الآخرين ، ففرض عليه أن يجعل لهم حظا منه . ثم بعد بيان ما به إصلاح البيوت من إعانة الأقربين ، وما به صلاح بعض العامة من معونة اليتامى والمساكين على إصلاح بيوتهم ، بقي بيان حقوق سائر الأمة ، وهي النصيحة لهم ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم ، فهذا هو معنى قوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وقولوا للناس حسنا ) ، وليس معناه مجرد التلطف بالقول والمجاملة في الخطاب ، فالحسن هو النافع في الدين أو الدنيا ، وهو لا يخرج عما ذكرنا ، فلما كان هذا النوع من الحقوق مستقلا بذاته جاء بأسلوب آخر ، ولا شك أن في القيام بهذه الفرائض إصلاح الأمة كلها .
جاء الأمر بالعبادة مجملا ليعلم الإنسان أنه مكلف بكل فرد من أفرادها بحسب الطاقة ، ولكن من العبادة ما لا يهتدي إليه الإنسان إلا بهداية إلهية ، وأكبر ذلك النوع إقامة الصلاة لإصلاح نفوس الأفراد ، وإيتاء الزكاة لإصلاح شئون الاجتماع ؛ لذلك قال - تعالى - - بعد ما تقدم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83nindex.php?page=treesubj&link=28973وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) ، وإنما إقامة الصلاة بالإخلاص لله والصدق في التوجه إليه والخشوع لعظمته وجلاله والاستكانة لعز سلطانه ، ولا تكون بمجرد
nindex.php?page=treesubj&link=25353الإتيان بصورة الصلاة ورسومها الظاهرة ، ولو كان هذا هو المراد لما وصفهم بالتولي والإعراض عنه ؛ فإنهم ما أعرضوا عن صورة الصلاة إلى ذلك اليوم الذي ذكرهم فيه بهذه الآيات وإلى هذا اليوم أيضا . وأما الزكاة فقد كان بعض أحبارهم يزعم أنها تلك المحرقات والقرابين المفروضة لتكفير الخطايا أو شكر الله - تعالى - على إخراجهم من
مصر وغير ذلك من النعم . وليس الأمر كذلك ،
[ ص: 306 ] فإن لهم زكوات مالية ، منها مال مخصوص يؤدى
لآل هارون وهو إلى الآن في ( اللاويين ) ، ومنها مال للمساكين ، ومنها ما يؤخذ من ثمرات الأرض ، ومنها سبت الأرض ، وهو تركها في كل سبع سنين مرة بلا حرث ولا زرع ، وكل ما يخرج منها في تلك السنة ، فهو صدقة .
قال - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83nindex.php?page=treesubj&link=28973_31931ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ) أي ثم كان من أمركم بعد هذا الميثاق الذي فيه سعادتكم ، أن توليتم عن العمل به ، وأنتم في حالة الإعراض عنه وعدم الاكتراث له ، وقد يتولى الإنسان منصرفا عن شيء وهو عازم على أن يعود إليه ويوفيه حقه ، فليس كل متول عن شيء معرضا عنه ومهملا له على الدوام ؛ لذلك كان ذكر هذا القيد (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وأنتم معرضون ) لازما لا بد منه ، وليس تكرارا كما يتوهم ، وإنما هو متمم للمعنى ، ومؤكد للمبالغة في الترك المستفاد من التولي .
قال الأستاذ الإمام : ولا حاجة إلى ما زاده المفسر من قوله : ( ( فقبلتم ذلك ) ليعطف عليه ( ثم توليتم ) ، فالمقام مقام وعيد وزجر وتوبيخ ، وفي كلمة ( ثم ) نفسها ما يفيد أن التولي لم يكن عقب أخذ الميثاق .
وقد كان سبب ذلك التولي مع الإعراض أن الله أمرهم أن لا يأخذوا الدين إلا في كتابه ، فاتخذوا أحبارهم أربابا من دون الله يحلون برأيهم ويحرمون ، ويبيحون باجتهادهم ويحظرون ، ويزيدون في الأحكام والشرائع ، ويضعون ما شاءوا من الاحتفالات والشعائر ، فصدق عليهم أنهم اتخذوا من دونه شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ، فإن الله هو الذي يضع الدين وحده ، وإنما العلماء أدلاء يستعان بهم على فهم كتابه وما شرع على ألسنة رسله ، وقد اتبع سنن
اليهود في هذا التشريع جميع من بعدهم من أهل الملل ، وحكم الجميع عند الله - تعالى - واحد لا يختلف ، فهو لا يحابي أحدا (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=49ولا يظلم ربك أحدا ) ( 18 : 49 ) وكذلك كانوا قد قطعوا صلات القرابة ، وبخلوا بالنفقة الواجبة ، وتركوا النهي عن المنكر ، وفقدوا روح الصلاة ومنعوا الزكاة ، ولكنهم الآن عادوا إلى بعض ما تركوا ، ولم يعد الذين تشبهوا بهم أو اتبعوا بغير شعور سنتهم ، والأمر لله العلي الكبير .
وأما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83إلا قليلا منكم ) فهو استثناء لبعض من كانوا في زمن سيدنا
موسى - عليه السلام - أو في كل زمن ، فإنه لا تخلو أمة من الأمم من المخلصين الذين يحافظون على الحق بحسب معرفتهم وقدر طاقتهم . والحكمة في ذكر هذا الاستثناء عدم بخس المحسنين حقهم ، وبيان أن وجود قليل من الصالحين في الأمة لا يمنع عنها العقاب الإلهي إذا فشا فيها المنكر ، وقل المعروف .
لو تدبر جهالنا هذه الآية ، لعلموا أنهم مغرورون بالاعتماد على الأقطاب والأوتاد والأبدال في تحمل البلاء عنهم ، ومنع العذاب أن ينزل بالأمة ببركتهم ، فلو فرض أن هؤلاء الأقطاب
[ ص: 307 ] موجودون حقيقة ، فإن وجودهم لا يغني عن الأمة شيئا ، وقد عصى الله جماهيرها وقضوا ميثاقه الذي واثقهم به ، فقد جرت سنته - تعالى - في خلقه بأن بقاء الأمم عزيزة إنما يكون بمحافظة الجماهير فيها على الأخلاق والأعمال التي تكون بها العزة ويحفظ بها المجد والشرف .
ومن لم يعتبر بآيات الله في كتابه ، لا يعتبر بآياته وسننه في خلقه ، فقد فتن المسلمون في دينهم ودنياهم ، وحل بجميع بلادهم ما حل من البلاء وهم لا يعتبرون ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=24أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) ( 47 : 24 ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=125أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ) ( 9 : 126 ) .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83nindex.php?page=treesubj&link=28973_28675وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ )
الْآيَاتُ السَّابِقَةُ كَانَتْ تَذْكِيرًا بِالنِّعَمِ التَّارِيخِيَّةِ الْمَلِيَّةِ ، وَبِالتَّقْصِيرِ فِي الشُّكْرِ وَعَوَاقِبِهِ ، وَذَلِكَ كَالتَّفْضِيلِ عَلَى الْعَالَمِينَ الَّذِي يَرْفَعُ النَّفْسَ ، وَالْإِنْجَاءِ مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ وَمِنَ الْغَرَقِ ، وَإِيتَاءِ
مُوسَى الْكِتَابَ وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ ، وَتَسْهِيلِ الْمَعِيشَةِ عَلَيْهِمْ فِي التِّيهِ بِمَا سَاقَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى ، ثُمَّ مَا كَانَ مِنْهُمْ فِي أَثَرِ كُلِّ نِعْمَةٍ وَمَا أَعْقَبَهُ كُفْرُ النِّعَمِ مِنَ النِّقَمِ . وَلَمْ يَذْكُرْ فِيمَا سَبَقَ مِنَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ إِلَّا مَا جَاءَ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ لِهَذِهِ الْأُصُولِ . وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا بَعْدَهَا التَّذْكِيرُ بِأُمَّهَاتِ الْأَحْكَامِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَمَا كَانَ مِنْ إِهْمَالِهَا وَتَرْكِ الْعَمَلِ بِهَا . هَذَا هُوَ الْمُرَادُ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ عَلَى أَنَّ فِيمَا يَأْتِي إِعَادَةَ الْإِشَارَةِ إِلَى بَعْضِ مَا مَضَى ، قَضَى بِهَا مَا كَانَ عَلَيْهِ
الْيَهُودُ مِنْ سُوءِ الْفَهْمِ وَغِلَظِ الْقُلُوبِ وَكَثْرَةِ الْمُشَاغَبَاتِ وَالْمُمَارَاةِ ، فَالْخِطَابُ مَعَهُمْ دَائِمًا فِي بَابِ الْإِطْنَابِ .
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : لَاحَظَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ وَالْمُفَسِّرِينَ أَنَّ الْقُرْآنَ يُطْنِبُ وَيُبْدِئُ وَيُعِيدُ فِي خِطَابِ
الْيَهُودِ خَاصَّةً ، وَذَلِكَ لِمَا كَانَتْ شُحِنَتْ بِهِ أَذْهَانُهُمْ مِمَّا يُسَمَّى عِلْمًا أَوْ فِقْهًا ، فَأَبْعَدَهُمْ عَنْ أَنْ يَصِلَ شُعَاعُ الْحَقِّ إِلَى مَا وَرَاءِ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ وَيَكْتَفِي بِالْإِيجَازِ ، بَلْ بِالْإِشَارَةِ الدَّقِيقَةِ فِي خِطَابِ الْعَرَبِ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ سُرْعَةِ الْفَهْمِ وَرِقَّةِ الْإِحْسَاسِ لِقُرْبِهِمْ مِنَ السَّذَاجَةِ الْفِطْرِيَّةِ ، فَالْإِشَارَةُ إِلَى الْبُرْهَانِ فِي ضِمْنِ تَمْثِيلٍ يُغْنِي عِنْدَهُمْ عَنِ الْإِسْهَابِ وَالتَّطْوِيلِ ؛ وَلِذَلِكَ خَاطَبَهُمْ بِمِثْلِ قَوْلِهِ فِي الْأَصْنَامِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=73وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) ( 22 : 73 ) .
[ ص: 303 ] قَوْلُهُ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) أَيْ وَاذْكُرْ أَيُّهَا الرَّسُولُ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ فِي سِيَاقِ خِطَابِهِمْ ، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ لِعِلْمِهِمْ بِهِ ، وَقَوْلُهُ هُنَا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ) . . . إِلَخْ بَيَانٌ لَهُ - أَيْ لِلْمِيثَاقِ - لَا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ .
يُقَالُ : أَخَذْتُ عَلَيْكَ عَهْدًا تَفْعَلُ كَذَا ، كَمَا تَقُولُ : أَنْ تَفْعَلَ كَذَا سَوَاءٌ ، وَهُوَ خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالتَّأْكِيدِ ، يُلَاحَظُ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ قَدِ امْتَثَلَ فَيُخْبِرُ بِوُقُوعِهِ ، أَوْ إِنَّهُ - لِتَوْثِيقِهِ وَالتَّشْدِيدِ فِي تَأْكِيدِهِ - سَيَمْتَثِلُ حَتْمًا فَيُخْبِرُ بِأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ . ( أَقُولُ ) وَهَذَا النَّهْيُ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ - تَعَالَى - وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِ ؛ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ ، وَإِنَّمَا يَخْشَى عَلَيْهِمُ الشِّرْكَ بِهِ كَمَا وَقَعَ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْأَجْيَالِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الشُّعُوبِ ، فَالْأَصْلُ الْأَوَّلُ لِدِينِ اللَّهِ عَلَى أَلْسِنَةِ جَمِيعِ رُسُلِهِ هُوَ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ ، وَلَا يُشْرَكَ بِهِ عِبَادَةُ أَحَدٍ سِوَاهُ مِنْ مَلَكٍ وَلَا بَشَرٍ وَلَا مَا دُونَهُمَا بِدُعَاءٍ وَلَا بِغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ ، كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=36وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ) ( 4 : 36 ) فَالتَّوْحِيدُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ .
قَالَ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) أَيْ وَتُحْسِنُونَ
nindex.php?page=treesubj&link=18004_18005_19806بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ، وَالْإِحْسَانُ نِهَايَةُ الْبِرِّ فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ مَا يَجِبُ مِنَ الرِّعَايَةِ وَالْعِنَايَةِ ، وَقَدْ أَكَّدَ اللَّهُ الْأَمْرَ بِإِكْرَامِ الْوَالِدَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ حَتَّى إِنَّهُ يُوجَدُ فِيهَا الْآنَ أَنَّ مَنْ يَسُبُّ وَالِدَيْهِ يُقْتَلُ ، وَقَدْ قَرَنَ الْأَمْرَ بِالْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ إِلَى الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ أَوِ النَّهْيِ عَنِ الشِّرْكِ ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=23وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) ( 17 : 23 ) . وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْعِنَايَةُ بِأَمْرِ الْوَالِدَيْنِ فِي الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ لِكَوْنِهِمَا سَبَبَ وُجُودِ الْوَلَدِ كَمَا يَقُولُ النَّاسُ ، فَإِنَّهُ لَا مِنَّةَ لَهُمَا عَلَى الْوَلَدِ بِهَذِهِ السَّبَبِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ إِكْرَامًا لَهُ وَلَا عِنَايَةً بِهِ ، كَيْفَ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا أَوْ مَوْجُودًا فَيُكْرَمُ ! ، وَإِنَّمَا كَانَتْ بِبَاعِثِ الشَّهْوَةِ وَإِرْضَاءِ النَّفْسِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ بِبَالِهِ الْوَلَدُ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَاجِ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَوَدُّ أَلَّا يُولَدَ لَهُ ، أَوْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ وَاحِدٌ أَوْ وَلَدَانِ فَقَطْ فَيَكُونَ لَهُ أَكْثَرُ . فَإِذَا كَانَ وُجُوبُ الْإِحْسَانِ بِالْوَالِدَيْنِ مَعْلُولًا لِإِرَادَتِهِمَا الْوَلَدَ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَصَّ هَذَا الْإِحْسَانُ بِوَلَدٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مِنَ الزَّوْجِيَّةِ حَظٌّ سِوَاهُ بِعَيْنِهِ ، وَهُوَ مَا لَا وُجُودَ لَهُ ، ذَلِكَ كَلَامٌ شِعْرِيٌّ ، وَالْعِلَّةُ الصَّحِيحَةُ فِي وُجُوبِ هَذَا الْإِحْسَانِ عَلَى الْوَلَدِ هِيَ الْعِنَايَةُ الصَّادِقَةُ الَّتِي بَذَلَاهَا فِي تَرْبِيَتِهِ ، وَالْقِيَامِ بِشُئُونِهِ أَيَّامَ كَانَ ضَعِيفًا عَاجِزًا جَاهِلًا ، لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهَا ضَرَرًا ، إِذْ كَانَا يَحُوطَانِهِ بِالْعِنَايَةِ وَالرِّعَايَةِ ، وَيَكْفُلَانِهِ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ وَالْقِيَامِ بِشَأْنِ نَفْسِهِ ، فَهَذَا هُوَ الْإِحْسَانُ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُمَا عَنْ عِلْمٍ وَاخْتِيَارٍ ، بَلْ مَعَ الشَّغَفِ الصَّحِيحِ وَالْحَنَانِ الْعَظِيمِ ، وَمَا جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَشْكُرَ لِكُلِّ مَنْ يُسَاعِدُهُ عَلَى أَمْرٍ عَسِيرٍ فَضْلَهُ ، وَيُكَافِئَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ عَلَى حَسَبِ الْحَالِ فِي الْمُسَاعِدِ ، وَمَا كَانَتْ بِهِ الْمُسَاعَدَةُ ، فَكَيْفَ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الشُّكْرُ لِلْوَالِدَيْنِ بَعْدَ الشُّكْرِ لِلَّهِ - تَعَالَى - وَهُمَا اللَّذَانِ كَانَا يُسَاعِدَانِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ أَيَّامَ كَانَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ ؟ ! .
[ ص: 304 ] وَكَذَلِكَ حُبُّ الْوَالِدَيْنِ لِلْوَلَدِ لَيْسَتْ عِلَّتُهُ - كَمَا يَقُولُ النَّاسُ - كَوْنَهُ جُزْءًا مِنْهُمَا وَفِلْذَةَ كَبِدِهِمَا ، هَذَا كَلَامٌ شِعْرِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ أَيْضًا ، فَإِنَّ جِسْمَ الْإِنْسَانِ مُرَكَّبٌ مِنَ الْأَغْذِيَةِ النَّبَاتِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ ، فَلَوْ كَانَتِ الْعِلَّةُ صَحِيحَةً ، لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُحِبَّ الْحِنْطَةَ وَالْغَنَمَ أَكْثَرَ مِمَّا يُحِبُّ وَالِدَيْهِ ، وَإِنَّمَا لِحُبِّ الْوَالِدَيْنِ الْوَلَدَ مَنْبَعَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) : حَنَانٌ فِطْرِيٌّ أَوْدَعَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فِيهِمَا لِإِتْمَامِ حِكْمَتِهِ ( وَثَانِيهُمَا ) : مَا جَرَتْ بِهِ سُنَّةُ الْبَشَرِ مِنَ التَّفَاخُرِ بِالْأَوْلَادِ ، وَمِنَ الْأَمَلِ بِالِاسْتِفَادَةِ مِنْهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَلَيْسَتِ الْفَائِدَةُ مَحْصُورَةً فِي الْمَالِ وَالْعَوْنِ عَلَى الْمَعِيشَةِ ، وَإِنَّمَا تَتَنَاوَلُ الشَّرَفَ وَالْجَاهَ أَيْضًا .
وَكَمْ أَبٍ قَدْ عَلَا بِابْنٍ لَهُ شَرَفًا كَمَا عَلَا بِرَسُولِ اللَّهِ عَدْنَانُ
وَلَمَّا كَانَ حُبُّ الْوَالِدَيْنِ لِلْأَوْلَادِ بِمَكَانَةٍ مِنَ الْقُوَّةِ لَا يُخْشَى زَوَالُهَا ، تَرَكَ النَّصَّ عَلَى الْإِحْسَانِ بِهِمْ وَثَنَّى بِالْإِحْسَانِ بِمَنْ دُونَهُمْ فِي النَّسَبِ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83nindex.php?page=treesubj&link=18033وَذِي الْقُرْبَى ) .
الْإِحْسَانُ هُوَ الَّذِي يُقَوِّي غَرَائِزَ الْفِطْرَةِ ، وَيُوَثِّقُ الرَّوَابِطَ الطَّبِيعِيَّةَ بَيْنَ الْأَقْرَبِينَ حَتَّى تَبْلُغَ الْبُيُوتُ فِي وَحْدَةِ الْمَصْلَحَةِ دَرَجَةَ الْكَمَالِ ، وَالْأُمَّةُ : تَتَأَلَّفُ مِنَ الْبُيُوتِ ( الْعَائِلَاتِ ) ، فَصَلَاحُهَا صَلَاحُهَا ، وَهَاهُنَا قَالَ الْأُسْتَاذُ كَلِمَةً جَلِيلَةً وَهِيَ : ( وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْتٌ لَا تَكُونُ لَهُ أُمَّةٌ ) ، وَذَلِكَ أَنَّ عَاطِفَةَ التَّرَاحُمِ وَدَاعِيَةَ التَّعَاوُنِ إِنَّمَا تَكُونَانِ عَلَى أَشَدِّهِمَا وَأَكْمَلِهِمَا فِي الْفِطْرَةِ بَيْنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَوْلَادِ ، ثُمَّ بَيْنَ سَائِرِ الْأَقْرَبِينَ ، فَمَنْ فَسَدَتْ فِطْرَتُهُ حَتَّى لَا خَيْرَ فِيهِ لِأَهْلِهِ ، فَأَيُّ خَيْرٍ يُرْجَى مِنْهُ لِلْبُعَدَاءِ وَالْأَبْعَدِينَ ؟ وَمَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ لِلنَّاسِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ بِنْيَةِ أُمَّةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَنْفَعْ فِيهِ اللُّحْمَةُ النَّسَبِيَّةُ الَّتِي هِيَ أَقْوَى لُحْمَةٍ طَبِيعِيَّةٍ تَصِلُ بَيْنَ النَّاسِ ، فَأَيُّ لُحْمَةٍ بَعْدَهَا تَصِلُهُ بِغَيْرِ الْأَهْلِ فَتَجْعَلُهُ جُزْءًا مِنْهُمْ يَسُرُّهُ مَا يَسُرُّهُمْ وَيُؤْلِمُهُ مَا يُؤْلِمُهُمْ ، وَيَرَى مَنْفَعَتَهُمْ عَيْنَ مَنْفَعَتِهِ وَمَضَرَّتَهُمْ عَيْنَ مَضَرَّتِهِ ، وَهُوَ مَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ شَخْصٍ لِأُمَّتِهِ ؟ قَضَى نِظَامُ الْفِطْرَةِ بِأَنْ تَكُونَ نَعْرَةُ الْقَرَابَةِ أَقْوَى مَنْ كُلِّ نَعْرَةٍ ، وَصِلَتُهَا أَمْتَنَ مَنْ كُلِّ صِلَةٍ ، فَجَاءَ الدِّينُ يُقَدِّمُ حُقُوقَ الْأَقْرَبِينَ عَلَى سَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَجَعْلَ حُقُوقِهِمْ عَلَى حَسَبِ قُرْبِهِمْ مِنَ الشَّخْصِ .
ثُمَّ ذَكَرَ حُقُوقَ أَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ) ، وَالْيَتِيمُ هُوَ مَنْ مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ صَغِيرٌ ، وَقَدْ قَدَّمَ الْوَصِيَّةَ بِهِ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْمِسْكِينِ ، وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِفَقْرٍ وَلَا مَسْكَنَةٍ ، فَعُلِمَ أَنَّهَا مَقْصُودَةٌ لِذَاتِهَا .
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : أَكَّدَ اللَّهُ - تَعَالَى - الْوَصِيَّةَ بِالْيَتِيمِ ، وَفِي الْقُرْآنِ وَالسَّنَةِ كَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْوَصَايَا ، وَحَسْبُكَ أَنَّ الْقُرْآنَ نَهَى عَنْ
nindex.php?page=treesubj&link=19814_33307قَهْرِ الْيَتِيمِ وَشَدَّدَ الْوَعِيدَ عَلَى أَكْلِ مَالِهِ تَشْدِيدًا خَاصًّا ، وَلَوْ كَانَ السِّرُّ فِي ذَلِكَ غَلَبَةَ الْمَسْكَنَةِ عَلَى الْيَتَامَى ، لَاكْتَفَى هُنَا بِذِكْرِ الْمَسَاكِينِ . كَلَّا إِنَّ السِّرَّ فِي ذَلِكَ هُوَ كَوْنُ الْيَتِيمِ لَا يَجِدُ فِي الْغَالِبِ مَنْ تَبْعَثُهُ عَاطِفَةُ الرَّحْمَةِ الْفِطْرِيَّةِ عَلَى الْعِنَايَةِ بِتَرْبِيَتِهِ وَالْقِيَامِ بِحِفْظِ حُقُوقِهِ ، وَالْعِنَايَةِ بِأُمُورِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ ، فَإِنَّ الْأُمَّ إِنْ وُجِدَتْ تَكُونُ فِي الْأَغْلَبِ عَاجِزَةً ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ أَبِيهِ ، فَأَرَادَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ بِمَا أَكَّدَ مِنَ الْوَصِيَّةِ بِالْأَيْتَامِ
[ ص: 305 ] أَنْ يَكُونُوا مِنَ النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ أَبْنَائِهِمْ يُرَبُّونَهُمْ تَرْبِيَةً دِينِيَّةً دُنْيَوِيَّةً ؛ لِئَلَّا يَفْسُدُوا وَيَفْسُدَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ ، فَيَنْتَشِرُ الْفَسَادُ فِي الْأُمَّةِ فَتَنْحَلُّ انْحِلَالًا ، فَالْعِنَايَةُ بِتَرْبِيَةِ الْيَتَامَى هِيَ الذَّرِيعَةُ لِمَنْعِ كَوْنِهِمْ قُدْوَةً سَيِّئَةً لِسَائِرِ الْأَوْلَادِ . وَالتَّرْبِيَةُ لَا تَتَيَسَّرُ مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الْقُدْوَةِ ، فَإِهْمَالُ الْيَتَامَى إِهْمَالٌ لِسَائِرِ أَوْلَادِ الْأُمَّةِ .
أَمَّا الْمَسَاكِينُ فَلَا يُرَادُ بِهِمْ هَؤُلَاءِ السَّائِلُونَ الشَّحَّاذُونَ الْمُلْحِفُونَ الَّذِينَ يَقْدِرُونَ عَلَى كَسْبِ مَا يَفِي بِحَاجَاتِهِمْ ، أَوْ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ وَلَوْ لَمْ يَكْتَسِبُوا ، إِلَّا أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا السُّؤَالَ حِرْفَةً ، يَبْتَغُونَ بِهَا الثَّرْوَةَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْمَلُونَ عَمَلًا يَنْفَعُ النَّاسَ ، وَلَكِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=3140الْمِسْكِينَ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ كَسْبٍ يَكْفِيهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83nindex.php?page=treesubj&link=28973_32614وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ) فَهُوَ كَلَامٌ جَدِيدٌ لَهُ شَأْنٌ مَخْصُوصٌ ، وَلِذَلِكَ تَغَيَّرَ فِيهِ الْأُسْلُوبُ ، فَلَمْ يَرِدْ عَلَى النَّسَقِ الَّذِي قَبْلَهُ مَعَ دُخُولِهِ فِي الْمِيثَاقِ ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ فِيمَا سَبَقَ الْحُقُوقَ الْعَمَلِيَّةَ وَعَبَّرَ عَنْهَا بِالْإِحْسَانِ ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُحْسِنَ الْإِنْسَانُ بِالْفِعْلِ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَامِلَ جَمِيعَ النَّاسِ ، فَالَّذِينَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُعَامَلَتِهِمْ هُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ وَأَقَارِبِهِ الَّذِينَ يَنْشَأُ فِيهِمْ وَيَتَرَبَّى بَيْنَهُمْ ، فَجَاءَ النَّصُّ بِوُجُوبِ الْإِحْسَانِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ لِتَصْلُحَ بِذَلِكَ حَالُ الْبُيُوتِ .
ثُمَّ إِنَّ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ مِنْ قَوْمِهِ هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْ إِحْسَانِهِ وَإِحْسَانِ أَمْثَالِهِ بِالْفِعْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيَمَ لِلْأَوَّلِينَ ، وَلَا غَنَاءَ عِنْدَ الْآخِرِينَ ، فَفَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا مِنْهُ . ثُمَّ بَعْدَ بَيَانِ مَا بِهِ إِصْلَاحُ الْبُيُوتِ مِنْ إِعَانَةِ الْأَقْرَبِينَ ، وَمَا بِهِ صَلَاحُ بَعْضِ الْعَامَّةِ مِنْ مَعُونَةِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ عَلَى إِصْلَاحِ بُيُوتِهِمْ ، بَقِيَ بَيَانُ حُقُوقِ سَائِرِ الْأُمَّةِ ، وَهِيَ النَّصِيحَةُ لَهُمْ ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ فِيهِمْ ، فَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ) ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مُجَرَّدَ التَّلَطُّفِ بِالْقَوْلِ وَالْمُجَامَلَةِ فِي الْخِطَابِ ، فَالْحُسْنُ هُوَ النَّافِعُ فِي الدِّينِ أَوِ الدُّنْيَا ، وَهُوَ لَا يَخْرُجُ عَمَّا ذَكَرْنَا ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الْحُقُوقِ مُسْتَقِلًّا بِذَاتِهِ جَاءَ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي الْقِيَامِ بِهَذِهِ الْفَرَائِضِ إِصْلَاحَ الْأُمَّةِ كُلِّهَا .
جَاءَ الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ مُجْمَلًا لِيَعْلَمَ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِهَا بِحَسْبِ الطَّاقَةِ ، وَلَكِنْ مِنَ الْعِبَادَةِ مَا لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ إِلَّا بِهِدَايَةٍ إِلَهِيَّةٍ ، وَأَكْبَرُ ذَلِكَ النَّوْعِ إِقَامَةُ الصَّلَاةِ لِإِصْلَاحِ نُفُوسِ الْأَفْرَادِ ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ لِإِصْلَاحِ شُئُونِ الِاجْتِمَاعِ ؛ لِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى - - بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83nindex.php?page=treesubj&link=28973وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) ، وَإِنَّمَا إِقَامَةُ الصَّلَاةِ بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَالصِّدْقِ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَالْخُشُوعِ لِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَالِاسْتِكَانَةِ لِعِزِّ سُلْطَانِهِ ، وَلَا تَكُونُ بِمُجَرَّدِ
nindex.php?page=treesubj&link=25353الْإِتْيَانِ بِصُورَةِ الصَّلَاةِ وَرُسُومِهَا الظَّاهِرَةِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ لَمَا وَصَفَهُمْ بِالتَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ عَنْهُ ؛ فَإِنَّهُمْ مَا أَعْرَضُوا عَنْ صُورَةِ الصَّلَاةِ إِلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي ذَكَّرَهُمْ فِيهِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَإِلَى هَذَا الْيَوْمِ أَيْضًا . وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَحْبَارِهِمْ يَزْعُمُ أَنَّهَا تِلْكَ الْمُحْرَقَاتُ وَالْقَرَابِينُ الْمَفْرُوضَةُ لِتَكْفِيرِ الْخَطَايَا أَوْ شُكْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى إِخْرَاجِهِمْ مِنْ
مِصْرَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ . وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ،
[ ص: 306 ] فَإِنَّ لَهُمْ زَكْوَاتٍ مَالِيَّةٍ ، مِنْهَا مَالٌ مَخْصُوصٌ يُؤَدَّى
لِآلِ هَارُونَ وَهُوَ إِلَى الْآنِ فِي ( اللَّاوِيِّينَ ) ، وَمِنْهَا مَالٌ لِلْمَسَاكِينِ ، وَمِنْهَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ ، وَمِنْهَا سَبْتُ الْأَرْضِ ، وَهُوَ تَرْكُهَا فِي كُلِّ سَبْعِ سِنِينَ مَرَّةً بِلَا حَرْثٍ وَلَا زَرْعٍ ، وَكُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ ، فَهُوَ صَدَقَةٌ .
قَالَ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83nindex.php?page=treesubj&link=28973_31931ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ) أَيْ ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ بَعْدَ هَذَا الْمِيثَاقِ الَّذِي فِيهِ سَعَادَتُكُمْ ، أَنْ تَوَلَّيْتُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ ، وَأَنْتُمْ فِي حَالَةِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ لَهُ ، وَقَدْ يَتَوَلَّى الْإِنْسَانُ مُنْصَرِفًا عَنْ شَيْءٍ وَهُوَ عَازِمٌ عَلَى أَنْ يَعُودَ إِلَيْهِ وَيُوَفِّيَهُ حَقَّهُ ، فَلَيْسَ كُلُّ مُتَوَلٍّ عَنْ شَيْءٍ مُعْرِضًا عَنْهُ وَمُهْمِلًا لَهُ عَلَى الدَّوَامِ ؛ لِذَلِكَ كَانَ ذِكْرُ هَذَا الْقَيْدِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ ) لَازِمًا لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَلَيْسَ تَكْرَارًا كَمَا يُتَوَهَّمُ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَمِّمٌ لِلْمَعْنَى ، وَمُؤَكِّدٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّرْكِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ التَّوَلِّي .
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : وَلَا حَاجَةَ إِلَى مَا زَادَهُ الْمُفَسِّرُ مِنْ قَوْلِهِ : ( ( فَقَبِلْتُمْ ذَلِكَ ) لِيَعْطِفَ عَلَيْهِ ( ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ ) ، فَالْمَقَامُ مَقَامُ وَعِيدٍ وَزَجْرٍ وَتَوْبِيخٍ ، وَفِي كَلِمَةِ ( ثُمَّ ) نَفْسِهَا مَا يُفِيدُ أَنَّ التَّوَلِّيَ لَمْ يَكُنْ عَقِبَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ .
وَقَدْ كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ التَّوَلِّي مَعَ الْإِعْرَاضِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَأْخُذُوا الدِّينَ إِلَّا فِي كِتَابِهِ ، فَاتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ يُحِلُّونَ بِرَأْيِهِمْ وَيُحَرِّمُونَ ، وَيُبِيحُونَ بِاجْتِهَادِهِمْ وَيَحْظُرُونَ ، وَيَزِيدُونَ فِي الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ ، وَيَضَعُونَ مَا شَاءُوا مِنَ الِاحْتِفَالَاتِ وَالشَّعَائِرِ ، فَصَدَقَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ شُرَكَاءَ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يَضَعُ الدِّينَ وَحْدَهُ ، وَإِنَّمَا الْعُلَمَاءُ أَدِلَّاءُ يُسْتَعَانُ بِهِمْ عَلَى فَهْمِ كِتَابِهِ وَمَا شَرَعَ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ ، وَقَدِ اتَّبَعَ سَنَنَ
الْيَهُودِ فِي هَذَا التَّشْرِيعِ جَمِيعُ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ ، وَحُكْمُ الْجَمِيعِ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ ، فَهُوَ لَا يُحَابِي أَحَدًا (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=49وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) ( 18 : 49 ) وَكَذَلِكَ كَانُوا قَدْ قَطَعُوا صِلَاتِ الْقَرَابَةِ ، وَبَخِلُوا بِالنَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ ، وَتَرَكُوا النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَفَقَدُوا رُوحَ الصَّلَاةِ وَمَنَعُوا الزَّكَاةَ ، وَلَكِنَّهُمُ الْآنَ عَادُوا إِلَى بَعْضِ مَا تَرَكُوا ، وَلَمْ يَعُدِ الَّذِينَ تَشَبَّهُوا بِهِمْ أَوِ اتَّبَعُوا بِغَيْرِ شُعُورِ سُنَّتِهِمْ ، وَالْأَمْرُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=83إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ ) فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ لِبَعْضِ مَنْ كَانُوا فِي زَمَنِ سَيِّدِنَا
مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ فِي كُلِّ زَمَنٍ ، فَإِنَّهُ لَا تَخْلُو أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ مِنَ الْمُخْلِصِينَ الَّذِينَ يُحَافِظُونَ عَلَى الْحَقِّ بِحَسَبِ مَعْرِفَتِهِمْ وَقَدْرِ طَاقَتِهِمْ . وَالْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ عَدَمُ بَخْسِ الْمُحْسِنِينَ حَقَّهُمْ ، وَبَيَانُ أَنَّ وُجُودَ قَلِيلٍ مِنَ الصَّالِحِينَ فِي الْأُمَّةِ لَا يَمْنَعُ عَنْهَا الْعِقَابَ الْإِلَهِيِّ إِذَا فَشَا فِيهَا الْمُنْكَرُ ، وَقَلَّ الْمَعْرُوفُ .
لَوْ تَدَبَّرَ جُهَّالُنَا هَذِهِ الْآيَةَ ، لَعَلِمُوا أَنَّهُمْ مَغْرُورُونَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى الْأَقْطَابِ وَالْأَوْتَادِ وَالْأَبْدَالِ فِي تَحَمُّلِ الْبَلَاءِ عَنْهُمْ ، وَمَنْعِ الْعَذَابِ أَنْ يَنْزِلَ بِالْأُمَّةِ بِبَرَكَتِهِمْ ، فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَقْطَابَ
[ ص: 307 ] مَوْجُودُونَ حَقِيقَةً ، فَإِنَّ وُجُودَهُمْ لَا يُغْنِي عَنِ الْأُمَّةِ شَيْئًا ، وَقَدْ عَصَى اللَّهَ جَمَاهِيرُهَا وَقَضَوْا مِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَهُمْ بِهِ ، فَقَدْ جَرَتْ سُنَّتُهُ - تَعَالَى - فِي خَلْقِهِ بِأَنَّ بَقَاءَ الْأُمَمِ عَزِيزَةً إِنَّمَا يَكُونُ بِمُحَافَظَةِ الْجَمَاهِيرِ فِيهَا عَلَى الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي تَكُونُ بِهَا الْعِزَّةُ وَيُحْفَظُ بِهَا الْمَجْدُ وَالشَّرَفُ .
وَمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ ، لَا يَعْتَبِرْ بِآيَاتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ ، فَقَدْ فُتِنَ الْمُسْلِمُونَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ، وَحَلَّ بِجَمِيعِ بِلَادِهِمْ مَا حَلَّ مِنَ الْبَلَاءِ وَهُمْ لَا يَعْتَبِرُونَ ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=24أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) ( 47 : 24 ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=125أَوَ لَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ) ( 9 : 126 ) .