(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=62nindex.php?page=treesubj&link=28973إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )
[ ص: 277 ] أحاط القضاء في الآية السابقة
باليهود فلم يدع منهم حاضرا ولا غائبا ، فألزم الذل باطنهم ، وكسا بالمسكنة ظاهرهم ، وبوأهم منازل غضبه ، وجعل أرواحهم مساقط نقمه ، فذلك الله الذي يقول : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=61وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ) سجلت الآية عليهم هذا العذاب الشديد بما كسبت أيديهم ، واستشعرت قلوبهم من كفر بآيات الله ، وانصراف عن العبرة ، واستعصاء على الموعظة ، وخروج عن حدود الشريعة واعتداء على أحكامها ، اقترف ذلك سلفهم ، وتبعهم عليه خلفهم ، فحقت عليهم كلمة ربك ، فلو قر الخطاب عندها ، ولم يتلها من رحمته ما بعدها ، لحق على كل يهودي على وجه الأرض أن ييأس ، وأن لا يبقى عنده للأمل في عفو الله متنفس ، بل كان ذلك القنوط لازما لكل عاص ، قابضا على نفس كل معتد ، لا فرق بين
اليهود وغيرهم ، فإن
nindex.php?page=treesubj&link=30531سبب ما نزل باليهود إنما هو عصيانهم واعتداؤهم حدود ما شرع الله لهم ، وسنن الله في خلقه لا تتغير وأحكامه العادلة فيهم لا تتبدل ؛ لهذا جاء قوله - تعالى - : ( إن الذين آمنوا ) . . . إلخ ، بمنزلة الاستثناء من حكم الآية السابقة ، وإنما ورد على هذا الأسلوب البديع متضمنا لجميع من تمسك بهدي نبي سابق وانتسب إلى شريعة سماوية ماضية ؛ ليدل على أن الجزاء السابق ، وإن حكي على أنه من خطأ
اليهود خاصة ، لم يصبهم إلا لجريمة قد تشمل الشعوب عامة ، وهي الفسوق عن أوامر الله وانتهاك حرماته ، فكل من أجرم كما أجرموا سقط عليه من غضب الله ما سقط عليهم ، وعلى أن الله جل شأنه لم يأخذهم بما أخذهم لأمر يختص بهم على أنهم من
شعب إسرائيل أو من ملة
يهود ، بل (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=61ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) .
وأما أنساب الشعوب وما تدين به من دين وما تتخذه من ملة ، فكل ذلك لا أثر له في رضاء الله ولا غضبه ، ولا يتعلق به رفعة شأن قوم ولا ضعتهم ، بل
nindex.php?page=treesubj&link=29674عماد الفلاح ووسيلة الفوز بخيري الدنيا والآخرة إنما هو صدق الإيمان بالله - تعالى - ، بأن يكون التصديق به سطوعا على النفس من مشرق البرهان ، أو جيشانا في القلب من عين الوجدان ، فيكون الاعتقاد بوجوده وصفاته خاليا من شوب التشبيه والتمثيل ، واليقين في نسبة الأفعال إليه خالصا من وساوس الوهم والتخييل ، ويكون المؤمن قد ارتقى بإيمانه مرتقى يشعر فيه بالجلال الإلهي .
فإذا رفع بصره إلى الجناب الأرفع أغضى هيبة وأطرق إلى أرض العبودية خشوعا ، وإذا أطلق نظره فيما بين يديه ، مما سلطه الله عليه ، شعر في نفسه عزة بالله ، ووجد فيها قوة تصرفه بالحق فيما يقع تحت قواه . لا يعدو حدا ضرب له ، ولا يقف دون غاية قدر له أن يصل إليها ، فيكون عبدا لله وحده ، سيدا لكل شيء بعده .
كتب ما تقدم الأستاذ بقلمه ؛ إذ اقترحت أن يكتب تفسير الآية كما قرره في درسه وإنني أتمه على المنهج الذي جريت عليه فأقول :
[ ص: 278 ] هذا هو الإيمان المرضي عند الله - تعالى - الذي يكون أصلا لتهذيب أخلاق صاحبه ، ومصدرا للأعمال الحسنة عنه . وللإيمان إطلاق آخر وهو التصديق بالدين في الجملة ، أي الإيمان بالله ، وبأن ما جاء به فلان النبي مثلا هو صحيح غير مكذوب على الله - تعالى - ويدخل فيه أهل الفرق الضالة من كل دين من الأديان السماوية ، فهو إطلاق صحيح لغة وعرفا كما تقدم في تفسير قوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=8ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) أي إنهم يصدقون بأن للعالم إلها ، وبأن بعد الموت بعثا ، ولكن هذا الإيمان ليس مطابقا في تفصيله للإذعان الذي له السلطان الأعلى على النفوس في تزكيتها وتهذيبها وحملها على الأعمال الصالحة ، وهذا الإطلاق هو الذي عناه الأستاذ الإمام بقوله : لا أثر له في رضا الله ولا غضبه . . . إلخ ، وهو كون الدين جنسية لمن ينتسب إليه ، فقوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=62إن الذين آمنوا ) مراد به المسلمون الذين اتبعوا
محمدا - صلى الله عليه وسلم - والذين سيتبعونه إلى يوم القيامة ، وكانوا يسمون المؤمنين والذين آمنوا . وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=62nindex.php?page=treesubj&link=28973والذين هادوا والنصارى والصابئين ) يراد به هذه الفرق من الناس التي عرفت بهذه الأسماء أو الألقاب من الذين اتبعوا الأنبياء السابقين ، وأطلق على بعضهم لفظ
يهود والذين هادوا ، وعلى بعضهم لفظ
النصارى ، وعلى بعضهم لفظ
الصابئين (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=62nindex.php?page=treesubj&link=28973من آمن بالله واليوم والآخر وعمل صالحا ) هذا بدل مما قبله ؛ أي من آمن منهم بالله إيمانا صحيحا - وتقدم شرحه ووصفه آنفا - وآمن باليوم الآخر كذلك ، وقد تقدم تفسيرهما في أوائل السورة ، وعمل عملا صالحا تصلح به نفسه وشئونه مع من يعيش معه ، وما العمل الصالح بمجهول في عرف هؤلاء الأقوام ، وقد بينته كتبهم أتم بيان ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=62فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) أي إن حكم الله العادل ، سواء وهو يعاملهم بسنة واحدة لا يحابي فيها فريقا ويظلم فريقا . وحكم هذه السنة أن لهم أجرهم المعلوم بوعد الله لهم على لسان رسولهم ، ولا خوف عليهم من عذاب الله يوم يخاف الكفار والفجار مما يستقبلهم ، ولا هم يحزنون على شيء فاتهم . وتقدم هذا التعبير في الآية مع تفسيره .
فالآية بيان لسنة الله - تعالى - في معاملة الأمم ، تقدمت أو تأخرت ، فهو على حد قوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=123ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=124ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ) ( 4 : 133 - 124 ) فظهر بذلك أنه لا إشكال في حمل من آمن بالله واليوم الآخر . . . إلخ على قوله : ( إن الذين آمنوا ) . . . إلخ ، ولا إشكال في عدم اشتراط الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الكلام في معاملة الله - تعالى - لكل الفرق أو الأمم المؤمنة بنبي ووحي بخصوصها ؛
[ ص: 279 ] الظانة أن فوزها في الآخرة كائن لا محالة ؛ لأنها مسلمة أو يهودية أو نصرانية أو صابئة مثلا ، فالله يقول : إن الفوز لا يكون بالجنسيات الدينية ، وإنما يكون بإيمان صحيح له سلطان على النفس ، وعمل يصلح به حال الناس ؛ ولذلك
nindex.php?page=treesubj&link=30503نفى كون الأمر عند الله بحسب أماني المسلمين أو أماني أهل الكتاب ، وأثبت كونه بالعمل الصالح مع الإيمان الصحيح .
أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي قال : التقى ناس من المسلمين
واليهود والنصارى ، فقال
اليهود للمسلمين : نحن خير منكم ، ديننا قبل دينكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن على دين
إبراهيم ، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا ، وقالت
النصارى مثل ذلك ، فقال المسلمون : كتابنا بعد كتابكم ، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - بعد نبيكم ، وديننا بعد دينكم ، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم ، فنحن خير منكم ، نحن على دين
إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا ، فأنزل الله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=123ليس بأمانيكم ) ( 4 : 12 ) الآية . وروي نحوه عن
مسروق وقتادة . وأخرج
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري في التاريخ من حديث
أنس مرفوعا ( (
nindex.php?page=treesubj&link=28647ليس الإيمان بالتمني ، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل . إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم ، وقالوا : نحن نحسن الظن بالله - تعالى - وكذبوا ، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل ) ) .
والحكمة في عناية الله - تعالى - بالنعي على المغترين بالانتساب إلى الدين - أيا كان - ظاهرة ، فإن هذا الغرور هو الذي صرفهم عن العمل به اكتفاء بالانتساب إليه وجعله جنسية فقط . وترك العمل لازم أو ملزوم لعدم الفقه في الدين ، أي عدم فهم حكمه وأسراره ، وتبع هذا في الأمم السابقة ترك النظر فيما جاء به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ؛ لأن المغرور بما هو فيه لا ينظر فيما سواه نظرا صحيحا لا سيما إذا كان مخالفا له .
وذكر الأستاذ الإمام في تفسير هذه الآية
nindex.php?page=treesubj&link=30584مسألة أهل الفترة والخلاف المشهور فيها ، وهو أن جمهور أهل السنة يقول : إنهم ناجون ؛ لأنه لا تكليف إلا بشرع ، وهؤلاء لم تبلغهم دعوة ، ومن قال : إن بالعقل يدرك الواجب والمحرم والاعتقاد الصحيح والباطل ، عدهم غير ناجين . وهذا رأي
المعتزلة وجماعة من الحنفية ، وجمهور
الأشاعرة على أنه لا يمكن إدراك ذلك إلا بالشرع ، ثم إن محل النظر في أهل الفترة من كان منهم كالعرب الذين كانوا يعتقدون نبوة أنبياء ولا يجدون لديهم شيئا من أحكام دينهم خالصا من الشوائب ، سالما من النزعات الفاسدة . وأما مثل
اليهود فلا يصح أن يسموا أهل فترة ، فإنهم على نسيانهم حظا مما ذكروا به ، وتحريفهم بعض ما حفظوا ، قد بقي جوهر دينهم معروفا لم يغش أحكامه ما يمنع الاهتداء بها ، والله - تعالى - يقول : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=43وعندهم التوراة فيها حكم الله ) ( 5 : 43 ) وكذلك المسيحيون لا يسمون أهل فترة ؛ لأن عندهم في الإنجيل ووصايا الأنبياء ما عند
اليهود وزيادة مما حفظوا من وصايا المسيح ، وروح الدعوة موجود عندهم ، ولكنهم لا يعملون بهذه الوصايا ولا يأخذون بتلك
[ ص: 280 ] الأحكام ، ولا عذر لهم يحول دون العقوبة . وأما
الصابئون فإن كانوا فرقة من
النصارى كما يظهر من الوفاق بينهما في كثير من التقاليد ، كالمعمودية والاعتراف وتعظيم يوم الأحد ، فالأمر ظاهر أن حكمهم كحكمهم ، وإن كان الخلط عندهم أكثر ، والبعد عن الأصل أشد ، حتى إنهم اعتقدوا تأثير الكواكب ، وأحاطت بهم البدع من كل جانب ، على أنهم أقرب إلى روح المسيحية من
النصارى ، فإن عندهم الزهد والتواضع اللذين يفيضان من كل كلمة تؤثر عن المسيح - عليه السلام - ،
والنصارى صاروا أشد أمم الأرض عتوا وطمعا وإسرافا في حظوظ الدنيا . ويقال : إن
الصابئة ملة مستقلة يؤمنون بكثير من الأنبياء المعروفين ، ولكن قد اختلط عليهم الأمر كما اختلط على الحنفاء العرب إلا أن عندهم من التقاليد والأحكام ما لم يكن عند العرب ، فإن كانوا أقرب إليهم ، فلهم حكمهم ، وإلا فهم
كاليهود والنصارى يسألون عن العمل بدينهم بعد فهمه كما يجب حتى يأتيهم هدي آخر ، كأن تبلغهم دعوة الإسلام ، فإن لم يفعلوا فهم مؤاخذون .
علمنا أن أهل الفترة : هم الذين لم تبلغهم دعوة صحيحة تحرك إلى النظر ، أو بلغهم أن بعض الأنبياء بعثوا ، ولكن لم يصل إليهم شيء صحيح من شرائعهم ، فهم يؤمنون بهم إيمانا إجماليا ، كالحنفاء من العرب الذين كانوا يؤمنون
بإبراهيم وإسماعيل ، ولا يعرفون من دينهما شيئا خالصا كما تقدم آنفا . وحجة
الأشاعرة على عدم مؤاخذتهم آيات كقوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=15وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ( 17 : 15 ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) ( 4 : 165 ) وذهب كثير منهم إلى الاكتفاء ببلوغ دعوة أي نبي في ركني الدين الركينين ، وهما الإيمان بالله وباليوم الآخر ، فمن بلغته ، وجب عليه الإيمان بهذين الأصلين . وإن لم يكن النبي مرسلا إليه .
وذهب جمهور الحنفية وكذلك
المعتزلة إلى أن أصول الاعتقاد تدرك بالعقل ، فلا تتوقف المؤاخذة عليها على بلوغ دعوة رسول ، وإنما يجيء الرسل مؤكدين لما يفهم العقل موضحين له ومبينين أمورا لا يستقل بإدراكها ، كأحوال الآخرة وكيفيات العبادة التي ترضي الله - تعالى .
وأولوا آية : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=15nindex.php?page=treesubj&link=28988_30584وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ( 17 : 15 ) بأن المراد بالتعذيب هو الاستئصال في الدنيا بإفناء الأمة أو استذلالها ، والذهاب باستقلالها ، وينافيه ما يدل عليه استعمال ( وما كنا ) من إرادة نفي الشأن الدال على عموم السلب ، ولهم في كتبهم أدلة ومناقشات ليس هذا من مواضعها .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=14847الإمام الغزالي : أن الناس في شأن بعثة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أصناف ثلاثة : من لم يعلم بها بالمرة - أي كأهل
أمريكا لذلك العهد - هؤلاء ناجون حتما ( أي إن لم تكن بلغتهم دعوة أخرى صحيحة ) . ومن بلغته الدعوة على وجهها ولم ينظر في أدلتها إهمالا أو عنادا
[ ص: 281 ] أو استكبارا وهؤلاء مؤاخذون حتما . ومن بلغته على غير وجهها أو مع فقد شرطها ، وهو أن تكون على وجه يحرك داعية النظر ، وهؤلاء في معنى الصنف الأول . هذا معنى عبارته المطابقة لأصول الكلام .
( وأقول ) عبارته في كتاب فيصل التفرقة في هذا الصنف هي : وصنف ثالث بين الدرجتين بلغهم اسم
محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يبلغهم نعته وصفته ، بل سمعوا منذ الصبا أن كذابا مدلسا اسمه
محمد ادعى النبوة كما سمع صبياننا أن كذابا يقال له : ( المقفع ) ( لعنه الله ) تحدى بالنبوة كاذبا ، فهؤلاء عندي في معنى الصنف الأول ، فإن أولئك مع أنهم لم يسمعوا اسمه لم يسمعوا ضد أوصافه ، وهؤلاء سمعوا ضد أوصافه ، وهذا لا يحرك داعية النظر في الطلب ا هـ .
وأقول في حل معنى الآية على هذا : إن أهل الأديان الإلهية - وهم الذين بلغتهم دعوة نبي على وجهها وبشرطها - إذا آمنوا بالله واليوم الآخر على الوجه الصحيح الذي بينه نبيهم وعملوا الأعمال الصالحة ، فهم ناجون مأجورون عند الله - تعالى - ، وإذا آمنوا على غير الوجه الصحيح ،
كالمشبهة والحلولية والاتحادية وغيرهم ، فلا ينالهم من هذا الوعد شيء ، بل يتناولهم الوعيد المذكور في الآيات الأخرى ، وكذلك حال الذين يؤمنون بأقوالهم دون أعمالهم ، فإن الإيمان الصحيح هو صاحب السلطان الأعلى على القلب ، والإرادة التي تحرك الأعضاء في الأعمال ، فإن نازعه في سلطانه طائف من الشهوة فإنه لا يلبث أن يقهره (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=201إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) ( 7 : 201 ) ثم أزيد الآن على ما تقدم أن كل هذه الأقوال والتفصيلات إنما هي في المؤاخذة على اتباع دعوة الرسل وعدمها . ولا يعقل أن يكون من لم تبلغهم الدعوة بشرطها أو مطلقا ناجين على سواء ، وأن يكونوا كلهم في الجنة كأتباع الرسل في الإيمان الصحيح والعمل الصالح . إذ لو صح هذا لكان بعث الرسل شرا من عدمه بالنسبة إلى أكثر الناس . والمعقول الموافق للنصوص أن الله - تعالى - يحاسب هؤلاء الذين لم تبلغهم دعوة ما بحسب ما عقلوا واعتقدوا من الحق والخير ومقابلهما ، وستجد تفصيل هذا في موضع آخر من هذا التفسير .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=62nindex.php?page=treesubj&link=28973إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ )
[ ص: 277 ] أَحَاطَ الْقَضَاءُ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ
بِالْيَهُودِ فَلَمْ يَدَعْ مِنْهُمْ حَاضِرًا وَلَا غَائِبًا ، فَأَلْزَمَ الذُّلَّ بَاطِنَهُمْ ، وَكَسَا بِالْمَسْكِّنَةِ ظَاهِرَهُمْ ، وَبَوَّأَهُمْ مَنَازِلَ غَضَبِهِ ، وَجَعَلَ أَرْوَاحَهُمْ مَسَاقِطَ نِقَمِهِ ، فَذَلِكَ اللَّهُ الَّذِي يَقُولُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=61وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ) سَجَّلَتِ الْآيَةُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ ، وَاسْتَشْعَرَتْ قُلُوبُهُمْ مِنْ كُفْرٍ بِآيَاتِ اللَّهِ ، وَانْصِرَافٍ عَنِ الْعِبْرَةِ ، وَاسْتِعْصَاءٍ عَلَى الْمَوْعِظَةِ ، وَخُرُوجٍ عَنْ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ وَاعْتِدَاءٍ عَلَى أَحْكَامِهَا ، اقْتَرَفَ ذَلِكَ سَلَفُهُمْ ، وَتَبِعَهُمْ عَلَيْهِ خَلَفُهُمْ ، فَحُقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ، فَلَوْ قَرَّ الْخُطَّابُ عِنْدَهَا ، وَلَمْ يَتْلُهَا مِنْ رَحْمَتِهِ مَا بَعْدَهَا ، لَحُقَّ عَلَى كُلِّ يَهُودِيٍّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَنْ يَيْأَسَ ، وَأَنْ لَا يَبْقَى عِنْدَهُ لِلْأَمَلِ فِي عَفْوِ اللَّهِ مُتَنَفَّسٌ ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ الْقُنُوطُ لَازِمًا لِكُلِّ عَاصٍ ، قَابِضًا عَلَى نَفْسِ كُلِّ مُعْتَدٍ ، لَا فَرْقَ بَيْنَ
الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ ، فَإِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=30531سَبَبَ مَا نَزَلَ بِالْيَهُودِ إِنَّمَا هُوَ عِصْيَانُهُمْ وَاعْتِدَاؤُهُمْ حُدُودَ مَا شَرَعَ اللَّهُ لَهُمْ ، وَسُنَنُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ لَا تَتَغَيَّرُ وَأَحْكَامُهُ الْعَادِلَةُ فِيهِمْ لَا تَتَبَدَّلُ ؛ لِهَذَا جَاءَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) . . . إِلَخْ ، بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ ، وَإِنَّمَا وَرَدَ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ الْبَدِيعِ مُتَضَمِّنًا لِجَمِيعِ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَدْيِ نَبِيٍّ سَابِقٍ وَانْتَسَبَ إِلَى شَرِيعَةٍ سَمَاوِيَّةٍ مَاضِيَةٍ ؛ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ السَّابِقَ ، وَإِنْ حُكِيَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ خَطَأِ
الْيَهُودِ خَاصَّةً ، لَمْ يُصِبْهُمْ إِلَّا لِجَرِيمَةٍ قَدْ تَشْمَلُ الشُّعُوبَ عَامَّةً ، وَهِيَ الْفُسُوقُ عَنْ أَوَامِرِ اللَّهِ وَانْتِهَاكِ حُرُمَاتِهِ ، فَكُلُّ مَنْ أَجْرَمَ كَمَا أَجْرَمُوا سَقَطَ عَلَيْهِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ مَا سَقَطَ عَلَيْهِمْ ، وَعَلَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ شَأْنُهُ لَمْ يَأْخُذْهُمْ بِمَا أَخَذَهُمْ لِأَمْرٍ يَخْتَصُّ بِهِمْ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ
شَعْبِ إِسْرَائِيلَ أَوْ مِنْ مِلَّةِ
يَهُودٍ ، بَلْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=61ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ) .
وَأَمَّا أَنْسَابُ الشُّعُوبِ وَمَا تَدِينُ بِهِ مِنْ دِينٍ وَمَا تَتَّخِذُهُ مِنْ مِلَّةٍ ، فَكُلُّ ذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي رِضَاءِ اللَّهِ وَلَا غَضَبِهِ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ رِفْعَةُ شَأْنِ قَوْمٍ وَلَا ضِعَتُهُمْ ، بَلْ
nindex.php?page=treesubj&link=29674عِمَادُ الْفَلَاحِ وَوَسِيلَةِ الْفَوْزِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنَّمَا هُوَ صِدْقُ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ - تَعَالَى - ، بِأَنْ يَكُونَ التَّصْدِيقُ بِهِ سُطُوعًا عَلَى النَّفْسِ مِنْ مَشْرِقِ الْبُرْهَانِ ، أَوْ جَيَشَانًا فِي الْقَلْبِ مِنْ عَيْنِ الْوِجْدَانِ ، فَيَكُونُ الِاعْتِقَادُ بِوُجُودِهِ وَصِفَاتِهِ خَالِيًا مَنْ شَوْبِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ ، وَالْيَقِينُ فِي نِسْبَةِ الْأَفْعَالِ إِلَيْهِ خَالِصًا مِنْ وَسَاوِسِ الْوَهْمِ وَالتَّخْيِيلِ ، وَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ قَدِ ارْتَقَى بِإِيمَانِهِ مُرْتَقًى يَشْعُرُ فِيهِ بِالْجَلَالِ الْإِلَهِيِّ .
فَإِذَا رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى الْجَنَابِ الْأَرْفَعِ أَغْضَى هَيْبَةً وَأَطْرَقَ إِلَى أَرْضِ الْعُبُودِيَّةِ خُشُوعًا ، وَإِذَا أَطْلَقَ نَظَرَهُ فِيمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ، مِمَّا سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ، شَعَرَ فِي نَفْسِهِ عِزَّةً بِاللَّهِ ، وَوَجَدَ فِيهَا قُوَّةً تَصْرِفُهُ بِالْحَقِّ فِيمَا يَقَعُ تَحْتَ قُوَاهُ . لَا يَعْدُو حَدًّا ضُرِبَ لَهُ ، وَلَا يَقِفُ دُونَ غَايَةٍ قُدِّرَ لَهُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهَا ، فَيَكُونُ عَبْدًا لِلَّهِ وَحْدَهُ ، سَيِّدًا لِكُلِّ شَيْءٍ بَعْدَهُ .
كَتَبَ مَا تَقَدَّمَ الْأُسْتَاذُ بِقَلَمِهِ ؛ إِذِ اقْتَرَحْتُ أَنْ يَكْتُبَ تَفْسِيرَ الْآيَةِ كَمَا قَرَّرَهُ فِي دَرْسِهِ وَإِنَّنِي أُتِمُّهُ عَلَى الْمَنْهَجِ الَّذِي جَرَيْتُ عَلَيْهِ فَأَقُولُ :
[ ص: 278 ] هَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الْمَرْضِيُّ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - الَّذِي يَكُونُ أَصْلًا لِتَهْذِيبِ أَخْلَاقِ صَاحِبِهِ ، وَمَصْدَرًا لِلْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ عَنْهُ . وَلِلْإِيمَانِ إِطْلَاقٌ آخَرُ وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِالدِّينِ فِي الْجُمْلَةِ ، أَيِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ ، وَبِأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ فُلَانٌ النَّبِيُّ مَثَلًا هُوَ صَحِيحٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَيَدْخُلُ فِيهِ أَهْلُ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ مِنْ كُلِّ دِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ السَّمَاوِيَّةِ ، فَهُوَ إِطْلَاقٌ صَحِيحٌ لُغَةً وَعُرْفًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=8وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) أَيْ إِنَّهُمْ يُصَدِّقُونَ بِأَنَّ لِلْعَالَمِ إِلَهًا ، وَبِأَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ بَعْثًا ، وَلَكِنَّ هَذَا الْإِيمَانَ لَيْسَ مُطَابِقًا فِي تَفْصِيلِهِ لِلْإِذْعَانِ الَّذِي لَهُ السُّلْطَانُ الْأَعْلَى عَلَى النُّفُوسِ فِي تَزْكِيَتِهَا وَتَهْذِيبِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ هُوَ الَّذِي عَنَاهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ : لَا أَثَرَ لَهُ فِي رِضَا اللَّهِ وَلَا غَضَبِهِ . . . إِلَخْ ، وَهُوَ كَوْنُ الدِّينِ جِنْسِيَّةً لِمَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيْهِ ، فَقَوْلُهُ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=62إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) مُرَادٌ بِهِ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا
مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالَّذِينَ سَيَتَّبِعُونَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِينَ آمَنُوا . وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=62nindex.php?page=treesubj&link=28973وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ ) يُرَادُ بِهِ هَذِهِ الْفِرَقُ مِنَ النَّاسِ الَّتِي عُرِفَتْ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ أَوِ الْأَلْقَابِ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْأَنْبِيَاءَ السَّابِقِينَ ، وَأُطْلِقَ عَلَى بَعْضِهِمْ لَفْظُ
يَهُودٍ وَالَّذِينَ هَادُوا ، وَعَلَى بَعْضِهِمْ لَفْظُ
النَّصَارَى ، وَعَلَى بَعْضِهِمْ لَفْظُ
الصَّابِئِينَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=62nindex.php?page=treesubj&link=28973مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ وَالْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا ) هَذَا بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ ؛ أَيْ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ إِيمَانًا صَحِيحًا - وَتَقَدَّمَ شَرْحُهُ وَوَصْفُهُ آنِفًا - وَآمَنَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ كَذَلِكَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُمَا فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ ، وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا تَصْلُحُ بِهِ نَفْسُهُ وَشُئُونُهُ مَعَ مَنْ يَعِيشُ مَعَهُ ، وَمَا الْعَمَلُ الصَّالِحُ بِمَجْهُولٍ فِي عُرْفِ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ ، وَقَدْ بَيَّنَتْهُ كُتُبُهُمْ أَتَمَّ بَيَانٍ ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=62فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) أَيْ إِنَّ حُكْمَ اللَّهِ الْعَادِلَ ، سَوَاءٌ وَهُوَ يُعَامِلُهُمْ بِسُنَّةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُحَابِي فِيهَا فَرِيقًا وَيَظْلِمُ فَرِيقًا . وَحُكْمُ هَذِهِ السُّنَّةِ أَنَّ لَهُمْ أَجَرَهُمُ الْمَعْلُومُ بِوَعْدِ اللَّهِ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِمْ ، وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ يَوْمَ يَخَافُ الْكُفَّارُ وَالْفُجَّارُ مِمَّا يَسْتَقْبِلُهُمْ ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ عَلَى شَيْءٍ فَاتَهُمْ . وَتَقَدَّمَ هَذَا التَّعْبِيرُ فِي الْآيَةِ مَعَ تَفْسِيرِهِ .
فَالْآيَةُ بَيَانٌ لِسُنَّةِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي مُعَامَلَةِ الْأُمَمِ ، تَقَدَّمَتْ أَوْ تَأَخَّرَتْ ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=123لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=124وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ) ( 4 : 133 - 124 ) فَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي حَمْلِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ . . . إِلَخْ عَلَى قَوْلِهِ : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) . . . إِلَخْ ، وَلَا إِشْكَالَ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْإِيمَانِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مُعَامَلَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - لِكُلِّ الْفِرَقِ أَوِ الْأُمَمِ الْمُؤْمِنَةِ بِنَبِيٍّ وَوَحْيٍ بِخُصُوصِهَا ؛
[ ص: 279 ] الظَّانَّةِ أَنَّ فَوْزَهَا فِي الْآخِرَةِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ ؛ لِأَنَّهَا مُسْلِمَةٌ أَوْ يَهُودِيَّةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ أَوْ صَابِئَةٌ مَثَلًا ، فَاللَّهُ يَقُولُ : إِنَّ الْفَوْزَ لَا يَكُونُ بِالْجِنْسِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِإِيمَانٍ صَحِيحٍ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى النَّفْسِ ، وَعَمَلٌ يَصْلُحُ بِهِ حَالُ النَّاسِ ؛ وَلِذَلِكَ
nindex.php?page=treesubj&link=30503نَفَى كَوْنَ الْأَمْرِ عِنْدَ اللَّهِ بِحَسْبِ أَمَانِيِّ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَأَثْبَتَ كَوْنَهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ مَعَ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ .
أَخْرَجَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ nindex.php?page=showalam&ids=16328وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=14468السُّدِّيِّ قَالَ : الْتَقَى نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، فَقَالَ
الْيَهُودُ لِلْمُسْلِمِينَ : نَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ ، دِينُنَا قَبْلَ دِينِكُمْ ، وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ ، وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ ، وَنَحْنُ عَلَى دِينِ
إِبْرَاهِيمَ ، وَلَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا ، وَقَالَتِ
النَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : كِتَابُنَا بَعْدُ كِتَابِكُمْ ، وَنَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدُ نَبِيِّكُمْ ، وَدِينُنَا بَعْدُ دِينِكُمْ ، وَقَدْ أُمِرْتُمْ أَنْ تَتْبَعُونَا وَتَتْرُكُوا أَمْرَكُمْ ، فَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ ، نَحْنُ عَلَى دِينِ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ، وَلَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ عَلَى دِينِنَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=123لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ) ( 4 : 12 ) الْآيَةِ . وَرُوِيَ نَحْوَهُ عَنْ
مَسْرُوقٍ وَقَتَادَةَ . وَأَخْرَجَ
nindex.php?page=showalam&ids=12070الْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ مِنْ حَدِيثِ
أَنَسٍ مَرْفُوعًا ( (
nindex.php?page=treesubj&link=28647لَيْسَ الْإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي ، وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ . إِنَّ قَوْمًا أَلْهَتْهُمْ أَمَانِيُّ الْمَغْفِرَةِ حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا وَلَا حَسَنَةَ لَهُمْ ، وَقَالُوا : نَحْنُ نُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ - تَعَالَى - وَكَذَبُوا ، لَوْ أَحْسَنُوا الظَّنَّ لَأَحْسَنُوا الْعَمَلَ ) ) .
وَالْحِكْمَةُ فِي عِنَايَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِالنَّعْيِ عَلَى الْمُغْتَرِّينَ بِالِانْتِسَابِ إِلَى الدِّينِ - أَيًّا كَانَ - ظَاهِرَةٌ ، فَإِنَّ هَذَا الْغُرُورَ هُوَ الَّذِي صَرَفَهُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِهِ اكْتِفَاءً بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ وَجَعْلِهِ جِنْسِيَّةً فَقَطْ . وَتَرْكُ الْعَمَلِ لَازِمٌ أَوْ مَلْزُومٌ لِعَدَمِ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ ، أَيْ عَدَمِ فَهْمِ حِكَمِهِ وَأَسْرَارِهِ ، وَتَبِعَ هَذَا فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ تَرْكُ النَّظَرِ فِيمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - ؛ لِأَنَّ الْمَغْرُورَ بِمَا هُوَ فِيهِ لَا يَنْظُرُ فِيمَا سِوَاهُ نَظَرًا صَحِيحًا لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لَهُ .
وَذَكَرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ
nindex.php?page=treesubj&link=30584مَسْأَلَةَ أَهْلِ الْفَتْرَةِ وَالْخِلَافَ الْمَشْهُورَ فِيهَا ، وَهُوَ أَنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ السُّنَّةِ يَقُولُ : إِنَّهُمْ نَاجُونَ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ إِلَّا بِشَرْعٍ ، وَهَؤُلَاءِ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةٌ ، وَمَنْ قَالَ : إِنَّ بِالْعَقْلِ يُدْرَكُ الْوَاجِبُ وَالْمُحَرَّمُ وَالِاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ وَالْبَاطِلُ ، عَدَّهُمْ غَيْرَ نَاجِينَ . وَهَذَا رَأْيُ
الْمُعْتَزِلَةِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ ، وَجُمْهُورُ
الْأَشَاعِرَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِدْرَاكُ ذَلِكَ إِلَّا بِالشَّرْعِ ، ثُمَّ إِنَّ مَحَلَّ النَّظَرِ فِي أَهْلِ الْفَتْرَةِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَالْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ نُبُوَّةَ أَنْبِيَاءَ وَلَا يَجِدُونَ لَدَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ دِينِهِمْ خَالِصًا مِنَ الشَّوَائِبِ ، سَالِمًا مِنَ النَّزَعَاتِ الْفَاسِدَةِ . وَأَمَّا مِثْلُ
الْيَهُودِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّوْا أَهْلَ فَتْرَةٍ ، فَإِنَّهُمْ عَلَى نِسْيَانِهِمْ حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ، وَتَحْرِيفِهِمْ بَعْضَ مَا حَفِظُوا ، قَدْ بَقِيَ جَوْهَرُ دِينِهِمْ مَعْرُوفًا لَمْ يَغْشَ أَحْكَامَهُ مَا يَمْنَعُ الِاهْتِدَاءَ بِهَا ، وَاللَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=43وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ) ( 5 : 43 ) وَكَذَلِكَ الْمَسِيحِيُّونَ لَا يُسَمَّوْنَ أَهْلَ فَتْرَةٍ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ وَوَصَايَا الْأَنْبِيَاءِ مَا عِنْدَ
الْيَهُودِ وَزِيَادَةً مِمَّا حَفِظُوا مِنْ وَصَايَا الْمَسِيحِ ، وَرُوحُ الدَّعْوَةِ مَوْجُودٌ عِنْدَهُمْ ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ بِهَذِهِ الْوَصَايَا وَلَا يَأْخُذُونَ بِتِلْكَ
[ ص: 280 ] الْأَحْكَامِ ، وَلَا عُذْرَ لَهُمْ يَحُولُ دُونَ الْعُقُوبَةِ . وَأَمَّا
الصَّابِئُونَ فَإِنْ كَانُوا فِرْقَةً مِنَ
النَّصَارَى كَمَا يَظْهَرُ مِنَ الْوِفَاقِ بَيْنَهُمَا فِي كَثِيرٍ مِنَ التَّقَالِيدِ ، كَالْمَعْمُودِيَّةِ وَالِاعْتِرَافِ وَتَعْظِيمِ يَوْمِ الْأَحَدِ ، فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ أَنَّ حُكْمَهُمْ كَحُكْمِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ الْخَلْطُ عِنْدَهُمْ أَكْثَرَ ، وَالْبُعْدُ عَنِ الْأَصْلِ أَشَدَّ ، حَتَّى إِنَّهُمُ اعْتَقَدُوا تَأْثِيرَ الْكَوَاكِبِ ، وَأَحَاطَتْ بِهِمُ الْبِدَعُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، عَلَى أَنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى رُوحِ الْمَسِيحِيَّةِ مِنَ
النَّصَارَى ، فَإِنَّ عِنْدَهُمُ الزُّهْدَ وَالتَّوَاضُعَ اللَّذَيْنِ يَفِيضَانِ مِنْ كُلِّ كَلِمَةٍ تُؤْثَرُ عَنِ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ،
وَالنَّصَارَى صَارُوا أَشَدَّ أُمَمِ الْأَرْضِ عُتُوًّا وَطَمَعًا وَإِسْرَافًا فِي حُظُوظِ الدُّنْيَا . وَيُقَالُ : إِنَّ
الصَّابِئَةَ مِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ يُؤْمِنُونَ بِكَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمَعْرُوفِينَ ، وَلَكِنْ قَدِ اخْتَلَطَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ كَمَا اخْتَلَطَ عَلَى الْحُنَفَاءِ الْعَرَبِ إِلَّا أَنَّ عِنْدَهُمْ مِنَ التَّقَالِيدِ وَالْأَحْكَامِ مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْعَرَبِ ، فَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ إِلَيْهِمْ ، فَلَهُمْ حُكْمُهُمْ ، وَإِلَّا فَهُمْ
كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يُسْأَلُونَ عَنِ الْعَمَلِ بِدِينِهِمْ بَعْدَ فَهْمِهِ كَمَا يَجِبُ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ هَدْيٌ آخَرُ ، كَأَنْ تَبْلُغُهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَهُمْ مُؤَاخَذُونَ .
عَلِمْنَا أَنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ : هُمُ الَّذِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةٌ صَحِيحَةٌ تُحَرِّكُ إِلَى النَّظَرِ ، أَوْ بَلَغَهُمْ أَنَّ بَعْضَ الْأَنْبِيَاءِ بُعِثُوا ، وَلَكِنْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِمْ شَيْءٌ صَحِيحٌ مِنْ شَرَائِعِهِمْ ، فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِمْ إِيمَانًا إِجْمَالِيًّا ، كَالْحُنَفَاءِ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا يُؤْمِنُونَ
بِإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ، وَلَا يَعْرِفُونَ مِنْ دِينِهِمَا شَيْئًا خَالِصًا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا . وَحُجَّةُ
الْأَشَاعِرَةِ عَلَى عَدَمِ مُؤَاخَذَتِهِمْ آيَاتٌ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=15وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) ( 17 : 15 ) وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=165لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) ( 4 : 165 ) وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى الِاكْتِفَاءِ بِبُلُوغِ دَعْوَةِ أَيِّ نَبِيٍّ فِي رُكْنَيِ الدِّينِ الرَّكِينَيْنِ ، وَهُمَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، فَمَنْ بَلَغَتْهُ ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ مُرْسَلًا إِلَيْهِ .
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْحَنَفِيَّةِ وَكَذَلِكَ
الْمُعْتَزِلَةُ إِلَى أَنَّ أُصُولَ الِاعْتِقَادِ تُدْرَكُ بِالْعَقْلِ ، فَلَا تَتَوَقَّفُ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهَا عَلَى بُلُوغِ دَعْوَةِ رَسُولٍ ، وَإِنَّمَا يَجِيءُ الرُّسُلُ مُؤَكِّدِينَ لِمَا يَفْهَمُ الْعَقْلُ مُوَضِّحِينَ لَهُ وَمُبَيِّنِينَ أُمُورًا لَا يَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِهَا ، كَأَحْوَالِ الْآخِرَةِ وَكَيْفِيَّاتِ الْعِبَادَةِ الَّتِي تُرْضِي اللَّهَ - تَعَالَى .
وَأَوَّلُوا آيَةَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=15nindex.php?page=treesubj&link=28988_30584وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) ( 17 : 15 ) بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْذِيبِ هُوَ الِاسْتِئْصَالُ فِي الدُّنْيَا بِإِفْنَاءِ الْأُمَّةِ أَوِ اسْتِذْلَالِهَا ، وَالذَّهَابِ بِاسْتِقْلَالِهَا ، وَيُنَافِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ ( وَمَا كُنَّا ) مِنْ إِرَادَةِ نَفْيِ الشَّأْنِ الدَّالِّ عَلَى عُمُومِ السَّلْبِ ، وَلَهُمْ فِي كُتُبِهِمْ أَدِلَّةٌ وَمُنَاقَشَاتٌ لَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاضِعِهَا .
وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْإِمَامِ الْغَزَالِيِّ : أَنَّ النَّاسَ فِي شَأْنِ بَعْثَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - أَصْنَافٌ ثَلَاثَةٌ : مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا بِالْمَرَّةِ - أَيْ كَأَهْلِ
أَمْرِيكَا لِذَلِكَ الْعَهْدِ - هَؤُلَاءِ نَاجُونَ حَتْمًا ( أَيْ إِنْ لَمْ تَكُنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةٌ أُخْرَى صَحِيحَةٌ ) . وَمَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ عَلَى وَجْهِهَا وَلَمْ يَنْظُرْ فِي أَدِلَّتِهَا إِهْمَالًا أَوْ عِنَادًا
[ ص: 281 ] أَوِ اسْتِكْبَارًا وَهَؤُلَاءِ مُؤَاخَذُونَ حَتْمًا . وَمَنْ بَلَغَتْهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا أَوْ مَعَ فَقْدِ شَرْطِهَا ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ عَلَى وَجْهٍ يُحَرِّكُ دَاعِيَةَ النَّظَرِ ، وَهَؤُلَاءِ فِي مَعْنَى الصِّنْفِ الْأَوَّلِ . هَذَا مَعْنَى عِبَارَتِهِ الْمُطَابِقَةِ لِأُصُولِ الْكَلَامِ .
( وَأَقُولُ ) عِبَارَتُهُ فِي كِتَابِ فَيْصَلِ التَّفْرِقَةِ فِي هَذَا الصِّنْفِ هِيَ : وَصِنْفٌ ثَالِثٌ بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ بَلَغَهُمُ اسْمُ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَبْلُغْهُمْ نَعْتُهُ وَصِفَتُهُ ، بَلْ سَمِعُوا مُنْذُ الصِّبَا أَنَّ كَذَّابًا مُدَلِّسًا اسْمَهُ
مُحَمَّدٌ ادَّعَى النُّبُوَّةَ كَمَا سَمِعَ صِبْيَانُنَا أَنَّ كَذَّابًا يُقَالُ لَهُ : ( الْمُقَفَّعُ ) ( لَعَنَهُ اللَّهُ ) تَحَدَّى بِالنُّبُوَّةِ كَاذِبًا ، فَهَؤُلَاءِ عِنْدِي فِي مَعْنَى الصِّنْفِ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّ أُولَئِكَ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا اسْمَهُ لَمْ يَسْمَعُوا ضِدَّ أَوْصَافِهِ ، وَهَؤُلَاءِ سَمِعُوا ضِدَّ أَوْصَافِهِ ، وَهَذَا لَا يُحَرِّكُ دَاعِيَةَ النَّظَرِ فِي الطَّلَبِ ا هـ .
وَأَقُولُ فِي حَلِّ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا : إِنَّ أَهْلَ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ - وَهُمُ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ نَبِيٍّ عَلَى وَجْهِهَا وَبِشَرْطِهَا - إِذَا آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ الَّذِي بَيَّنَهُ نَبِيُّهُمْ وَعَمِلُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ ، فَهُمْ نَاجُونَ مَأْجُورُونَ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - ، وَإِذَا آمَنُوا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الصَّحِيحِ ،
كَالْمُشَبِّهَةِ وَالْحُلُولِيَّةِ وَالِاتِّحَادِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ ، فَلَا يَنَالُهُمْ مِنْ هَذَا الْوَعْدِ شَيْءٌ ، بَلْ يَتَنَاوَلَهُمُ الْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى ، وَكَذَلِكَ حَالُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِأَقْوَالِهِمْ دُونَ أَعْمَالِهِمْ ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ الصَّحِيحَ هُوَ صَاحِبُ السُّلْطَانِ الْأَعْلَى عَلَى الْقَلْبِ ، وَالْإِرَادَةِ الَّتِي تُحَرِّكُ الْأَعْضَاءَ فِي الْأَعْمَالِ ، فَإِنْ نَازَعَهُ فِي سُلْطَانِهِ طَائِفٌ مِنَ الشَّهْوَةِ فَإِنَّهُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَقْهَرَهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=201إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ) ( 7 : 201 ) ثُمَّ أَزِيدُ الْآنَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَالتَّفْصِيلَاتِ إِنَّمَا هِيَ فِي الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى اتِّبَاعِ دَعْوَةِ الرُّسُلِ وَعَدَمِهَا . وَلَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ بِشَرْطِهَا أَوْ مُطْلَقًا نَاجِينَ عَلَى سَوَاءٍ ، وَأَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ كَأَتْبَاعِ الرُّسُلِ فِي الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ . إِذْ لَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ بَعْثُ الرُّسُلِ شَرًّا مِنْ عَدَمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَكْثَرِ النَّاسِ . وَالْمَعْقُولُ الْمُوَافِقُ لِلنُّصُوصِ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُحَاسِبُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ تَبْلُغْهُمْ دَعْوَةٌ مَا بِحَسْبِ مَا عَقَلُوا وَاعْتَقَدُوا مِنَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَمُقَابِلِهِمَا ، وَسَتَجِدُ تَفْصِيلَ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ .