(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=4nindex.php?page=treesubj&link=28973_28739_28738_30179والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون )
أقول : روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنه - أن المراد بالمؤمنين هنا من يؤمن بالنبي والقرآن من أهل الكتاب ، وبالمؤمنين فيما قبلها من يؤمن من مشركي العرب ، واختاره
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وآخرون ، وعن
مجاهد وأبي العالية nindex.php?page=showalam&ids=14354والربيع بن أنس وقتادة : أن المؤمنين في الآيتين قسم واحد ، وهو كل مؤمن ، وإنما تعدد ما يؤمنون به ، فالعطف فيهما عطف الصفات لا عطف الموصوفين ، وثم قول ثالث شاذ ، وهو : أن الآيتين في مؤمني أهل الكتاب ، وقد بينا قول شيخنا وسيأتي شرحه . والمراد على كل رأي من قوله تعالى :
[ ص: 111 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=4والذين يؤمنون بما أنزل إليك ) الإيمان التفصيلي بكل ما أنزله الله تعالى في القرآن ، وأما قوله :
nindex.php?page=treesubj&link=28973 ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=4وما أنزل من قبلك ) فيكفي فيه الإيمان الإجمالي ، وقال شيخنا ما مثاله :
هذه هي الطبقة الثانية من المتقين ، وأعيد لفظ ( الذين ) لتحقيق التمايز بين الطبقتين ، وهذه الطبقة أرقى من الطبقة الأولى ؛ لأن أوصافها تقتضي الأوصاف التي أجريت على تلك وزيادة ، فالقرآن يكون هدى لها بالأولى ، ومعنى كونه هدى لها : أنه يكون إمامها في أعمالها وأحوالها ، لا تحيد عن النهج الذي نهجه لها ، كما ذكرنا .
ما كل من أظهر الإيمان بما ذكر مهتد بالقرآن ، فالمؤمنون بالقرآن على ضروب شتى ، ونرى بيننا كثيرين ممن إذا سئل عن القرآن قال : هو كلام الله ولا شك ، ولكن إذا عرضت أعماله وأحواله على القرآن نراها مباينة له كل المباينة ، القرآن ينهى عن الغيبة والنميمة والكذب ، وهو يغتاب ويسعى بالنميمة ولا يتأثم من الكذب ، القرآن يأمر بالفكر والتدبر ، وهو كما وصف القرآن المكذبين بقوله تعالى فيهم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=11الذين هم في غمرة ساهون ) ( 51 : 11 ) لا يفكر في أمر آخرته ، ولا في مستقبله ولا مستقبل أمته ، ولا يتدبر الآيات والنذر ، ولا الحوادث والعبر .
إن المؤمن الموقن المذكور في الآية الكريمة هو الذي يزين أعماله وأخلاقه باستكمال ما هدي إليه من القرآن دائما ، ويجعله معيارا يعرض عليه تلك الأعمال والأخلاق ، ليتبين : هل هو مهتد به أم لا ؟ مثال ذلك : الصلاة . يصفها القرآن بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وقال في المصلين : (
nindex.php?page=tafseer&surano=70&ayano=19إن الإنسان خلق هلوعا nindex.php?page=tafseer&surano=70&ayano=20إذا مسه الشر جزوعا nindex.php?page=tafseer&surano=70&ayano=21وإذا مسه الخير منوعا nindex.php?page=tafseer&surano=70&ayano=22إلا المصلين ) ( 70 : 19 - 22 ) .
فبين أن
nindex.php?page=treesubj&link=24589الصلاة تقتلع الصفات الذميمة الراسخة التي تكاد تكون فطرية ، فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، ولم تقتلع من نفسه جذور الجبن والهلع ، وتصطلم جراثيم البخل والطمع ، فليعلم أنه ليس مصليا في عرف القرآن ، ولا مستحقا لما وعد عباده الرحمن .
أما لفظ " الإنزال " فالمراد به ما ورد من جانب الربوبية الرفيع الأعلى ، وأوحى إلى العباد من الإرشاد الإلهي الأسمى ، وسمي إنزالا لما في جانب الألوهية من ذلك العلو ، علو الرب على المربوب ، والخالق على المخلوقين ، الذين لا يخرجون بالتكريم والاصطفاء عن كونهم عبيدا خاضعين ، وقد سمى القرآن غير الوحي من إسداء النعم الإلهية إنزالا فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ) ( : 57 : 25 ) فنكتف بهذا من معنى الإنزال ، وهو ما يفهمه كل عربي ، من حضر وبدو .
[ ص: 112 ] وأقول الآن : إنني كنت اكتفيت بهذا القدر في تفسير الإنزال تحاميا لما في المسألة من خلاف وجدال ، ولكنني عدت في التفسير إلى فصل المقال في مسائل النزاع ، فأزيد عليه أن إنزال الحديد فيه أقوال أخرى للسلف والخلف ، كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=6وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ) ( 39 - 6 ) أوضحها أن المراد إنزال الأحكام المتعلقة بها ، وقيل : إن الحديد نزل من الجنة مع آدم ، ومن المعلوم أن الإنزال في أصل اللغة : هو نقل الشيء من مكان عال إلى ما دونه ، ويطلق العلو مجازا في الأمور المعنوية ، فهو علو مكان وعلو مكانة ، ومن الثاني : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=83وإن فرعون لعال في الأرض ) ( 10 : 83 ) .
والتحقيق أن علو المكان الحسي أمر نسبي يختلف باختلاف موقع الناس من الأشياء ، والجهات كلها أمور نسبية لا حقيقية ، وأن
nindex.php?page=treesubj&link=28728الله سبحانه وتعالى فوق جميع خلقه بائن منهم ، بلا تشبيه ولا تمثيل ، ولا متصل بشيء ولا حال فيه ، مستو على عرشه بالمعنى الذي أراده ، وهذا وجه تسمية ما يأتي من لدنه إنزالا ، فملك الوحي كان يتلقى الوحي منه - عز وجل - وينزل به من السماء إلى الأرض فيتلقاه منه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نعلم صفة تلقي الملك عن الله تعالى ؛ لأنه من الغيب الذي نؤمن به مجملا كما بلغناه ، ولا صفة تلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من
جبريل ؛ لأنه من شأن النبوة ولسنا بأنبياء ، وهو من الصلة بين عالم الغيب والشهادة ، ولكن الله وصف لنا تكليمه للبشر بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء ) ( 42 : 51 ) الآية - وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=193نزل به الروح الأمين nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=194على قلبك لتكون من المنذرين nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=195بلسان عربي مبين ) ( 26 : 193 - 195 ) ووصفه لنا رسوله - صلى الله عليه وسلم - في جوابه لمن سأله عنه - وهو
الحارث بن هاشم المخزومي - فقال : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918609أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ) ) رواه الشيخان من حديث
عائشة - رضي الله عنها - . ثم قال تعالى :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=4nindex.php?page=treesubj&link=28973_30179وبالآخرة هم يوقنون ) أما لفظ ( الآخرة ) فقد ورد في القرآن كثيرا والمراد به الحياة الآخرة أو الدار الآخرة حيث الجزاء على الأعمال ، ويتضمن كل ما وردت به النصوص القطعية من الحساب والجزاء بالجنة وبالنار .
وأما اليقين : فهو الاعتقاد المطابق الواقع الذي لا يقبل الشك ولا الزوال ، فهو اعتقادان : اعتقاد أن الشيء كذا ، واعتقاد أنه لا يمكن أن يكون إلا كذا .
وأقول الآن : هذا ما قاله شيخنا في الدرس ، وهو عرف علماء المعقول من المنطقيين والمتكلمين ، وقد جاريناه عليه في مواضع ، وأما
nindex.php?page=treesubj&link=29507اليقين في اللغة : فهو الاعتقاد الجازم في غير الحسيات والضروريات كما صرحوا به ، فالجزم بخبر الصادق واعتقاد المبني على الأدلة والأمارات يسمى يقينا إذا كان ثابتا لا شك فيه .
[ ص: 113 ] وفي لسان العرب أن اليقين : العلم وإزاحة الشك وتحقيق الأمر ، وهو نقيض الشك . والعلم : نقيض الجهل ا هـ .
فالإيمان الشرعي يشترط فيه اليقين اللغوي فقط ، وهو التصديق الجازم الذي لا شك فيه ولا تردد ، ولا ملاحظة طرف راجح على طرف مرجوح ، فإن هذا هو الظن . و اليقين المنطقي أكمل ، وهو ما بنى عليه شيخنا ما يأتي مبسوطا لا ملخصا ، قال ما معناه :
( وصفهم بأنهم موقنون بالآخرة لأنهم مؤمنون بالقرآن ، ولم يصف بهذا الوصف الطائفة الأولى لأنها وإن كانت تؤمن بالغيب وتتوجه إلى الله تعالى بالصلاة المخصوصة بها وتنفق مما رزقها الله ، فذلك لا ينافي أنها في حيرة من أمر البعث والجزاء ، وكذلك كانت قبل الإيمان بالقرآن ، وكان من هداية القرآن لها : أن خرج بها من غمرات تلك الحيرة ) .
( ولا يعتد بما دون اليقين في الإيمان وقد قال الله تعالى في اعتقاد قوم : (
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=28وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) ( 53 : 28 ) وإذا لم يكن الظان موقنا وعلى نور من ربه في اعتقاده ، فما حال من هو دونه من الشاكين والمرتابين ؟ ويعرف اليقين في الإيمان بالله واليوم الآخر بآثاره في الأعمال ) .
( إننا نرى الرجل يأتي إلى المحكمة بدعوى زور يريد أن يأكل بها حق أخيه بالباطل أو يجامل آخر بشهادة زور ، أو ينتقم بها من ثالث ، وهو يعلم أنه مزور ومبطل ، فيقال له : اتق الله إن أمامك يوما يعض الظالم فيه على يديه فيقول : أعوذ بالله ، أنا أعلم أن أمامي يوما ، وأن أمامي شبرا من الأرض - يعني القبر - والدنيا لا تغني عن الآخرة ، ويحلف اليمين الغموس باسم الله تعالى أنه محق في دعواه أو في شهادته ، ثم يظهر التحقيق أنه مزور ، ويضطر إلى الاعتراف والإقرار بذلك ، فكأن الإيمان بالله واليوم الآخر عنده خيال يلوح في ذهنه عندما يريد الخلابة والخداع لأجل أكل الحقوق أو إرضاء الهوى ، ولا يظهر له أثر في أعماله وأحواله كأثر الاعتقاد ببعض المشايخ الميتين ، كما بينا ذلك من قبل ) .
( فمثل هذا الإيمان - وإن تعارف الناس على تسميته تلك - ليس من الإيمان الذي يقوم على ذلك المعنى من الإيقان ، ويظهر أثره في الجوارح والأركان ) .
ثم قال بعد كلام في
nindex.php?page=treesubj&link=29506آثار اليقين : اليقين إيمانك بالشيء ، والإحساس به من طريق وجدانك كأنك تراه ، بأن يكون قد بلغ بك العلم به أن صار مالكا لنفسك مصرفا لها في أعمالها ، ولا يكون العلم محققا للإيمان على هذا الوجه حتى تكون قد أصبته من إحدى طريقتين :
( الأولى ) النظر الصحيح فيما يحتاج فيه إلى النظر ، كالإيقان بوجود الله ورسالة الرسل ، وذلك بتلخيص المقدمات ، والوصول بها إلى حد الضروريات ، فأنت بعد الوصول إلى ما وصلت إليه كأنك راء ما استقر رأيك عليه .
[ ص: 114 ] ( والطريق الأخرى ) خبر الصادق المعصوم بعد أن قامت الدلائل على صدقه وعصمته عندك ، ولا يكون الخبر طريقا لليقين حتى تكون سمعت الخبر من نفس المعصوم - صلى الله عليه وسلم - ، أو جاءك عنه من طريق لا تحتمل الريب ، وهي طريق التواتر دون سواها ، فلا ينبوع لليقين بعد طول الزمن بيننا وبين النبوة إلا سبيل المتواترات التي لم يختلف أحد في وقوعها ، فالإيقان بالمغيبات كالآخرة وأحوالها والملأ الأعلى وأوصافه ، وصفات الله التي لا يهتدي إليها النظر لا يمكن تحصيله إلا من الكتاب العزيز ، وهو الحق الذي جاءنا من الله لا ريب فيه ، فعلينا أن نقف عندما أنبأ به من غير خلط ولا زيادة ولا قياس .
وأكد الإيقان بالآخرة بقوله : ( هم ) اهتماما بشأنه وليبين أن الإيقان بالآخرة خاصة من خواص الذين آمنوا بالقرآن وبما أنزل قبله من الكتب لا يشركهم فيه سواهم ، وقد علمت أنه لا بد أن يكون الموقن به من أحوال الآخرة قطعيا ، فهذه الإضافات التي أضافوها على أخبار الغيب وخلقوا لها الأحاديث ، بل أضافوا إليها أيضا أقوال أهل الكتاب وأشياء أخرى نسبوها إلى السلف ، وبعض غرائب جاءت على لسان المنتسبين للتصوف لا تدخل فيما يتعلق به اليقين ، بل الجهل بالكثير منها خير من العلم به ، فإنما الوصف الذي يمتاز به أهل القرآن هو اليقين ، ولا يكون اليقين إلا حيث يكون القطع ، وأما الظن : فهو وصف من عابهم القرآن وأزرى بهم ، فلا علاقة له بأحوالهم .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=4nindex.php?page=treesubj&link=28973_28739_28738_30179وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ )
أَقُولُ : رُوِيَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُؤْمِنِينَ هُنَا مَنْ يُؤْمِنُ بِالنَّبِيِّ وَالْقُرْآنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَبِالْمُؤْمِنِينَ فِيمَا قَبْلَهَا مَنْ يُؤْمَنُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ ، وَاخْتَارَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابْنُ جَرِيرٍ وَآخَرُونَ ، وَعَنْ
مُجَاهِدٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ nindex.php?page=showalam&ids=14354وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَقَتَادَةَ : أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْآيَتَيْنِ قِسْمٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ كُلُّ مُؤْمِنٍ ، وَإِنَّمَا تَعَدَّدَ مَا يُؤْمِنُونَ بِهِ ، فَالْعَطْفُ فِيهِمَا عَطْفُ الصِّفَاتِ لَا عَطْفُ الْمَوْصُوفِينَ ، وَثَمَّ قَوْلٌ ثَالِثٌ شَاذٌّ ، وَهُوَ : أَنَّ الْآيَتَيْنِ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا قَوْلَ شَيْخِنَا وَسَيَأْتِي شَرْحُهُ . وَالْمُرَادُ عَلَى كُلِّ رَأْيٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى :
[ ص: 111 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=4وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) الْإِيمَانُ التَّفْصِيلِيُّ بِكُلِّ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ :
nindex.php?page=treesubj&link=28973 ( nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=4وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ) فَيَكْفِي فِيهِ الْإِيمَانُ الْإِجْمَالِيُّ ، وَقَالَ شَيْخُنَا مَا مِثَالُهُ :
هَذِهِ هِيَ الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ، وَأُعِيدَ لَفْظُ ( الَّذِينَ ) لِتَحْقِيقِ التَّمَايُزِ بَيْنَ الطَّبَقَتَيْنِ ، وَهَذِهِ الطَّبَقَةُ أَرْقَى مِنَ الطَّبَقَةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ أَوْصَافَهَا تَقْتَضِي الْأَوْصَافَ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى تِلْكَ وَزِيَادَةً ، فَالْقُرْآنُ يَكُونُ هُدًى لَهَا بِالْأَوْلَى ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ هُدًى لَهَا : أَنَّهُ يَكُونُ إِمَامَهَا فِي أَعْمَالِهَا وَأَحْوَالِهَا ، لَا تَحِيدُ عَنِ النَّهْجِ الَّذِي نَهَجَهُ لَهَا ، كَمَا ذَكَرْنَا .
مَا كُلُّ مَنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ بِمَا ذُكِرَ مُهْتَدٍ بِالْقُرْآنِ ، فَالْمُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ عَلَى ضُرُوبٍ شَتَّى ، وَنَرَى بَيْنَنَا كَثِيرِينَ مِمَّنْ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْقُرْآنِ قَالَ : هُوَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَا شَكَّ ، وَلَكِنْ إِذَا عُرِضَتْ أَعْمَالُهُ وَأَحْوَالُهُ عَلَى الْقُرْآنِ نَرَاهَا مُبَايِنَةً لَهُ كُلَّ الْمُبَايَنَةِ ، الْقُرْآنُ يَنْهَى عَنِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْكَذِبِ ، وَهُوَ يَغْتَابُ وَيَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ وَلَا يَتَأَثَّمُ مِنَ الْكَذِبِ ، الْقُرْآنُ يَأْمُرُ بِالْفِكْرِ وَالتَّدَبُّرِ ، وَهُوَ كَمَا وَصَفَ الْقُرْآنُ الْمُكَذِّبِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِمْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=11الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ) ( 51 : 11 ) لَا يُفَكِّرُ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِ ، وَلَا فِي مُسْتَقْبَلِهِ وَلَا مُسْتَقْبَلِ أُمَّتِهِ ، وَلَا يَتَدَبَّرُ الْآيَاتِ وَالنُّذُرَ ، وَلَا الْحَوَادِثَ وَالْعِبَرَ .
إِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُوقِنَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ الَّذِي يُزَيِّنُ أَعْمَالَهُ وَأَخْلَاقَهُ بِاسْتِكْمَالِ مَا هُدِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ دَائِمًا ، وَيَجْعَلُهُ مِعْيَارًا يَعْرِضُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَعْمَالَ وَالْأَخْلَاقَ ، لِيَتَبَيَّنَ : هَلْ هُوَ مُهْتَدٍ بِهِ أَمْ لَا ؟ مِثَالُ ذَلِكَ : الصَّلَاةُ . يَصِفُهَا الْقُرْآنُ بِأَنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ، وَقَالَ فِي الْمُصَلِّينَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=70&ayano=19إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا nindex.php?page=tafseer&surano=70&ayano=20إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا nindex.php?page=tafseer&surano=70&ayano=21وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا nindex.php?page=tafseer&surano=70&ayano=22إِلَّا الْمُصَلِّينَ ) ( 70 : 19 - 22 ) .
فَبَيِّنَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=24589الصَّلَاةَ تَقْتَلِعُ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةَ الرَّاسِخَةَ الَّتِي تَكَادُ تَكُونُ فِطْرِيَّةً ، فَمَنْ لَمْ تَنْهَهُ صِلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ، وَلَمْ تَقْتَلِعْ مِنْ نَفْسِهِ جُذُورَ الْجُبْنِ وَالْهَلَعِ ، وَتَصْطَلِمُ جَرَاثِيمَ الْبُخْلِ وَالطَّمَعِ ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مُصَلِّيًا فِي عُرْفِ الْقُرْآنِ ، وَلَا مُسْتَحِقًّا لِمَا وَعَدَ عِبَادَهُ الرَّحْمَنُ .
أَمَّا لَفْظُ " الْإِنْزَالِ " فَالْمُرَادُ بِهِ مَا وَرَدَ مِنْ جَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ الرَّفِيعِ الْأَعْلَى ، وَأَوْحَى إِلَى الْعِبَادِ مِنَ الْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ الْأَسْمَى ، وَسُمِّيَ إِنْزَالًا لِمَا فِي جَانِبِ الْأُلُوهِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْعُلُوِّ ، عُلُوِّ الرَّبِّ عَلَى الْمَرْبُوبِ ، وَالْخَالِقِ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ ، الَّذِينَ لَا يَخْرُجُونَ بِالتَّكْرِيمِ وَالِاصْطِفَاءِ عَنْ كَوْنِهِمْ عَبِيدًا خَاضِعِينَ ، وَقَدْ سَمَّى الْقُرْآنُ غَيْرَ الْوَحْيِ مِنْ إِسْدَاءِ النِّعَمِ الْإِلَهِيَّةِ إِنْزَالًا فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=57&ayano=25وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) ( : 57 : 25 ) فَنَكْتَفِ بِهَذَا مِنْ مَعْنَى الْإِنْزَالِ ، وَهُوَ مَا يَفْهَمُهُ كُلُّ عَرَبِيٍّ ، مِنْ حَضَرٍ وَبَدْوٍ .
[ ص: 112 ] وَأَقُولُ الْآنَ : إِنَّنِي كُنْتُ اكْتَفَيْتُ بِهَذَا الْقَدْرِ فِي تَفْسِيرِ الْإِنْزَالِ تَحَامِيًا لِمَا فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ خِلَافٍ وَجِدَالٍ ، وَلَكِنَّنِي عُدْتُ فِي التَّفْسِيرِ إِلَى فَصْلِ الْمَقَالِ فِي مَسَائِلِ النِّزَاعِ ، فَأَزِيدُ عَلَيْهِ أَنَّ إِنْزَالَ الْحَدِيدِ فِيهِ أَقْوَالٌ أُخْرَى لِلسَّلَفِ وَالْخَلْفِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=6وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) ( 39 - 6 ) أَوْضَحُهَا أَنَّ الْمُرَادَ إِنْزَالُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَا ، وَقِيلَ : إِنَّ الْحَدِيدَ نُزِّلَ مِنَ الْجَنَّةِ مَعَ آدَمَ ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْإِنْزَالَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ : هُوَ نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ عَالٍ إِلَى مَا دُونَهُ ، وَيُطْلَقُ الْعُلُوُّ مَجَازًا فِي الْأُمُورِ الْمَعْنَوِيَّةِ ، فَهُوَ عُلُوُّ مَكَانٍ وَعُلُوُّ مَكَانَةٍ ، وَمِنَ الثَّانِي : (
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=83وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لِعَالٍ فِي الْأَرْضِ ) ( 10 : 83 ) .
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ عُلُوَّ الْمَكَانِ الْحِسِّيِّ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوْقِعِ النَّاسِ مِنَ الْأَشْيَاءِ ، وَالْجِهَاتُ كُلُّهَا أُمُورٌ نِسْبِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ ، وَأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28728اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ بَائِنٌ مِنْهُمْ ، بِلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَمْثِيلٍ ، وَلَا مُتَّصِلٌ بِشَيْءٍ وَلَا حَالٌ فِيهِ ، مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ ، وَهَذَا وَجْهُ تَسْمِيَةِ مَا يَأْتِي مِنْ لَدُنْهُ إِنْزَالًا ، فَمَلَكُ الْوَحْيِ كَانَ يَتَلَقَّى الْوَحْيَ مِنْهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَيَنْزِلُ بِهِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ فَيَتَلَقَّاهُ مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا نَعْلَمُ صِفَةَ تَلَقِّي الْمَلَكِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي نُؤْمِنُ بِهِ مُجْمَلًا كَمَا بُلِّغْنَاهُ ، وَلَا صِفَةَ تَلَقِّي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ
جِبْرِيلَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ شَأْنِ النُّبُوَّةِ وَلَسْنَا بِأَنْبِيَاءَ ، وَهُوَ مِنَ الصِّلَةِ بَيْنَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ وَصَفَ لَنَا تَكْلِيمَهُ لِلْبَشَرِ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=51وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) ( 42 : 51 ) الْآيَةَ - وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=193نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=194عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=195بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) ( 26 : 193 - 195 ) وَوَصَفَهُ لَنَا رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَوَابِهِ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْهُ - وَهُوَ
الْحَارِثُ بْنُ هَاشِمٍ الْمَخْزُومِيُّ - فَقَالَ : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918609أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ ) ) رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=4nindex.php?page=treesubj&link=28973_30179وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) أَمَّا لَفْظُ ( الْآخِرَةِ ) فَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَيَاةُ الْآخِرَةُ أَوِ الدَّارُ الْآخِرَةُ حَيْثُ الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ ، وَيَتَضَمَّنُ كُلَّ مَا وَرَدَتْ بِهِ النُّصُوصُ الْقَطْعِيَّةُ مِنَ الْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ بِالْجَنَّةِ وَبِالنَّارِ .
وَأَمَّا الْيَقِينُ : فَهُوَ الِاعْتِقَادُ الْمُطَابِقُ الْوَاقِعِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الشَّكَّ وَلَا الزَّوَالَ ، فَهُوَ اعْتِقَادَانِ : اعْتِقَادُ أَنَّ الشَّيْءَ كَذَا ، وَاعْتِقَادُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا كَذَا .
وَأَقُولُ الْآنَ : هَذَا مَا قَالَهُ شَيْخُنَا فِي الدَّرْسِ ، وَهُوَ عُرْفُ عُلَمَاءِ الْمَعْقُولِ مِنَ الْمَنْطِقِيِّينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ ، وَقَدْ جَارَيْنَاهُ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ ، وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=29507الْيَقِينُ فِي اللُّغَةِ : فَهُوَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ فِي غَيْرِ الْحِسِّيَّاتِ وَالضَّرُورِيَّاتِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، فَالْجَزْمُ بِخَبَرِ الصَّادِقِ وَاعْتِقَادِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْأَدِلَّةِ وَالْأَمَارَاتِ يُسَمَّى يَقِينًا إِذَا كَانَ ثَابِتًا لَا شَكَّ فِيهِ .
[ ص: 113 ] وَفِي لِسَانِ الْعَرَبِ أَنَّ الْيَقِينَ : الْعِلْمُ وَإِزَاحَةُ الشَّكِّ وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ ، وَهُوَ نَقِيضُ الشَّكِّ . وَالْعِلْمُ : نَقِيضُ الْجَهْلِ ا هـ .
فَالْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْيَقِينُ اللُّغَوِيُّ فَقَطْ ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا تَرَدُّدَ ، وَلَا مُلَاحَظَةَ طَرَفٍ رَاجِحٍ عَلَى طَرَفٍ مَرْجُوحٍ ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الظَّنُّ . وَ الْيَقِينُ الْمَنْطِقِيُّ أَكْمَلُ ، وَهُوَ مَا بَنَى عَلَيْهِ شَيْخُنَا مَا يَأْتِي مَبْسُوطًا لَا مُلَخَّصًا ، قَالَ مَا مَعْنَاهُ :
( وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ مُوقِنُونَ بِالْآخِرَةِ لِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ ، وَلَمْ يَصِفْ بِهَذَا الْوَصْفِ الطَّائِفَةَ الْأَوْلَى لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ تُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ وَتَتَوَجَّهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ الْمَخْصُوصَةِ بِهَا وَتُنْفِقُ مِمَّا رَزَقَهَا اللَّهُ ، فَذَلِكَ لَا يُنَافِي أَنَّهَا فِي حَيْرَةٍ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ قَبْلَ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ ، وَكَانَ مِنْ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ لَهَا : أَنْ خَرَجَ بِهَا مِنْ غَمَرَاتِ تِلْكَ الْحَيْرَةِ ) .
( وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا دُونَ الْيَقِينِ فِي الْإِيمَانِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي اعْتِقَادِ قَوْمٍ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=28وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ) ( 53 : 28 ) وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الظَّانُّ مُوقِنًا وَعَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فِي اعْتِقَادِهِ ، فَمَا حَالُ مَنْ هُوَ دُونَهُ مِنَ الشَّاكِينَ وَالْمُرْتَابِينَ ؟ وَيُعْرَفُ الْيَقِينُ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بِآثَارِهِ فِي الْأَعْمَالِ ) .
( إِنَّنَا نَرَى الرَّجُلَ يَأْتِي إِلَى الْمَحْكَمَةِ بِدَعْوَى زُورٍ يُرِيدُ أَنْ يَأْكُلَ بِهَا حَقَّ أَخِيهِ بِالْبَاطِلِ أَوْ يُجَامِلَ آخَرَ بِشَهَادَةِ زُورٍ ، أَوْ يَنْتَقِمَ بِهَا مِنْ ثَالِثٍ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُزَوِّرٌ وَمُبْطِلٌ ، فَيُقَالُ لَهُ : اتَّقِ اللَّهَ إِنَّ أَمَامَكَ يَوْمًا يَعَضُّ الظَّالِمُ فِيهِ عَلَى يَدَيْهِ فَيَقُولُ : أَعُوذُ بِاللَّهِ ، أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ أَمَامِي يَوْمًا ، وَأَنَّ أَمَامِي شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ - يَعْنِي الْقَبْرَ - وَالدُّنْيَا لَا تُغْنِي عَنِ الْآخِرَةِ ، وَيَحْلِفُ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي دَعْوَاهُ أَوْ فِي شَهَادَتِهِ ، ثُمَّ يُظْهِرُ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ مُزَوِّرٌ ، وَيُضْطَرُّ إِلَى الِاعْتِرَافِ وَالْإِقْرَارِ بِذَلِكَ ، فَكَأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عِنْدَهُ خَيَالٌ يَلُوحُ فِي ذِهْنِهِ عِنْدَمَا يُرِيدُ الْخِلَابَةَ وَالْخِدَاعَ لِأَجْلِ أَكْلِ الْحُقُوقِ أَوْ إِرْضَاءِ الْهَوَى ، وَلَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِي أَعْمَالِهِ وَأَحْوَالِهِ كَأَثَرِ الِاعْتِقَادِ بِبَعْضِ الْمَشَايِخِ الْمَيِّتِينَ ، كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ ) .
( فَمِثْلُ هَذَا الْإِيمَانِ - وَإِنْ تَعَارَفَ النَّاسُ عَلَى تَسْمِيَتِهِ تِلْكَ - لَيْسَ مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَقُومُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنَ الْإِيقَانِ ، وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْجَوَارِحِ وَالْأَرْكَانِ ) .
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَامٍ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=29506آثَارِ الْيَقِينِ : الْيَقِينُ إِيمَانُكَ بِالشَّيْءِ ، وَالْإِحْسَاسُ بِهِ مِنْ طَرِيقِ وِجْدَانِكَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، بِأَنْ يَكُونَ قَدْ بَلَغَ بِكَ الْعِلْمُ بِهِ أَنْ صَارَ مَالِكًا لِنَفْسِكَ مُصَرِّفًا لَهَا فِي أَعْمَالِهَا ، وَلَا يَكُونُ الْعِلْمُ مُحَقَّقًا لِلْإِيمَانِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَتَّى تَكُونَ قَدْ أَصَبْتَهُ مِنْ إِحْدَى طَرِيقَتَيْنِ :
( الْأَوْلَى ) النَّظَرُ الصَّحِيحُ فِيمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى النَّظَرِ ، كَالْإِيقَانِ بِوُجُودِ اللَّهِ وَرِسَالَةِ الرُّسُلِ ، وَذَلِكَ بِتَلْخِيصِ الْمُقَدَّمَاتِ ، وَالْوُصُولِ بِهَا إِلَى حَدِّ الضَّرُورِيَّاتِ ، فَأَنْتَ بَعْدَ الْوُصُولِ إِلَى مَا وَصَلْتَ إِلَيْهِ كَأَنَّكَ رَاءٍ مَا اسْتَقَرَّ رَأْيُكَ عَلَيْهِ .
[ ص: 114 ] ( وَالطَّرِيقُ الْأُخْرَى ) خَبَرُ الصَّادِقِ الْمَعْصُومِ بَعْدَ أَنْ قَامَتِ الدَّلَائِلُ عَلَى صِدْقِهِ وَعِصْمَتِهِ عِنْدَكَ ، وَلَا يَكُونُ الْخَبَرُ طَرِيقًا لِلْيَقِينِ حَتَّى تَكُونَ سَمِعْتَ الْخَبَرَ مِنْ نَفْسِ الْمَعْصُومِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، أَوْ جَاءَكَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقٍ لَا تَحْتَمِلُ الرِّيَبَ ، وَهِيَ طَرِيقُ التَّوَاتُرِ دُونَ سِوَاهَا ، فَلَا يَنْبُوعَ لِلْيَقِينِ بَعْدَ طُولِ الزَّمَنِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا سَبِيلُ الْمُتَوَاتِرَاتِ الَّتِي لَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ فِي وُقُوعِهَا ، فَالْإِيقَانُ بِالْمُغَيَّبَاتِ كَالْآخِرَةِ وَأَحْوَالِهَا وَالْمَلَأِ الْأَعْلَى وَأَوْصَافِهِ ، وَصِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا النَّظَرُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ إِلَّا مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي جَاءَنَا مِنَ اللَّهِ لَا رَيْبَ فِيهِ ، فَعَلَيْنَا أَنْ نَقِفَ عِنْدَمَا أَنْبَأَ بِهِ مِنْ غَيْرِ خَلْطٍ وَلَا زِيَادَةٍ وَلَا قِيَاسٍ .
وَأَكَّدَ الْإِيقَانَ بِالْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ : ( هُمْ ) اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ وَلِيُبَيِّنَ أَنَّ الْإِيقَانَ بِالْآخِرَةِ خَاصَّةٌ مِنْ خَوَاصِّ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقُرْآنِ وَبِمَا أُنْزِلَ قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ لَا يُشْرِكُهُمْ فِيهِ سِوَاهُمْ ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُوقِنُ بِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ قَطْعِيًّا ، فَهَذِهِ الْإِضَافَاتُ الَّتِي أَضَافُوهَا عَلَى أَخْبَارِ الْغَيْبِ وَخَلَقُوا لَهَا الْأَحَادِيثَ ، بَلْ أَضَافُوا إِلَيْهَا أَيْضًا أَقْوَالَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَشْيَاءَ أُخْرَى نَسَبُوهَا إِلَى السَّلَفِ ، وَبَعْضَ غَرَائِبَ جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ الْمُنْتَسِبِينَ لِلتَّصَوُّفِ لَا تَدْخُلُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْيَقِينُ ، بَلِ الْجَهْلُ بِالْكَثِيرِ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ ، فَإِنَّمَا الْوَصْفُ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ أَهْلُ الْقُرْآنِ هُوَ الْيَقِينُ ، وَلَا يَكُونُ الْيَقِينُ إِلَّا حَيْثُ يَكُونُ الْقَطْعُ ، وَأَمَّا الظَّنُّ : فَهُوَ وَصْفُ مَنْ عَابَهُمُ الْقُرْآنُ وَأَزْرَى بِهِمْ ، فَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِأَحْوَالِهِمْ .