( الوظيفة السادسة في ) وأعني بالكف كف الباطن عن التفكير في هذه الأمور ، فذلك واجب عليه كما وجب عليه إمساك اللسان عن السؤال والتصرف ، وهذا أثقل الوظائف وأشدها ، وهو واجب كما وجب على العاجز الزمن ألا يخوض غمرة البحار وإن كان يتقاضاه طبعه أن يغوص في البحار ويخرج دررها وجواهرها ، ولكن لا ينبغي أن يغره نفاسة جواهرها مع عجزه عن نيلها ، بل ينبغي أن ينظر إلى عجزه وكثرة معاطبها ومهالكها ويتفكر أنه إن فاته نفائس البحار فما فاته إلا زيادات وتوسعات في المعيشة وهو مستغن عنها ، فإن غرق أو التقمه تمساح فاته أصل الحياة ، فإن قلت : إن لم ينصرف قلبه من التفكير والتشوف إلى البحث فما طريقه ؟ قلت : طريقه أن يشغل نفسه بعبادة الله وبالصلاة وبقراءة القرآن والذكر ، فإن لم يقدر فبعلم آخر لا يناسب هذا الجنس من لغة أو نحو أو خط أو طب أو فقه ، فإن لم يمكنه فبحرفة أو صناعة ولو الحراثة والحياكة ، فإن لم يقدر فبلعب ولهو ، وكل ذلك خير له من الخوض في هذا البحر البعيد غوره وعمقه ، العظيم خطره وضرره ، بل لو اشتغل العامي بالمعاصي البدنية ربما كان أسلم له من أن يخوض في البحث عن معرفة الله - تعالى - ، فإن ذلك غايته الفسق ، وهذا عاقبته الشرك . و الكف بعد الإمساك إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 : 48 ] فإن قلت : العامي إذا لم تسكن نفسه إلى الاعتقادات الدينية إلا بدليل ، فهل يجوز أن يذكر له الدليل ، فإن جوزت ذلك فقد رخصت له في التفكير والنظر ، وأي فرق بينه وبين غيره ؟ الجواب : أني أجوز له أن يسمع [ ص: 185 ] الدليل على معرفة الخالق ووحدانيته وعلى صدق الرسول وعلى اليوم الآخر ، ولكن بشرطين : ( أحدهما ) ألا يزاد معه على الأدلة التي في القرآن ( والآخر ) ألا يماري فيه إلا مراء ظاهرا ولا يتفكر فيه إلا تفكيرا سهلا جليا ولا يمعن في التفكر ، ولا يوغل غاية الإيغال في البحث .
وأدلة هذه الأمور الأربعة ما ذكر في القرآن ، أما الدليل على معرفة الخالق فمثل قوله - تعالى - : قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله [ 10 : 31 ] وقوله : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد [ 50 : 6 - 10 ] وكقوله : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا [ 80 : 24 - 31 ] وقوله : ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا إلى قوله : وجنات ألفافا [ 78 : 6 - 16 ] وأمثال ذلك ، وهي قريب من خمسمائة آية جمعناها في كتاب جواهر القرآن ، بها ينبغي أن يعرف الخلق جلال الله الخالق وعظمته لا بقول المتكلمين : إن الأغراض حادثة ، وإن الجواهر لا تخلو عن الأغراض الحادثة فهي حادثة ، ثم الحادث يفتقر إلى محدث ، فإن تلك التقسيمات والمقدمات وإثباتها بأدلتها الرسمية يشوش قلوب العوام ، والدلالات الظاهرة القريبة من الأفهام على ما في القرآن تنفعهم وتسكن نفوسهم وتغرس في قلوبهم الاعتقادات الجازمة ، وأما فيقنع فيه بما في القرآن من قوله : الدليل على الوحدانية لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 : 22 ] فإن اجتماع المدبرين سبب إفساد التدبير ، وبمثل قوله : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا [ 17 : 42 ] وقوله - تعالى - : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض [ 23 : 91 ] وأما فيستدل عليه بقوله - تعالى - : صدق الرسول قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا [ 17 : 88 ] وبقوله : فأتوا بسورة من مثله [ 2 : 23 ] وقوله : قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات [ 11 : 13 ] وأمثاله . وأما قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ 36 : 78 ، 79 ] وبقوله : اليوم الآخر فيستدل عليه بقوله : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى إلى قوله : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 75 : 36 - 40 ] وبقوله : يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب إلى قوله : فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت [ 22 : 5 ] وقوله : [ ص: 186 ] فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى [ 41 : 39 ] وأمثال ذلك كثير في القرآن ، فلا ينبغي أن يزاد عليه ، فإن قيل : فهذه الأدلة التي اعتمدها المتكلمون وقرروا وجه دلالتها فما بالهم يمتنعون عن تقرير هذه الأدلة ولا يمنعون عنها ، وكل ذلك مدرك بنظر العقل وتأمله ؟ فإن فتح للعامي باب النظر فليفتح مطلقا أو ليسد عليه طريق النظر رأسا وليكلف التقليد من غير دليل . ( الجواب ) أن الأدلة تنقسم إلى ما يحتاج فيه إلى تفكر وتدقيق خارج عن طاقة العامي وقدرته ، وإلى ما هو جلي سابق إلى الأفهام ببادي الرأي من أول النظر مما يدركه كافة الناس بسهولة ، فهذا لا خطر فيه ، وما يفتقر إلى التدقيق فليس على حد وسعه ; فأدلة القرآن مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان ، وأدلة المتكلمين مثل الدواء ينتفع به آحاد الناس ، ويستضر به الأكثرون ، بل أدلة القرآن كالماء الذي ينتفع به الصبي الرضيع والرجل القوي ، وسائر الأدلة كالأطعمة التي ينتفع بها الأقوياء مرة ويمرضون بها أخرى ولا ينتفع بها الصبيان أصلا ; ولهذا قلنا : أدلة القرآن أيضا ينبغي أن يصغي إليها إصغاءه إلى كلام جلي ، ولا يماري فيه إلا مراء ظاهرا ، ولا يكلف نفسه تدقيق الفكر وتحقيق النظر ، فمن الجلي أن من قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر كما قال : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [ 30 : 27 ] وأن التدبير لا ينتظم في دار واحدة بمدبرين فكيف ينتظم في كل العالم ؟ وأن من خلق علم ، كما قال - تعالى - : ألا يعلم من خلق [ 67 : 14 ] فهذه الأدلة تجري للعوام مجرى الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي ، وما أخذه المتكلمون وراء ذلك من تنقير وسؤال وتوجيه إشكال ثم اشتغال بحله فهو بدعة وضرره في حق أكثر الخلق ظاهر ، فهو الذي ينبغي أن يتوقى ، والدليل على تضرر الخلق به المشاهدة والعيان والتجربة ، وما ثار من الشر منذ نبغ المتكلمون وفشت صناعة الكلام مع سلامة العصر الأول من الصحابة عن مثل ذلك . ويدل عليه أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة بأجمعهم ما سلكوا في المحاجة مسلك المتكلمين في تقسيماتهم وتدقيقاتهم لا لعجز منهم عن ذلك ، فلو علموا أن ذلك نافع لأطنبوا فيه ، ولخاضوا في تحرير الأدلة خوضا يزيد على خوضهم في مسائل الفرائض ، فإن قيل : إنما أمسكوا عنه لقلة الحاجة فإن البدع إنما نبعت بعدهم فعظم حاجة المتأخرين وعلم الكلام راجع إلى علم معالجة المرضى بالبدع ، فلما قلت في زمانهم أمراض البدع قلت عنايتهم بجميع طرق المعالجة ، فالجواب من وجهين :
( أحدهما ) أنهم في مسائل الفرائض ما اقتصروا على بيان حكم الوقائع ، بل وضعوا المسائل وفوضوا فيها ما تنقضي الدهور ولا يقع مثله ; لأن ذلك ما أمكن وقوعه فصنفوا علمه ورتبوه قبل وقوعه ، إذ علموا أنه لا ضرر في الخوض فيه ، وفي بيان حكم الواقعة قبل وقوعها ، والعناية بإزالة البدع ونزعها عن النفوس أهم ، فلم يتخذوا ذلك صناعة لأنهم [ ص: 187 ] عرفوا أن الاستضرار بالخوض فيه أكثر من الانتفاع ، ولولا أنهم كانوا قد حذروا من ذلك وفهموا تحريم الخوض لخاضوا فيه .
( والجواب الثاني ) أنهم كانوا محتاجين إلى محاجة اليهود والنصارى في إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وإلى إثبات البعث مع منكريه ، ثم ما زادوا في هذه القواعد التي هي أمهات العقائد على أدلة القرآن ، فمن أقنعه ذلك قبلوه ومن لم يقنع قتلوه ، وعدلوا إلى السيف والسنان بعد إفشاء أدلة القرآن وما ركبوا ظهر اللجاج في وضع المقاييس العقلية وترتيب المقدمات وتحرير طريق المجادلة ، وتذليل طرقها ومنهاجها ، كل ذلك لعلمهم بأن ذلك مثار الفتن ومنبع التشويش ، ومن لا يقنعه أدلة القرآن لا يقمعه إلا السيف والسنان ، فما بعد بيان الله بيان ، على أننا ننصف ولا ننكر أن حاجة المعالجة تزيد بزيادة المرض ، وأن لطول الزمان وبعد العهد عن عصر النبوة تأثيرا في إثارة الإشكالات ، وأن للعلاج طريقين :
( أحدهما ) : الخوض في البيان والبرهان إلى أن يصلح واحد يفسد به اثنان ، فإن صلاحه بالإضافة إلى الأكياس وفساده بالإضافة إلى البله ، وما أقل الأكياس وما أكثر البله والعناية بالأكثرين أولى .
( والطريق الثاني ) : طريق السلف في الكف والسكوت والعدول إلى الدرة والسوط والسيف ، وذلك مما يقنع الأكثرين وإن كان لا يقنع الأقلين ، وآية إقناعه أن من يسترق من الكفار من العبيد والإماء تراهم يسلمون تحت ظلال السيوف ، ثم يستمرون عليه حتى يصير طوعا ما كان في البداية كرها ، ويصير اعتقاده جزما ما كان في الابتداء مراء وشكا ، وذلك بمشاهدة أهل الدين والمؤانسة بهم وسماع كلام الله ورؤية الصالحين وخبرهم وقرائن من هذا الجنس تناسب طباعهم مناسبة أشد من مناسبة الجدل والدليل ; فإذا كان كل واحد من العلاجين يناسب قوما دون قوم وجب ترجيح الأنفع في الأكثر ، فالمعاصرون للطبيب الأول المؤيد بروح القدس المكاشف من الحضرة الإلهية الموحى إليه من الخبير البصير بأسرار عباده وبواطنهم أعرف بالأصوب والأصلح قطعا ، فسلوك سبيلهم لا محالة أولى .