( الوظيفة السادسة في
nindex.php?page=treesubj&link=28708الكف بعد الإمساك ) وأعني بالكف كف الباطن عن التفكير في هذه الأمور ، فذلك واجب عليه كما وجب عليه إمساك اللسان عن السؤال والتصرف ، وهذا أثقل الوظائف وأشدها ، وهو واجب كما وجب على العاجز الزمن ألا يخوض غمرة البحار وإن كان يتقاضاه طبعه أن يغوص في البحار ويخرج دررها وجواهرها ، ولكن لا ينبغي أن يغره نفاسة جواهرها مع عجزه عن نيلها ، بل ينبغي أن ينظر إلى عجزه وكثرة معاطبها ومهالكها ويتفكر أنه إن فاته نفائس البحار فما فاته إلا زيادات وتوسعات في المعيشة وهو مستغن عنها ، فإن غرق أو التقمه تمساح فاته أصل الحياة ، فإن قلت : إن لم ينصرف قلبه من التفكير والتشوف إلى البحث فما طريقه ؟ قلت : طريقه أن يشغل نفسه بعبادة الله وبالصلاة وبقراءة القرآن والذكر ، فإن لم يقدر فبعلم آخر لا يناسب هذا الجنس من لغة أو نحو أو خط أو طب أو فقه ، فإن لم يمكنه فبحرفة أو صناعة ولو الحراثة والحياكة ، فإن لم يقدر فبلعب ولهو ، وكل ذلك خير له من الخوض في هذا البحر البعيد غوره وعمقه ، العظيم خطره وضرره ، بل لو اشتغل العامي بالمعاصي البدنية ربما كان أسلم له من أن يخوض في البحث عن معرفة الله - تعالى - ، فإن ذلك غايته الفسق ، وهذا عاقبته الشرك . و
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=48إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 : 48 ] فإن قلت : العامي إذا لم تسكن نفسه إلى الاعتقادات الدينية إلا بدليل ، فهل يجوز أن يذكر له الدليل ، فإن جوزت ذلك فقد رخصت له في التفكير والنظر ، وأي فرق بينه وبين غيره ؟ الجواب : أني أجوز له أن يسمع
[ ص: 185 ] الدليل على معرفة الخالق ووحدانيته وعلى صدق الرسول وعلى اليوم الآخر ، ولكن بشرطين : ( أحدهما ) ألا يزاد معه على الأدلة التي في القرآن ( والآخر ) ألا يماري فيه إلا مراء ظاهرا ولا يتفكر فيه إلا تفكيرا سهلا جليا ولا يمعن في التفكر ، ولا يوغل غاية الإيغال في البحث .
وأدلة هذه الأمور الأربعة ما ذكر في القرآن ، أما الدليل على معرفة الخالق فمثل قوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=31قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله [ 10 : 31 ] وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=6أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=7والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=8تبصرة وذكرى لكل عبد منيب nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=9ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=10والنخل باسقات لها طلع نضيد [ 50 : 6 - 10 ] وكقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=24فلينظر الإنسان إلى طعامه nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=25أنا صببنا الماء صبا nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=26ثم شققنا الأرض شقا nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=27فأنبتنا فيها حبا nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=28وعنبا وقضبا nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=29وزيتونا ونخلا nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=30وحدائق غلبا nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=31وفاكهة وأبا [ 80 : 24 - 31 ] وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=6ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=16وجنات ألفافا [ 78 : 6 - 16 ] وأمثال ذلك ، وهي قريب من خمسمائة آية جمعناها في كتاب جواهر القرآن ، بها ينبغي أن يعرف الخلق جلال الله الخالق وعظمته لا بقول المتكلمين : إن الأغراض حادثة ، وإن الجواهر لا تخلو عن الأغراض الحادثة فهي حادثة ، ثم الحادث يفتقر إلى محدث ، فإن تلك التقسيمات والمقدمات وإثباتها بأدلتها الرسمية يشوش قلوب العوام ، والدلالات الظاهرة القريبة من الأفهام على ما في القرآن تنفعهم وتسكن نفوسهم وتغرس في قلوبهم الاعتقادات الجازمة ، وأما
nindex.php?page=treesubj&link=28658الدليل على الوحدانية فيقنع فيه بما في القرآن من قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=22لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 : 22 ] فإن اجتماع المدبرين سبب إفساد التدبير ، وبمثل قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=42قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا [ 17 : 42 ] وقوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=91ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض [ 23 : 91 ] وأما
nindex.php?page=treesubj&link=30983صدق الرسول فيستدل عليه بقوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا [ 17 : 88 ] وبقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23فأتوا بسورة من مثله [ 2 : 23 ] وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=13قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات [ 11 : 13 ] وأمثاله . وأما
nindex.php?page=treesubj&link=30179اليوم الآخر فيستدل عليه بقوله : nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=78قال من يحيي العظام وهي رميم nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=79قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ 36 : 78 ، 79 ] وبقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=36أيحسب الإنسان أن يترك سدى nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=37ألم يك نطفة من مني يمنى إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=40أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 75 : 36 - 40 ] وبقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=5يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=5فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت [ 22 : 5 ] وقوله :
[ ص: 186 ] nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=39فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى [ 41 : 39 ] وأمثال ذلك كثير في القرآن ، فلا ينبغي أن يزاد عليه ، فإن قيل : فهذه الأدلة التي اعتمدها المتكلمون وقرروا وجه دلالتها فما بالهم يمتنعون عن تقرير هذه الأدلة ولا يمنعون عنها ، وكل ذلك مدرك بنظر العقل وتأمله ؟ فإن فتح للعامي باب النظر فليفتح مطلقا أو ليسد عليه طريق النظر رأسا وليكلف التقليد من غير دليل . ( الجواب ) أن الأدلة تنقسم إلى ما يحتاج فيه إلى تفكر وتدقيق خارج عن طاقة العامي وقدرته ، وإلى ما هو جلي سابق إلى الأفهام ببادي الرأي من أول النظر مما يدركه كافة الناس بسهولة ، فهذا لا خطر فيه ، وما يفتقر إلى التدقيق فليس على حد وسعه ; فأدلة القرآن مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان ، وأدلة المتكلمين مثل الدواء ينتفع به آحاد الناس ، ويستضر به الأكثرون ، بل أدلة القرآن كالماء الذي ينتفع به الصبي الرضيع والرجل القوي ، وسائر الأدلة كالأطعمة التي ينتفع بها الأقوياء مرة ويمرضون بها أخرى ولا ينتفع بها الصبيان أصلا ; ولهذا قلنا : أدلة القرآن أيضا ينبغي أن يصغي إليها إصغاءه إلى كلام جلي ، ولا يماري فيه إلا مراء ظاهرا ، ولا يكلف نفسه تدقيق الفكر وتحقيق النظر ، فمن الجلي أن من قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر كما قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=27وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [ 30 : 27 ] وأن التدبير لا ينتظم في دار واحدة بمدبرين فكيف ينتظم في كل العالم ؟ وأن من خلق علم ، كما قال - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=14ألا يعلم من خلق [ 67 : 14 ] فهذه الأدلة تجري للعوام مجرى الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي ، وما أخذه المتكلمون وراء ذلك من تنقير وسؤال وتوجيه إشكال ثم اشتغال بحله فهو بدعة وضرره في حق أكثر الخلق ظاهر ، فهو الذي ينبغي أن يتوقى ، والدليل على تضرر الخلق به المشاهدة والعيان والتجربة ، وما ثار من الشر منذ نبغ المتكلمون وفشت صناعة الكلام مع سلامة العصر الأول من الصحابة عن مثل ذلك . ويدل عليه أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة بأجمعهم ما سلكوا في المحاجة مسلك المتكلمين في تقسيماتهم وتدقيقاتهم لا لعجز منهم عن ذلك ، فلو علموا أن ذلك نافع لأطنبوا فيه ، ولخاضوا في تحرير الأدلة خوضا يزيد على خوضهم في مسائل الفرائض ، فإن قيل : إنما أمسكوا عنه لقلة الحاجة فإن البدع إنما نبعت بعدهم فعظم حاجة المتأخرين وعلم الكلام راجع إلى علم معالجة المرضى بالبدع ، فلما قلت في زمانهم أمراض البدع قلت عنايتهم بجميع طرق المعالجة ، فالجواب من وجهين :
( أحدهما ) أنهم في مسائل الفرائض ما اقتصروا على بيان حكم الوقائع ، بل وضعوا المسائل وفوضوا فيها ما تنقضي الدهور ولا يقع مثله ; لأن ذلك ما أمكن وقوعه فصنفوا علمه ورتبوه قبل وقوعه ، إذ علموا أنه لا ضرر في الخوض فيه ، وفي بيان حكم الواقعة قبل وقوعها ، والعناية بإزالة البدع ونزعها عن النفوس أهم ، فلم يتخذوا ذلك صناعة لأنهم
[ ص: 187 ] عرفوا أن الاستضرار بالخوض فيه أكثر من الانتفاع ، ولولا أنهم كانوا قد حذروا من ذلك وفهموا تحريم الخوض لخاضوا فيه .
( والجواب الثاني ) أنهم كانوا محتاجين إلى محاجة
اليهود والنصارى في إثبات نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - وإلى إثبات البعث مع منكريه ، ثم ما زادوا في هذه القواعد التي هي أمهات العقائد على أدلة القرآن ، فمن أقنعه ذلك قبلوه ومن لم يقنع قتلوه ، وعدلوا إلى السيف والسنان بعد إفشاء أدلة القرآن وما ركبوا ظهر اللجاج في وضع المقاييس العقلية وترتيب المقدمات وتحرير طريق المجادلة ، وتذليل طرقها ومنهاجها ، كل ذلك لعلمهم بأن ذلك مثار الفتن ومنبع التشويش ، ومن لا يقنعه أدلة القرآن لا يقمعه إلا السيف والسنان ، فما بعد بيان الله بيان ، على أننا ننصف ولا ننكر أن حاجة المعالجة تزيد بزيادة المرض ، وأن لطول الزمان وبعد العهد عن عصر النبوة تأثيرا في إثارة الإشكالات ، وأن للعلاج طريقين :
( أحدهما ) : الخوض في البيان والبرهان إلى أن يصلح واحد يفسد به اثنان ، فإن صلاحه بالإضافة إلى الأكياس وفساده بالإضافة إلى البله ، وما أقل الأكياس وما أكثر البله والعناية بالأكثرين أولى .
( والطريق الثاني ) : طريق السلف في الكف والسكوت والعدول إلى الدرة والسوط والسيف ، وذلك مما يقنع الأكثرين وإن كان لا يقنع الأقلين ، وآية إقناعه أن من يسترق من الكفار من العبيد والإماء تراهم يسلمون تحت ظلال السيوف ، ثم يستمرون عليه حتى يصير طوعا ما كان في البداية كرها ، ويصير اعتقاده جزما ما كان في الابتداء مراء وشكا ، وذلك بمشاهدة أهل الدين والمؤانسة بهم وسماع كلام الله ورؤية الصالحين وخبرهم وقرائن من هذا الجنس تناسب طباعهم مناسبة أشد من مناسبة الجدل والدليل ; فإذا كان كل واحد من العلاجين يناسب قوما دون قوم وجب ترجيح الأنفع في الأكثر ، فالمعاصرون للطبيب الأول المؤيد بروح القدس المكاشف من الحضرة الإلهية الموحى إليه من الخبير البصير بأسرار عباده وبواطنهم أعرف بالأصوب والأصلح قطعا ، فسلوك سبيلهم لا محالة أولى .
( الْوَظِيفَةُ السَّادِسَةُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28708الْكَفِّ بَعْدَ الْإِمْسَاكِ ) وَأَعْنِي بِالْكَفِّ كَفَّ الْبَاطِنِ عَنِ التَّفْكِيرِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ ، فَذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ إِمْسَاكُ اللِّسَانِ عَنِ السُّؤَالِ وَالتَّصَرُّفِ ، وَهَذَا أَثْقَلُ الْوَظَائِفِ وَأَشَدُّهَا ، وَهُوَ وَاجِبٌ كَمَا وَجَبَ عَلَى الْعَاجِزِ الزَّمِنِ أَلَّا يَخُوضَ غَمْرَةَ الْبِحَارِ وَإِنْ كَانَ يَتَقَاضَاهُ طَبْعُهُ أَنْ يَغُوصَ فِي الْبِحَارِ وَيُخْرِجَ دُرَرَهَا وَجَوَاهِرَهَا ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغُرَّهُ نَفَاسَةُ جَوَاهِرِهَا مَعَ عَجْزِهِ عَنْ نَيْلِهَا ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَجْزِهِ وَكَثْرَةِ مَعَاطِبِهَا وَمَهَالِكِهَا وَيَتَفَكَّرَ أَنَّهُ إِنْ فَاتَهُ نَفَائِسُ الْبِحَارِ فَمَا فَاتَهُ إِلَّا زِيَادَاتٌ وَتَوَسُّعَاتٌ فِي الْمَعِيشَةِ وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا ، فَإِنْ غَرِقَ أَوِ الْتَقَمَهُ تَمْسَاحٌ فَاتَهُ أَصْلُ الْحَيَاةِ ، فَإِنْ قُلْتَ : إِنْ لَمْ يَنْصَرِفْ قَلْبُهُ مِنَ التَّفْكِيرِ وَالتَّشَوُّفِ إِلَى الْبَحْثِ فَمَا طَرِيقُهُ ؟ قُلْتُ : طَرِيقُهُ أَنْ يَشْغَلَ نَفْسَهُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَبِالصَّلَاةِ وَبِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَبِعِلْمٍ آخَرَ لَا يُنَاسِبُ هَذَا الْجِنْسَ مِنْ لُغَةٍ أَوْ نَحْوٍ أَوْ خَطٍّ أَوْ طِبٍّ أَوْ فِقْهٍ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فَبِحِرْفَةٍ أَوْ صِنَاعَةٍ وَلَوِ الْحِرَاثَةَ وَالْحِيَاكَةَ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَبِلَعِبٍ وَلَهْوٍ ، وَكُلُّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْخَوْضِ فِي هَذَا الْبَحْرِ الْبَعِيدِ غَوْرُهُ وَعُمْقُهُ ، الْعَظِيمُ خَطَرُهُ وَضَرَرُهُ ، بَلْ لَوِ اشْتَغَلَ الْعَامِّيُّ بِالْمَعَاصِي الْبَدَنِيَّةِ رُبَّمَا كَانَ أَسْلَمَ لَهُ مِنْ أَنْ يَخُوضَ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَايَتُهُ الْفِسْقُ ، وَهَذَا عَاقِبَتُهُ الشِّرْكُ . وَ
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=48إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [ 4 : 48 ] فَإِنْ قُلْتَ : الْعَامِّيُّ إِذَا لَمْ تَسْكُنْ نَفْسُهُ إِلَى الِاعْتِقَادَاتِ الدِّينِيَّةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُذْكَرَ لَهُ الدَّلِيلُ ، فَإِنْ جَوَّزْتَ ذَلِكَ فَقَدْ رَخَّصْتَ لَهُ فِي التَّفْكِيرِ وَالنَّظَرِ ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ؟ الْجَوَابُ : أَنِّي أُجَوِّزُ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ
[ ص: 185 ] الدَّلِيلَ عَلَى مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَعَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ وَعَلَى الْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَلَكِنْ بِشَرْطَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَلَّا يُزَادَ مَعَهُ عَلَى الْأَدِلَّةِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ ( وَالْآخَرُ ) أَلَّا يُمَارِيَ فِيهِ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا يَتَفَكَّرَ فِيهِ إِلَّا تَفْكِيرًا سَهْلًا جَلِيًّا وَلَا يُمْعِنَ فِي التَّفَكُّرِ ، وَلَا يُوغِلَ غَايَةَ الْإِيغَالِ فِي الْبَحْثِ .
وَأَدِلَّةُ هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ ، أَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ فَمِثْلُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=31قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ [ 10 : 31 ] وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=6أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=7وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=8تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=9وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=10وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [ 50 : 6 - 10 ] وَكَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=24فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=25أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=26ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=27فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=28وَعِنَبًا وَقَضْبًا nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=29وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=30وَحَدَائِقَ غُلْبًا nindex.php?page=tafseer&surano=80&ayano=31وَفَاكِهَةً وَأَبًّا [ 80 : 24 - 31 ] وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=6أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=78&ayano=16وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [ 78 : 6 - 16 ] وَأَمْثَالِ ذَلِكَ ، وَهِيَ قَرِيبٌ مِنْ خَمْسِمِائَةِ آيَةٍ جَمَعْنَاهَا فِي كِتَابِ جَوَاهِرِ الْقُرْآنِ ، بِهَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ الْخَلْقُ جَلَالَ اللَّهِ الْخَالِقِ وَعَظَمَتَهُ لَا بِقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ : إِنَّ الْأَغْرَاضَ حَادِثَةٌ ، وَإِنَّ الْجَوَاهِرَ لَا تَخْلُو عَنِ الْأَغْرَاضِ الْحَادِثَةِ فَهِيَ حَادِثَةٌ ، ثُمَّ الْحَادِثُ يَفْتَقِرُ إِلَى مُحْدِثٍ ، فَإِنَّ تِلْكَ التَّقْسِيمَاتِ وَالْمُقَدِّمَاتِ وَإِثْبَاتَهَا بِأَدِلَّتِهَا الرَّسْمِيَّةِ يُشَوِّشُ قُلُوبَ الْعَوَامِّ ، وَالدَّلَالَاتُ الظَّاهِرَةُ الْقَرِيبَةُ مِنَ الْأَفْهَامِ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ تَنْفَعُهُمْ وَتُسَكِّنُ نُفُوسَهُمْ وَتَغْرِسُ فِي قُلُوبِهِمُ الِاعْتِقَادَاتِ الْجَازِمَةِ ، وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=28658الدَّلِيلُ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ فَيُقْنَعُ فِيهِ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=22لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [ 21 : 22 ] فَإِنَّ اجْتِمَاعَ الْمُدَبِّرِينَ سَبَبُ إِفْسَادِ التَّدْبِيرِ ، وَبِمِثْلِ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=42قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [ 17 : 42 ] وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=91مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [ 23 : 91 ] وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=30983صِدْقُ الرَّسُولِ فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=88قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [ 17 : 88 ] وَبِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=23فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [ 2 : 23 ] وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=13قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [ 11 : 13 ] وَأَمْثَالِهِ . وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=30179الْيَوْمُ الْآخِرُ فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ : nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=78قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=79قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [ 36 : 78 ، 79 ] وَبِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=36أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=37أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=40أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [ 75 : 36 - 40 ] وَبِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=5يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=5فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [ 22 : 5 ] وَقَوْلِهِ :
[ ص: 186 ] nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=39فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى [ 41 : 39 ] وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ الَّتِي اعْتَمَدَهَا الْمُتَكَلِّمُونَ وَقَرَّرُوا وَجْهَ دَلَالَتِهَا فَمَا بَالُهُمْ يَمْتَنِعُونَ عَنْ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَلَا يَمْنَعُونَ عَنْهَا ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُدْرَكٌ بِنَظَرِ الْعَقْلِ وَتَأَمُّلِهِ ؟ فَإِنْ فُتِحَ لِلْعَامِّيِّ بَابُ النَّظَرِ فَلْيُفْتَحْ مُطْلَقًا أَوْ لِيُسَدَّ عَلَيْهِ طَرِيقُ النَّظَرِ رَأْسًا وَلْيُكَلَّفِ التَّقْلِيدَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ . ( الْجَوَابُ ) أَنَّ الْأَدِلَّةَ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى تَفَكُّرٍ وَتَدْقِيقٍ خَارِجٍ عَنْ طَاقَةِ الْعَامِّيِّ وَقُدْرَتِهِ ، وَإِلَى مَا هُوَ جَلِيٌّ سَابِقٌ إِلَى الْأَفْهَامِ بِبَادِي الرَّأْيِ مِنْ أَوَّلِ النَّظَرِ مِمَّا يُدْرِكُهُ كَافَّةُ النَّاسِ بِسُهُولَةٍ ، فَهَذَا لَا خَطَرَ فِيهِ ، وَمَا يَفْتَقِرُ إِلَى التَّدْقِيقِ فَلَيْسَ عَلَى حَدِّ وُسْعِهِ ; فَأَدِلَّةُ الْقُرْآنِ مِثْلُ الْغِذَاءِ يَنْتَفِعُ بِهِ كُلُّ إِنْسَانٍ ، وَأَدِلَّةُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِثْلُ الدَّوَاءِ يَنْتَفِعْ بِهِ آحَادُ النَّاسِ ، وَيَسْتَضِرُّ بِهِ الْأَكْثَرُونَ ، بَلْ أَدِلَّةُ الْقُرْآنِ كَالْمَاءِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ الصَّبِيُّ الرَّضِيعُ وَالرَّجُلُ الْقَوِيُّ ، وَسَائِرُ الْأَدِلَّةِ كَالْأَطْعِمَةِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا الْأَقْوِيَاءُ مَرَّةً وَيَمْرَضُونَ بِهَا أُخْرَى وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا الصِّبْيَانُ أَصْلًا ; وَلِهَذَا قُلْنَا : أَدِلَّةُ الْقُرْآنِ أَيْضًا يَنْبَغِي أَنْ يُصْغِيَ إِلَيْهَا إِصْغَاءَهُ إِلَى كَلَامٍ جَلِيٍّ ، وَلَا يُمَارِي فِيهِ إِلَا مِرَاءً ظَاهِرًا ، وَلَا يُكَلِّفُ نَفْسَهُ تَدْقِيقَ الْفِكْرِ وَتَحْقِيقَ النَّظَرِ ، فَمِنَ الْجَلِيِّ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الِابْتِدَاءِ فَهُوَ عَلَى الْإِعَادَةِ أَقْدَرُ كَمَا قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=27وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [ 30 : 27 ] وَأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَنْتَظِمُ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ بِمُدَبِّرَيْنِ فَكَيْفَ يَنْتَظِمُ فِي كُلِّ الْعَالَمِ ؟ وَأَنَّ مَنْ خَلَقَ عَلِمَ ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=14أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [ 67 : 14 ] فَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ تَجْرِي لِلْعَوَامِّ مَجْرَى الْمَاءِ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ، وَمَا أَخَذَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ تَنْقِيرٍ وَسُؤَالٍ وَتَوْجِيهِ إِشْكَالٍ ثُمَّ اشْتِغَالٍ بِحَلِّهِ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَرَرُهُ فِي حَقِّ أَكْثَرِ الْخَلْقِ ظَاهِرٌ ، فَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُتَوَقَّى ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَضَرُّرِ الْخَلْقِ بِهِ الْمُشَاهَدَةُ وَالْعَيَانُ وَالتَّجْرِبَةُ ، وَمَا ثَارَ مِنَ الشَّرِّ مُنْذُ نَبَغَ الْمُتَكَلِّمُونَ وَفَشَتْ صِنَاعَةُ الْكَلَامِ مَعَ سَلَامَةِ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةَ بِأَجْمَعِهِمْ مَا سَلَكُوا فِي الْمُحَاجَّةِ مَسْلَكَ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي تَقْسِيمَاتِهِمْ وَتَدْقِيقَاتِهِمْ لَا لِعَجْزٍ مِنْهُمْ عَنْ ذَلِكَ ، فَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ نَافِعٌ لَأَطْنَبُوا فِيهِ ، وَلَخَاضُوا فِي تَحْرِيرِ الْأَدِلَّةِ خَوْضًا يَزِيدُ عَلَى خَوْضِهِمْ فِي مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِنَّمَا أَمْسَكُوا عَنْهُ لِقِلَّةِ الْحَاجَةِ فَإِنَّ الْبِدَعَ إِنَّمَا نَبَعَتْ بَعْدَهُمْ فَعَظُمَ حَاجَةُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَعِلْمُ الْكَلَامِ رَاجِعٌ إِلَى عِلْمِ مُعَالَجَةِ الْمَرْضَى بِالْبِدَعِ ، فَلَمَّا قَلَّتْ فِي زَمَانِهِمْ أَمْرَاضُ الْبِدَعِ قَلَّتْ عِنَايَتُهُمْ بِجَمِيعِ طُرُقِ الْمُعَالَجَةِ ، فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ :
( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهُمْ فِي مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ مَا اقْتَصَرُوا عَلَى بَيَانِ حُكْمِ الْوَقَائِعِ ، بَلْ وَضَعُوا الْمَسَائِلَ وَفَوَّضُوا فِيهَا مَا تَنْقَضِي الدُّهُورُ وَلَا يَقَعُ مِثْلُهُ ; لِأَنَّ ذَلِكَ مَا أَمْكَنَ وُقُوعُهُ فَصَنَّفُوا عِلْمَهُ وَرَتَّبُوهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ ، إِذْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي الْخَوْضِ فِيهِ ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ الْوَاقِعَةِ قَبْلَ وُقُوعِهَا ، وَالْعِنَايَةُ بِإِزَالَةِ الْبِدَعِ وَنَزْعِهَا عَنِ النُّفُوسِ أَهَمُّ ، فَلَمْ يَتَّخِذُوا ذَلِكَ صِنَاعَةً لِأَنَّهُمْ
[ ص: 187 ] عَرَفُوا أَنَّ الِاسْتِضْرَارَ بِالْخَوْضِ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ الِانْتِفَاعِ ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ حَذَّرُوا مِنْ ذَلِكَ وَفَهِمُوا تَحْرِيمَ الْخَوْضِ لَخَاضُوا فِيهِ .
( وَالْجَوَابُ الثَّانِي ) أَنَّهُمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى مُحَاجَّةِ
الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي إِثْبَاتِ نُبُوَّةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ مَعَ مُنْكِرِيهِ ، ثُمَّ مَا زَادُوا فِي هَذِهِ الْقَوَاعِدِ الَّتِي هِيَ أُمَّهَاتُ الْعَقَائِدِ عَلَى أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ ، فَمَنْ أَقْنَعَهُ ذَلِكَ قَبِلُوهُ وَمَنْ لَمْ يُقْنَعْ قَتَلُوهُ ، وَعَدَلُوا إِلَى السَّيْفِ وَالسِّنَانِ بَعْدَ إِفْشَاءِ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَمَا رَكِبُوا ظَهْرَ اللَّجَاجِ فِي وَضْعِ الْمَقَايِيسِ الْعَقْلِيَّةِ وَتَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ وَتَحْرِيرِ طَرِيقِ الْمُجَادَلَةِ ، وَتَذْلِيلِ طُرُقِهَا وَمِنْهَاجِهَا ، كُلُّ ذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ مَثَارُ الْفِتَنِ وَمَنْبَعُ التَّشْوِيشِ ، وَمَنْ لَا يُقْنِعْهُ أَدِلَّةُ الْقُرْآنِ لَا يَقْمَعُهُ إِلَّا السَّيْفُ وَالسِّنَانُ ، فَمَا بَعْدَ بَيَانِ اللَّهِ بَيَانٌ ، عَلَى أَنَّنَا نُنْصِفُ وَلَا نُنْكِرُ أَنَّ حَاجَةَ الْمُعَالَجَةِ تَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْمَرَضِ ، وَأَنَّ لِطُولِ الزَّمَانِ وَبَعْدَ الْعَهْدِ عَنْ عَصْرِ النُّبُوَّةِ تَأْثِيرًا فِي إِثَارَةِ الْإِشْكَالَاتِ ، وَأَنَّ لِلْعِلَاجِ طَرِيقَيْنِ :
( أَحَدُهُمَا ) : الْخَوْضُ فِي الْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ إِلَى أَنْ يَصْلُحَ وَاحِدٌ يَفْسُدُ بِهِ اثْنَانِ ، فَإِنَّ صَلَاحَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَكْيَاسِ وَفَسَادَهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْبُلْهِ ، وَمَا أَقَلَّ الْأَكْيَاسَ وَمَا أَكْثَرَ الْبُلْهَ وَالْعِنَايَةُ بِالْأَكْثَرِينَ أَوْلَى .
( وَالطَّرِيقُ الثَّانِي ) : طَرِيقُ السَّلَفِ فِي الْكَفِّ وَالسُّكُوتِ وَالْعُدُولِ إِلَى الدِّرَّةِ وَالسَّوْطِ وَالسَّيْفِ ، وَذَلِكَ مِمَّا يُقْنِعُ الْأَكْثَرِينَ وَإِنْ كَانَ لَا يُقْنِعُ الْأَقَلِّينَ ، وَآيَةُ إِقْنَاعِهِ أَنَّ مَنْ يُسْتَرَقُّ مِنَ الْكُفَّارِ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ تَرَاهُمْ يُسْلِمُونَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ ، ثُمَّ يَسْتَمِرُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يَصِيرَ طَوْعًا مَا كَانَ فِي الْبِدَايَةِ كُرْهًا ، وَيَصِيرَ اعْتِقَادُهُ جَزْمًا مَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ مِرَاءً وَشَكًّا ، وَذَلِكَ بِمُشَاهَدَةِ أَهْلِ الدِّينِ وَالْمُؤَانَسَةِ بِهِمْ وَسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ وَرُؤْيَةِ الصَّالِحِينَ وَخَبَرِهِمْ وَقَرَائِنَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ تُنَاسِبُ طِبَاعَهُمْ مُنَاسَبَةً أَشَدَّ مِنْ مُنَاسَبَةِ الْجَدَلِ وَالدَّلِيلِ ; فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعِلَاجَيْنِ يُنَاسِبُ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ وَجَبَ تَرْجِيحُ الْأَنْفَعِ فِي الْأَكْثَرِ ، فَالْمُعَاصِرُونَ لِلطَّبِيبِ الْأَوَّلِ الْمُؤَيَّدِ بِرُوحِ الْقُدُسِ الْمُكَاشَفِ مِنَ الْحَضْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُوحَى إِلَيْهِ مِنَ الْخَبِيرِ الْبَصِيرِ بِأَسْرَارِ عِبَادِهِ وَبَوَاطِنِهِمْ أَعْرَفُ بِالْأَصْوَبِ وَالْأَصْلَحِ قَطْعًا ، فَسُلُوكُ سَبِيلِهِمْ لَا مَحَالَةَ أَوْلَى .