( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين )
[ ص: 171 ] لما خرج المؤمنون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - للنسك عام الحديبية صدهم المشركون وقاتلوهم رميا بالسهام والحجارة ، وكان ذلك في ذي القعدة من الأشهر الحرم سنة ست ، ولو قابلهم المسلمون عامئذ بالمثل ولم يرض النبي بالصلح لاحتدم القتال ، ولما خرجوا في العام الآخر لعمرة القضاء ، وكرهوا قتال المشركين وإن اعتدوا ونكثوا العهد في الشهر الحرام - بين لهم أن المحظور في الأشهر الحرم إنما هو الاعتداء بالقتال دون المدافعة ، وأن ما عليه المشركون من الإصرار على الفتنة وإيذاء المؤمنين - لأنهم مؤمنون - هو أشد قبحا من القتل لإزالة الضرر العام وهو منعهم الحق وتأييدهم الشرك . ثم بين قاعدة عظيمة وهي أن الحرمات - أي : ما يجب احترامه والمحافظة عليه - يجب أن يجري فيه القصاص والمساواة فقال :
( الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص ) ذكر هذه القاعدة حجة لوجوب مقاصة المشركين على انتهاك الشهر الحرام بمقابلتهم بالمثل ، ليكون شهر بشهر جزاء وفاقا .
وفي جملة ( والحرمات قصاص ) من الإيجاز ما ترى حسنه وإبداعه . ثم صرح بالأمر بالاعتداء على المعتدي مع مراعاة المماثلة - وإن كان يفهم مما قبله - لمكان كراهتهم للقتال في الحرم والشهر الحرام فقال تفريعا على القاعدة وتأييدا للحكم : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) وإنما يتحقق هذا فيما تتأتى فيه المماثلة ، وسمى الجزاء اعتداء للمشاكلة ، وقد استدل الإمام بالآية على وجوب الشافعي بأن يذبح إذا ذبح ، ويخنق إذا خنق ، ويغرق إذا أغرق ، وهكذا . وقال مثل ذلك في الغصب والإتلاف . والقصد أن يكون الجزاء على قدر الاعتداء بلا حيف ولا ظلم ، وأزيد على هذا ما هو أولى بالمقام وهو المماثلة في قتال الأعداء كقتل المجرمين بلا ضعف ولا تقصير ، فالمقاتل بالمدافع والقذائف النارية أو الغازية السامة يجب أن يقاتل بها ، وإلا فاتت قتل القاتل بمثل ما قتل به وهي منع الظلم والعدوان ، والفتنة والاضطهاد ، وتقرير الحرية والأمان ، والعدل والإحسان . وهذه الشروط والآداب لا توجد إلا في الإسلام ; ولذلك قال تعالى بعد شرح القصاص والمماثلة : ( الحكمة لشرعية القتال واتقوا الله ) فلا تعتدوا على أحد ولا تبغوا ولا تظلموا في القصاص بأن تزيدوا في الإيذاء . وأكد الأمر بالتقوى بما بين من مزيتها وفائدتها فقال : ( واعلموا أن الله مع المتقين ) بالمعونة والتأييد ، فإن المتقي هو صاحب الحق وبقاؤه هو الأصلح ، والعاقبة له في كل ما ينازعه به الباطل ; لأن من أصول التقوى اتقاء جميع أسباب الفشل والخذلان .
ولما كان الجهاد بالنفس - وهو القتال - يتوقف على ، أمرهم به فقال : ( الجهاد بالمال وأنفقوا في سبيل الله ) وهو عطف على ( قاتلوا ) رابط لأحكام القتال والحج بحكم الأموال السابق ، فهناك ذكر ما يحرم من أكل المال مجملا ، وهاهنا ذكر ما يجب من إنفاقه منه [ ص: 172 ] كذلك . وسبيل الله هو طريق الخير والبر والدفاع عن الحق . ثم ذكر علة هذا الأمر وحكمته على ما هي سنته في ضمن حكم آخر . فقال : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) بالإمساك عن الإنفاق في الاستعداد للقتال ; فإن ذلك يضعفكم ويمكن الأعداء من نواصيكم فتهلكون .
ويدخل في النهي التطوع في الحرب بغير علم بالطرق الحربية التي يعرفها العدو ، كما يدخل فيه كل مخاطرة غير مشروعة ، بأن تكون لاتباع الهوى لا لنصر الحق وتأييد حزبه .
وقال بعضهم : يدخل فيه الإسراف الذي يوقع صاحبه في الفقر المدقع ، فهو من قبيل ( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ) ( 7 : 31 ) .
وفسر ( الجلال ) ( سبيل الله ) بطاعته : الجهاد وغيره . و ( التهلكة ) بالإمساك عن النفقة وترك الجهاد . قال : لأنه يقوي العدو عليكم . قال الأستاذ الإمام : أصاب مفسرنا وأجاد في تفسير هذه الآية ، وقال بعضهم في تفسير النهي عن التهلكة ; أي : لا تقاتلوا إلا حيث يغلب على ظنكم النصر وعدم الهزيمة . وهذا لا معنى له إذ لا يلتئم مع ما سبقه ، وقال بعضهم : إنه نهى عن الإسراف ، ولا يلتئم مع الأسلوب قبله وبعده ، وإنما الذي يلتئم ويناسب هو ما قاله ( الجلال ) وآخرون ، فالمعنى : إذا لم تبذلوا في سبيل الله وتأييد دينه كل ما تستطيعون من مال واستعداد فقد أهلكتم أنفسكم . وفي أسباب النزول عن قال : نزلت هذه الآية فينا معشر أبي أيوب الأنصاري الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا : إن أموالنا قد ضاعت ، وإن الله قد أعز الإسلام فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها ؟ فأنزل الله يرد علينا ما قلنا ( وأنفقوا ) الآية ، فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو . رواه أبو داود - وصححه - والترمذي وابن حبان والحاكم وغيرهم .
وروي أنه قاله لما خاطر رجل من المسلمين في القسطنطينية فدخل في صف الروم فقال الناس : ألقى بيديه إلى التهلكة . فقال أبو أيوب : أيها الناس إنكم تؤولون هذه الآية ، وذكره .
أقول : وبيانه أن المشركين كانوا بالمرصاد للمؤمنين وهم كثيرون فلو انصرفوا عن الاستعداد للجهاد إلى تثمير الأموال لاغتالوهم ، وإصلاح الأموال واستثمارها في هذا الزمان هو أساس القوة ، فقوى الدول على قدر ثروتها ، فالأمة التي تقصر في توفير الثروة هي التي تلقي بأيديها إلى التهلكة ، والتي تقصر في الإنفاق في سبيل الله للاستعداد لقتال من يعتدي عليها تكون أدنى إلى التهلكة ، ولا ثروة مع الظلم ، ولا عدل مع الحكم المطلق الاستبدادي .
ثم قال تعالى : ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) الأمر بالإحسان على عمومه ; أي : أحسنوا كل أعمالكم وأتقنوها فلا تهملوا إتقان شيء منها ، ويدخل فيه التطوع بالإنفاق .
وقد زعم بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة بآية سورة براءة ( التوبة ) التي يسمونها آية السيف . وهاك ما قاله الأستاذ الإمام : محصل تفسير الآيات ينطبق على ما ورد من سبب [ ص: 173 ] نزولها ، وهو إباحة القتال للمسلمين في الإحرام بالبلد الحرام والشهر الحرام إذا بدأهم المشركون بذلك ، وألا يبقوا عليهم إذا نكثوا عهدهم واعتدوا في هذه المرة ، وحكمها باق مستمر لا ناسخ ولا منسوخ ; فالكلام فيها متصل بعضه ببعض في واقعة واحدة فلا حاجة إلى تمزيقه ، ولا إلى إدخال آية براءة فيه ، وقد نقل عن أنه لا نسخ فيها ، ومن حمل الأمر بالقتال فيها على عمومه - ولو مع انتفاء الشرط - فقد أخرجها عن أسلوبها وحملها ما لا تحمل . ابن عباس
وآيات سورة آل عمران نزلت في غزوة أحد وكان المشركون هم المعتدين . وآيات الأنفال نزلت في غزوة بدر الكبرى وكان المشركون هم المعتدين أيضا . وكذلك آيات سورة براءة نزلت في ناكثي العهد من المشركين ولذلك قال : ( فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ) ( 9 : 7 ) وقال بعد ذكر نكثهم : ( ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة ) ( 9 : 13 ) الآيات .
كان المشركون يبدءون المسلمين بالقتال لأجل إرجاعهم عن دينهم ، ولو لم يبدءوا في كل واقعة لكان اعتداؤهم بإخراج الرسول من بلده وفتنة المؤمنين وإيذاؤهم ومنع الدعوة - كل ذلك كافيا في اعتبارهم معتدين ، فقتال النبي - صلى الله عليه وسلم - كله كان مدافعة عن الحق وأهله وحماية لدعوة الحق ; ولذلك كان تقديم الدعوة شرطا لجواز القتال ; وإنما تكون الدعوة بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان ، فإذا منعنا من الدعوة بالقوة بأن هدد الداعي أو قتل فعلينا أن نقاتل لحماية الدعاة ونشر الدعوة لا للإكراه على الدين ; فالله تعالى يقول : ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) ( 2 : 256 ) ويقول : ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) ( 10 : 99 ) وإذا لم يوجد من يمنع الدعوة ويؤذي الدعاة أو يقتلهم أو يهدد الأمن ويعتدي على المؤمنين ، فالله تعالى لا يفرض علينا القتال ; لأجل سفك الدماء وإزهاق الأرواح ، ولا لأجل الطمع في الكسب .
ولقد كانت لأجل حماية الدعوة ومنع المسلمين من تغلب الظالمين لا لأجل العدوان ، حروب الصحابة في الصدر الأول فالروم كانوا يعتدون على حدود البلاد العربية التي دخلت حوزة الإسلام ويؤذونهم ، وأولياؤهم من العرب المتنصرة يؤذون من يظن به من المسلمين .
وكان الفرس أشد إيذاء للمؤمنين فقد مزقوا كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورفضوا دعوته وهددوا رسوله وكذلك كانوا يفعلون ، وما كان بعد ذلك من الفتوحات الإسلامية اقتضته طبيعة الملك ولم يكن كله موافقا لأحكام الدين ، فإن من طبيعة الكون أن يبسط القوي [ ص: 174 ] يده على جاره الضعيف ، ولم تعرف أمة قوية أرحم في فتوحاتها بالضعفاء من الأمة العربية ، شهد لها علماء الإفرنج بذلك .
وجملة القول في القتال أنه شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها ، فعلى من يدعي من الملوك والأمراء أنه يحارب للدين أن يحيي الدعوة الإسلامية ، ويعد لها عدتها من العلم والحجة بحسب حال العصر وعلومه ، ويقرن ذلك بالاستعداد التام لحمايتها من العدوان ، ومن عرف حال الدعاة إلى الدين عند الأمم الحية وطرق الاستعداد لحمايتهم يعرف ما يجب في ذلك وما ينبغي له في هذا العصر .
وبما قررناه بطل ما يهذي به أعداء الإسلام - حتى من المنتمين إليه - من زعمهم أن الإسلام قام بالسيف ، وقول الجاهلين المتعصبين : إنه ليس دينا إلهيا ; لأن الإله الرحيم لا يأمر بسفك الدماء ، وأن العقائد الإسلامية خطر على المدنية ; فكل ذلك باطل ، والإسلام هو الرحمة العامة للعالمين .