والحق الذي لا معدل عنه أن الدعاء هنا هو النداء لدفع الضر أو جلب النفع ، الموجه إلى من يعتقد الداعي أن له سلطانا يمكنه به أن يجيبه إلى ما طلبه بذاته ، أو بحمله للرب الخالق على ذلك ، بحيث يجيب دعاء الداعي لأجله .
يقول تعالى : إن الذين تدعونهم من دون الله هم عباد الله أمثالكم في كونهم مخلوقين لله تعالى خاضعين لسننه في خلقه ، وإذا كانوا أمثالكم امتنع عقلا أن تطلبوا منهم ما لا تستطيعون نيله بأنفسكم ، ولا بمساعدة أمثالكم لكم فيما يتوقف على التعاون في اتخاذ الأسباب له ، وإنما يدعى لما وراء الأسباب المشتركة بين الخلق ، الرب الخالق المسخر للأسباب ، الذي تخضع لإرادته الأسباب وهو لا يخضع لها ، ولا لإرادة أحد يحمله على ما لا يشاؤه منها .
وهذه المماثلة إنما تظهر فيمن يدعى من دون الله تعالى من الملائكة أو الأنبياء أو الصلحاء ، دون ما اتخذ لهم تذكيرا بهم من التماثيل أو القبور أو الأصنام ، وقد صار بعض هذه المذكرات يقصد لذاته ، جهلا بما كانت اتخذت لأجله ، وفي هذه الحالة تدخل في المماثلة بطريقة تنزيلها منزلة ما وضعت لأجله ، كأنه يقول : إن قصارى أمرها أن تكون من الأحياء العقلاء أمثالكم ، فكيف ترفعونها عن هذه المثلية ، إلى مقام الربوبية ؟ ! .
فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين أي: إن كنتم صادقين في زعمكم أنهم يقدرون على ما لا تقدرون عليه بقواكم البشرية من نفع أو ضر بذواتهم ، فادعوهم فليستجيبوا لكم بأنفسهم ، أو ليحملوا الرب تبارك وتعالى على إعطائكم ما تطلبون منهم إن كنتم صادقين في قولكم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ( 10 : 18 ) وقولكم : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ( 39 : 3 ) ثم بين لهم أنهم أحط رتبة منهم لا أمثالا لهم ، فقال : ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون هذا تقريع موجه إلى الوجدان ، في إثر احتجاج وجه قبله إلى الجنان ، والاستفهام فيه للإنكار ، وهو خاص بالأصنام والأوثان ، ومعناه أنهم لفقدهم لجوارح الكسب ، التي يناط بها في عالم الأسباب النفع والضر ، قد هبطوا عن درجة مماثلتكم من كل وجه ، فليس لهم أرجل يسعون بها إلى دفع ضر أو جلب نفع ، وليس لهم أيد يبطشون بها فيما ترجون منهم من خير أو تخافون من شر ، وليس لهم أعين يبصرون بها حالكم ، وليس لهم آذان يسمعون بها أقوالكم ، ويعرفون بها مطالبكم ، فأنتم تفضلونهم في الصفات والقوى التي أودعها الله في الخلق ، فلماذا ترفعونهم عن مماثلتكم ، وهم بدليل المشاهدة والاختبار دونكم ، وها أنتم أولاء تستكبرون عن قبول [ ص: 442 ] الهدى والرشاد من الرسول ، وتعللون ذلك بأنه بشر مثلكم ، فيقول بعضكم لبعض : ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ( 33 ، 34 ) أفتأبون قبول الحق والخير من مثلكم ، وقد فضله الله بالعلم والهدى عليكم ، وهو لا يستذلكم بادعاء أنه ربكم أو إلهكم ، ثم ترفعون ما دونه ودونكم إلى مقام الألوهية ، مع انحطاطه وتسفله عن هذه المثلية ؟ ! .
قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون أي قل أيها الرسول لهؤلاء المرزوئين بعقولهم ، المحتقرين لنعم الله تعالى عليهم ، نادوا شركاءكم الذين اتخذتموهم أولياء ، وزعمتم أنهم فيكم شفعاء ، ثم تعاونوا على كيدي جميعا ، وأجمعوا مكركم الخفي لإيقاع الضر بي سريعا ، فلا تنظرون ، أي لا تؤخروني ساعة من نهار ، بعد إحكام المكر الكبار . وحكمة مطالبتهم بهذا أن العقائد والتقاليد الموروثة تتغلغل في أعمال الوجدان ، حتى يتضاءل دونها كل برهان ، ويظل صاحبها مع ظهور الدليل على بطلانها يتوهم أنها تضر وتنفع ، وتقرب من الله وتشفع ، فطالبهم بأمر عملي يستل هذا الوهم من أعمال قلوبهم ، ويمتلخ الشعور به من خبايا صدورهم ، وهو أن ينادوا هؤلاء الشركاء نداء استغاثة واستنجاد لإبطال دعوى الداعي إلى الكفر بها ، وإثباته العجز لها ، وبذل الجهد فيما ينسبون إليها من التأثير الباطن ، والتدبير الكامن ، الذي هو عندهم أمر غيبي ، يدخل في معنى الكيد الخفي . فإن كان لها شيء ما من السلطان الغيبي في أنفسها أو عند الله تعالى فهذا وقت ظهوره ، فإن لم يظهر لإبطال عبادتها وتعظيمها ، ونصر عابديها ومعظمي شأنها ، فمتى يظهر وينتفعون به ؟ وهم منكرون للبعث ، وكل ما يرجونه أو يخافونه منها فهو خاص بما يكون في هذه الأرض ؟ .
إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين هذا تعليل لجزمه - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر من عجز هذه المعبودات ، وتحقير أمرها وأمر عابديها ، على ما كان من ضعفه بمكة عند نزول هذه السورة . يقول : إن ناصري ومتولي أمري هو الله الذي نزل علي هذا الكتاب الناطق بوحدانيته في ربوبيته ، وبما يجب من عبادته ودعائه في المهمات والملمات وحده ، وبأن عبادة غيره باطلة ، وأن دعاء هذه الأوثان هزؤ باطل ، وسخف لا يرضاه لنفسه إلا جاهل سافل ، وهو يتولى نصر الصالحين من عباده ، وهم الذين صلحت أنفسهم بالعقائد الصحيحة السالمة من الخرافات والأوهام ، والأعمال التي تصلح بها الأفراد وشئون الجماعات ، فينصرهم على الخرافيين الفاسدي العقائد ، والمفسدين في الأعمال فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ( 13 : 17 ) .
والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون أي: وأما الذين تدعونهم لنصركم ولغير النصر من منافعكم ودفع الضر عنكم ، فهم عاجزون لا يستطيعون [ ص: 443 ] أن ينصرونكم ، ولا أن ينصروا أنفسهم على من يحقر أمرهم ، أو يسلبهم شيئا مما وضع من الطيب أو الحلي عليهم ، وقد كسر إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - الأصنام فجعلهم جذاذا فما استطاعوا أن يدفعوه عن أنفسهم ، ولا أن ينتفعوا منه لها . وروي عن معاذ بن عمرو بن الجموح - رضي الله عنه - وكانا شابين من ومعاذ بن جبل الأنصار قد أسلما لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة " أنهما كانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتخذانها حطبا للأرامل ليعتبر قومهما بذلك ، وكان - وكان سيد قومه - صنم يعبده فكانا يجيئان في الليل فينكسانه على رأسه ، ويلطخانه بالعذرة ، فيجيء فيرى ما صنع به فيغسله ويطيبه ويضع عنده سيفا ويقول له : انتصر . حتى أخذاه مرة فقرناه مع كلب ميت ، ودلياه بحبل في بئر . فلما رآه كذلك علم بطلان عبادته وأسلم ، فيه يقول : لعمرو بن الجموح
تالله لو كنت إلها مستدن لم تك والكلب جميعا في قرن
وبعد أن نفى قدرتهم على النصر ، قفى عليه بنفي قدرتهم على الإرشاد إليه فقال : .وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا أي: وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم إلى ما تنتصرون به من أسباب خفية أو جلية لا يسمعوا دعاءكم مطلقا ، فكيف يستجيبون لكم ؟ على أنهم لو سمعوا لما استجابوا لعجزهم عن الفعل ، كفقدهم للسمع ، وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون أي: وهم فاقدون لحاسة البصر كفقدهم لحاسة السمع ، وتراهم أيها المخاطب ينظرون إليك بما وضع لهم من الأعين الصناعية ، والحدق الزجاجية أو الجوهرية ، وجعلها موجهة إلى الداخل عليها كأنها تنظر إليه ، وهم لا يبصرون بها; لأن الإبصار لا يحصل بالصناعة ، بل هو من خواص الحياة التي استأثر الله سبحانه بها ، وإذا كانوا لا يسمعون دعاء ولا نداء من عابدهم ولا من غيره ، ولا يبصرون حاله وحال خصمه ، فأنى يرجى منهم نصره وشد أزره ؟ .
وفي الآية وجه آخر ذهب إليه بعضهم ، وهو أن الخطاب فيها للمؤمنين والرسول في مقدمتهم ، بناء على أن الكلام في الأصنام قد تم فيما قبلها وعاد الكلام في عابديها ، أي: وإن تدعوا أيها المؤمنون هؤلاء الأغبياء من المشركين ، الذين لم يعقلوا هذه الحجج والبراهين ، إلى هدى الله وهو التوحيد والإسلام ولا يسمعوا دعوتكم سماع فهم واعتبار ، وتراهم أيها الرسول ينظرون إليك وهم لا يبصرون ما أوتيت من سمت الجلال والوقار ، الذي يميز به صاحب البصيرة بين أولي الجد والعزم ، والصدق في القول والفعل ، وبين أهل العبث والهزل . ولقد كان بعض ذوي الفطرة السليمة ينظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيعرف من شمائله وسيماه في وجهه أنه حر صادق ، غير مخادع ولا مماذق ، فيقول : والله ما هذا الوجه وجه كاذب ، وما زال من المعهود بين الناس أن أصحاب البصيرة والفضيلة من الناس يعرف بعضهم [ ص: 444 ] بعضا بذلك من أول العهد بالتلاقي ، بما يتوسمون من ملامح الوجه ومعارفه ، ثم من موضوع الحديث وتأثيره في نفس المتكلم والسامع ، ثم يكمل ذلك بالمعاشرة . كما يعرفون حال الأشرار والمنافقين بذلك ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول ( 47 : 30 ) بهذه البصيرة النيرة عرفت السيدة فضلى عقائل خديجة قريش فضائل محمد بن عبد الله قبل بعثته ، فاستمالته وخطبته لنفسها على غناها وفقره ، بعد أن رفضت أناسا من كبراء قريش خطبوها بعد موت زوجها الأول ، ثم كانت أول من جزم برسالته عندما حدثها بأول ما رآه من بدء الوحي وخاف على نفسه منه ، وقد كان - رضي الله عنه - أبو بكر الصديق بحسن فراسته فيه ، فلم يتوقف ولم يتمكث ولم يتريث أن أجاب الدعوة منشرح الصدر قرير العين ; لأنه كان أجدر الناس بمعرفة حقيقتها وحقيقة من دعا إليها . وأمثلة هذا كثيرة في كل زمان . وكان أظهرها في قرننا هذا تعلق الشيخ أول رجل دعاه الرسول صلوات الله وسلامه عليه إلى الإسلام محمد عبده بالسيد جمال الدين الأفغاني من أول ليلة رآه فيها . ولزامه إلى أن فارق هذه الديار ، فلم يعرفه حق المعرفة غيره على كثرة المكبرين له والمعجبين به ، وقد كان الكثيرون من أهل الأزهر يفرون منه ويصدون عنه ، فأين هم وأين آثارهم في العلم أو الدين ؟ فبأمثال هذه العبر الواقعة تفهم معنى قوله تعالى : وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون على الوجه الأخير في تفسيرها ، لا بمجرد تسمية هذا التعبير استعارة شبه فيها كذا بكذا . ثم اقرأ في معناه قوله تعالى : ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون ( 10 : 42 ، 43 ) .