إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون هذا بيان مستأنف لتعليل ما تقدم من نفي امتيازه - صلى الله عليه وسلم - على البشر بملك النفع والضر من غير طرق الأسباب وسنن الله في الخلق - ونفي امتيازه عليهم بعلم الغيب ، عللها ببيان حصر امتيازه عليهم بالتبليغ عن الله عز وجل . والتبليغ قسمان : قسم مقترن بالتخويف من العقاب على الكفر والمعاصي وهو الإنذار ، وقسم مقترن بالترغيب في الثواب على الإيمان والطاعة ، وهو البشارة أو التبشير ، وكل منهما يوجه إلى جميع أمة الدعوة على الإطلاق والآيات فيه كثيرة ، ويوجه أيضا إلى من يؤمن ، وإلى من يصر على كفره وإجرامه مطلقا ، وإذا ذكر الفريقان جميعا في سياق واحد يخص الكافرون بالإنذار والمؤمنون الصالحون بالتبشير ، وقد ذكر في أول سورة الكهف الإنذار المطلق بالقرآن ، ثم تبشير المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، وإنذار متخذي الولد لله تعالى من الكافرين . ومن المقابلة بين الفريقين قوله تعالى في آخر سورة مريم : لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا ( 19 : 97 ) وفي معناهما آيات أخرى في المقابلة كما ترى في أوائل سورتي البقرة والإسراء ، ولكن بدون ذكر لفظ الإنذار . والتبشير لا يوجه إلى الكافرين والمجرمين بلقبهم إلا بأسلوب التهكم ، كقوله تعالى : فبشرهم بعذاب أليم ( 3 : 21 ) على القول المشهور الذي عليه الجمهور ، وأما الإنذار فقد يوجه إلى المؤمنين المتقين على معنى أنهم هم الذين ينتفعون به ، كقوله في سورة فاطر : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ( 35 : 18 ) وقوله في سورة يس : إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم ( 36 : 11 ) .
بناء على هذا قال بعض المفسرين إن قوله تعالى : لقوم يؤمنون متعلق بالوصفين ، على معنى أن المؤمنين هم الذين ينتفعون بإنذاره فيزيدهم خشية لله واتقاء لما يسخطه ، وبتبشيره فيزدادون شكرا له بعبادته وإقامة سننه ، وقال بعضهم : إنه متعلق بالثاني المتصل به ، ويدل على حذف مقابله فيما قبله . والتقدير : ما أنا إلا نذير للكافرين وبشير للمؤمنين ، ووجهه أن المقام مقام التبليغ ، وهنالك وجه ثالث وهو أن البشارة للمؤمنين خاصة لاتصالها بهم ، والإنذار عام لهم ولغيرهم ، وقد عرف وجهه مما فصلناه .
[ ص: 430 ] وقد ورد في مثل هذا من حصر وظيفة الرسول بالإنذار والتبشير بلفظيهما معا ، أو بأحدهما ، وبلفظ التبليغ الجامع لهما آيات كثيرة بعضها بالإثبات بعد النفي كما هنا وبعضها بإنما ، والحصر بكل منهما أقوى النصوص القطعية الدلالة ، ومع هذا التكرار والتوكيد كله يأبى غلاة الإطراء للرسل ولمن دون الرسل من الصالحين حقيقة أو توهما إلا أن يشركوهم مع الله سبحانه وتعالى في صفات ربوبيته وأفعاله .
قال تعالى في سورة سبأ : وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 34 : 28 ) وقال في سورتي الإسراء والفرقان : وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا وقال في سورتي الأنعام والكهف : وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين وقال في سورة النحل : فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ( 16 : 35 ) وفي سورة يس حكاية عن الرسل : وما علينا إلا البلاغ المبين ( 36 : 17 ) وفي سورتي النور والعنكبوت : وما على الرسول إلا البلاغ المبين .
فإن قيل : إن الحصر في هذه الآيات وأمثالها إضافي ; فإن كما قال تعالى : من وظائف الرسل بيان الوحي والحكم بين الناس إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ( 4 : 105 ) وقال عز وجل : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ( 16 : 44 ) والبيان يكون بالأفعال كالأقوال ، بل الأفعال أقوى دلالة وأعصى على تأويل المحرفين . وكما قد أمر تعالى بتحكيم رسوله - صلى الله عليه وسلم - والخضوع لحكمه ، أمر بالتأسي به في هديه وسنته لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ( 33 : 21 ) .
قلنا : إن هذا لا ينافي الحصر الحقيقي ; لأن التبليغ لدين الله وشرعه لا يتم إلا بالعمل والحكم به وتنفيذ أحكامه ، فهو داخل في التبليغ وبيان الوحي .
وجملة القول : أن الرسل عليهم الصلاة والسلام عبيد الله تعالى مكرمون ، لا يشاركونه في صفاته ولا في أفعاله ، ولا سلطان لهم على التأثير في علمه ولا في تدبيره ، وهم بشر كسائر الناس لا يمتازون على البشر في خلقهم وصفاتهم وغرائزهم ، وإنما يمتازون باختصاص الله تعالى إياهم بوحيه ، واصطفائهم لتبليغ رسالاته لعباده ، وبما زكاهم وعصمهم فأهلهم لأن يكونوا أسوة حسنة وقدوة صالحة للناس في العمل بما جاءوا به عن الله تعالى من الصلاح والتقوى ومكارم الأخلاق .