قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=16وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ، في
nindex.php?page=treesubj&link=28988_28779معنى قوله : nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=16أمرنا مترفيها [ 17 \ 16 ] ، في هذه الآية الكريمة ثلاثة مذاهب معروفة عند علماء التفسير :
الأول : وهو الصواب الذي يشهد له القرآن ، وعليه جمهور العلماء أن الأمر في قوله : أمرنا هو الأمر الذي هو ضد النهي ، وأن متعلق الأمر محذوف لظهوره ، والمعنى : أمرنا مترفيها بطاعة الله وتوحيده ، وتصديق رسله واتباعهم فيما جاءوا به :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=16ففسقوا ، أي : خرجوا عن طاعة أمر ربهم ، وعصوه وكذبوا رسله
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=16فحق عليها القول ، أي وجب عليها الوعيد
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=16فدمرناها تدميرا ، أي أهلكناها إهلاكا مستأصلا ، وأكد فعل التدمير بمصدره للمبالغة في شدة الهلاك الواقع بهم .
وهذا القول الذي هو الحق في هذه الآية تشهد له آيات كثيرة ; كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=28وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء الآية [ 7 \ 28 ] . فتصريحه جل وعلا بأنه لا يأمر بالفحشاء دليل واضح على أن قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=16أمرنا مترفيها ففسقوا [ 17 \ 16 ] ، أي : أمرناهم بالطاعة فعصوا ، وليس المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا ; لأن الله لا يأمر بالفحشاء .
ومن الآيات الدالة على هذا قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=34وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=35وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 \ 34 ، 35 ] .
فقوله في هذه الآية :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=34وما أرسلنا في قرية من نذير الآية
[ ص: 76 ] [ 43 \ 23 ] ، لفظ عام في جميع المترفين من جميع القرى أن الرسل أمرتهم بطاعة الله فقالوا لهم :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=34إنا بما أرسلتم به كافرون ، وتبجحوا بأموالهم وأولادهم ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وبهذا التحقيق تعلم : أن ما زعمه
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في كشافه من أن معنى أمرنا مترفيها ; أي أمرناهم بالفسق ففسقوا ، وأن هذا مجاز تنزيلا لإسباغ النعم عليهم الموجب لبطرهم وكفرهم منزلة الأمر بذلك ، كلام كله ظاهر السقوط والبطلان ، وقد أوضح إبطاله
أبو حيان في " البحر " ،
والرازي في تفسيره ، مع أنه لا يشك منصف عارف في بطلانه .
وهذا القول الصحيح في الآية جار على الأسلوب العربي المألوف ، من قولهم : أمرته فعصاني ، أي أمرته بالطاعة فعصى . وليس المعنى : أمرته بالعصيان كما لا يخفى .
القول الثاني في الآية : هو أن الأمر في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=16أمرنا مترفيها أمرا كونيا قدريا ، أي قدرنا عليهم ذلك وسخرناهم له ; لأن كلا ميسر لما خلق له . والأمر الكوني القدري كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=50وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر [ 54 \ 50 ] ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=65فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين [ 2 \ 65 ] ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=24أتاها أمرنا ليلا أو نهارا [ 10 \ 24 ] ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=82إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 \ 82 ] .
القول الثالث في الآية : أن " أمرنا " بمعنى أكثرنا ، أي أكثرنا مترفيها ففسقوا .
وقال
أبو عبيدة : أمرنا بمعنى أكثرنا ، لغة فصيحة كآمرنا بالمد ، ويدل لذلك الحديث الذي أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد عن
سويد بن هبيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007977خير مال امرئ مهرة مأمورة ، أو سكة مأبورة " .
قال
ابن كثير : قال الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12074أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه ( الغريب ) : المأمورة : كثيرة النسل . والسكة : الطريقة المصطفة من النخل . والمأبورة : من التأبير ، وهو تعليق الذكر على النخلة لئلا يسقط ثمرها . ومعلوم أن إتيان المأمورة على وزن المفعول يدل على أن أمر بفتح الميم مجردا عن الزوائد ، متعد بنفسه إلى المفعول ، فيتضح كون أمره بمعنى أكثر ، وأنكر غير واحد تعدي أمر الثلاثي بمعنى الإكثار إلى المفعول ، وقالوا : حديث
سويد بن هبيرة المذكور من قبيل الازدواج ، كقولهم : الغدايا والعشايا ، وكحديث "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007978ارجعن مأزورات غير مأجورات " ; لأن الغدايا لا يجوز ، وإنما ساغ
[ ص: 77 ] للازدواج مع العشايا ، وكذلك مأزورات بالهمز فهو على غير الأصل ; لأن المادة من الوزر بالواو ، إلا أن الهمز في قوله : " مأزورات " للازدواج مع " مأجورات " ، والازدواج يجوز فيه ما لا يجوز في غيره كما هو معلوم . وعليه فقوله : " مأمورة " إتباع لقوله : " مأبورة " وإن كان مذكورا قبله للمناسبة بين اللفظين .
وقال الشيخ
أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : قوله تعالى : أمرنا [ 17 \ 16 ] ، قرأ
nindex.php?page=showalam&ids=12081أبو عثمان النهدي ،
وأبو رجاء ،
وأبو العالية ،
والربيع ،
ومجاهد ،
والحسن : " أمرنا " بالتشديد ، وهي قراءة
علي رضي الله عنه ، أي سلطنا شرارها فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12081أبو عثمان النهدي " أمرنا " بتشديد الميم : جعلناهم أمراء مسلطين .
وقاله
ابن عزيز : وتأمر عليهم تسلط عليهم . وقرأ
الحسن أيضا ،
وقتادة ،
وأبو حيوة الشامي ،
ويعقوب ، وخارجة عن
نافع ،
nindex.php?page=showalam&ids=15744وحماد بن سلمة ، عن
ابن كثير وعلي nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس باختلاف عنهما : " آمرنا " بالمد والتخفيف ; أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي .
وقال
أبو عبيدة : " آمرته - بالمد - وأمرته لغتان بمعنى أكثرته .
ومنه الحديث "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007979خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة " ; أي كثيرة النتاج والنسل ، وكذلك قال
ابن عزيز : آمرنا وأمرنا بمعنى واحد ، أي أكثرنا . وعن
الحسن أيضا ،
nindex.php?page=showalam&ids=17344ويحيى بن يعمر : أمرنا - بالقصر وكسر الميم - على فعلنا ، ورويت عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس . قال
قتادة والحسن : المعنى أكثرنا ، وحكى نحوه
أبو زيد وأبو عبيد ، وأنكره
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي وقال : لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمد ، وأصلها أأمرنا فخفف ; حكاه
المهدوي .
وفي الصحاح : قال
أبو الحسن : أمر ماله - بالكسر - أي كثر . وأمر القوم : أي كثروا ، قال الشاعر وهو
الأعشى :
طرفون ولادون كل مبارك أمرون لا يرثون سهم القعدد
وآمر الله ماله ; بالمد .
الثعلبي : ويقال للشيء الكثير أمر ، والفعل منه أمر القوم يأمرون أمرا : إذا كثروا .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : كنا نقول في الجاهلية للحي إذا كثروا : أمر أمر بني فلان ; قال
[ ص: 78 ] لبيد :
كل بني حرة مصيرهم قل وإن أكثرت من العدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا يوما يصيروا للهلك والنكد
قلت : وفي حديث
هرقل الحديث الصحيح :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007980لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ، إنه ليخافه ملك بني الأصفر ; أي كثر ، وكلها غير متعد ، ولذلك أنكره
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي ، والله أعلم .
قال
المهدوي : ومن قرأ أمر فهي لغة ، ووجه تعدية أمر أنه شبهه بـ (
عمر ) من حيث كانت الكثرة أقرب شيء إلى العمارة ، فعدى كما عدى
عمر ، إلى أن قال : وقيل أمرناهم جعلناهم أمراء ; لأن العرب تقول : أمير غير مأمور ، أي غير مؤمر ، وقيل معناه : بعثنا مستكبريها . قال
هارون : وهي قراءة أبي : بعثنا أكابر مجرميها ففسقوا فيها ، ذكره
الماوردي .
وحكى
النحاس : وقال
هارون في قراءة أبي : وإذا أردنا أن نهلك قرية بعثنا فيها أكابر مجرميها فمكروا فيها فحق عليها القول . اه محل الغرض من كلام
القرطبي .
وقد علمت أن التحقيق الذي دل عليه القرآن أن معنى الآية : أمرنا مترفيها بالطاعة فعصوا أمرنا ، فوجب عليهم الوعيد فأهلكناهم كما تقدم إيضاحه .
قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=16وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ، فِي
nindex.php?page=treesubj&link=28988_28779مَعْنَى قَوْلِهِ : nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=16أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا [ 17 \ 16 ] ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ :
الْأَوَّلُ : وَهُوَ الصَّوَابُ الَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ : أَمَرْنَا هُوَ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ ، وَأَنَّ مُتَعَلِّقَ الْأَمْرِ مَحْذُوفٌ لِظُهُورِهِ ، وَالْمَعْنَى : أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ ، وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ وَاتِّبَاعِهِمْ فِيمَا جَاءُوا بِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=16فَفَسَقُوا ، أَيْ : خَرَجُوا عَنْ طَاعَةِ أَمْرِ رَبِّهِمْ ، وَعَصَوْهُ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=16فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ، أَيْ وَجَبَ عَلَيْهَا الْوَعِيدُ
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=16فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ، أَيْ أَهْلَكْنَاهَا إِهْلَاكًا مُسْتَأْصِلًا ، وَأَكَّدَ فِعْلَ التَّدْمِيرِ بِمَصْدَرِهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي شِدَّةِ الْهَلَاكِ الْوَاقِعِ بِهِمْ .
وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَشْهَدُ لَهُ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=28وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ الْآيَةَ [ 7 \ 28 ] . فَتَصْرِيحُهُ جَلَّ وَعَلَا بِأَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=16أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا [ 17 \ 16 ] ، أَيْ : أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَةِ فَعَصَوْا ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَمَرْنَاهُمْ بِالْفِسْقِ فَفَسَقُوا ; لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ .
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=34وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=35وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [ 34 \ 34 ، 35 ] .
فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=34وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ الْآيَةَ
[ ص: 76 ] [ 43 \ 23 ] ، لَفْظٌ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْمُتْرَفِينَ مِنْ جَمِيعِ الْقُرَى أَنَّ الرُّسُلَ أَمَرَتْهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَقَالُوا لَهُمْ :
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=34إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ، وَتَبَجَّحُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ تَعْلَمُ : أَنَّ مَا زَعَمَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ مِنْ أَنَّ مَعْنَى أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ; أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالْفِسْقِ فَفَسَقُوا ، وَأَنَّ هَذَا مَجَازٌ تَنْزِيلًا لِإِسْبَاغِ النِّعَمِ عَلَيْهِمُ الْمُوجِبِ لِبَطَرِهِمْ وَكُفْرِهِمْ مَنْزِلَةَ الْأَمْرِ بِذَلِكَ ، كَلَامٌ كُلُّهُ ظَاهِرُ السُّقُوطِ وَالْبُطْلَانِ ، وَقَدْ أَوْضَحَ إِبْطَالَهُ
أَبُو حَيَّانَ فِي " الْبَحْرِ " ،
وَالرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَشُكُّ مُنْصِفٌ عَارِفٌ فِي بُطْلَانِهِ .
وَهَذَا الْقَوْلُ الصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ جَارٍ عَلَى الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ الْمَأْلُوفِ ، مِنْ قَوْلِهِمْ : أَمَرْتُهُ فَعَصَانِي ، أَيْ أَمَرْتُهُ بِالطَّاعَةِ فَعَصَى . وَلَيْسَ الْمَعْنَى : أَمَرْتُهُ بِالْعِصْيَانِ كَمَا لَا يَخْفَى .
الْقَوْلُ الثَّانِي فِي الْآيَةِ : هُوَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=16أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا أَمْرًا كَوْنِيًّا قَدَرِيًّا ، أَيْ قَدَّرْنَا عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَسَخَّرْنَاهُمْ لَهُ ; لِأَنَّ كَلًّا مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ . وَالْأَمْرُ الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=50وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [ 54 \ 50 ] ، وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=65فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [ 2 \ 65 ] ، وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=24أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا [ 10 \ 24 ] ، وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=82إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ 36 \ 82 ] .
الْقَوْلُ الثَّالِثُ فِي الْآيَةِ : أَنَّ " أَمَرْنَا " بِمَعْنَى أَكْثَرْنَا ، أَيْ أَكْثَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا .
وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ : أَمَرْنَا بِمَعْنَى أَكْثَرْنَا ، لُغَةٌ فَصِيحَةٌ كَآمَرْنَا بِالْمَدِّ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=12251الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ
سُوَيْدِ بْنِ هُبَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007977خَيْرُ مَالِ امْرِئٍ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ ، أَوْ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ " .
قَالَ
ابْنُ كَثِيرٍ : قَالَ الْإِمَامُ
nindex.php?page=showalam&ids=12074أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ( الْغَرِيبِ ) : الْمَأْمُورَةُ : كَثِيرَةُ النَّسْلِ . وَالسِّكَّةُ : الطَّرِيقَةُ الْمُصْطَفَّةُ مِنَ النَّخْلِ . وَالْمَأْبُورَةُ : مِنَ التَّأْبِيرِ ، وَهُوَ تَعْلِيقُ الذَّكَرِ عَلَى النَّخْلَةِ لِئَلَّا يُسْقَطَ ثَمَرَهَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِتْيَانَ الْمَأْمُورَةِ عَلَى وَزْنِ الْمَفْعُولِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ بِفَتْحِ الْمِيمِ مُجَرَّدًا عَنِ الزَّوَائِدِ ، مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ إِلَى الْمَفْعُولِ ، فَيَتَّضِحُ كَوْنُ أَمْرِهِ بِمَعْنَى أَكْثَرَ ، وَأَنْكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ تَعَدِّي أَمْرِ الثُّلَاثِيِّ بِمَعْنَى الْإِكْثَارِ إِلَى الْمَفْعُولِ ، وَقَالُوا : حَدِيثُ
سُوَيْدِ بْنِ هُبَيْرَةَ الْمَذْكُورُ مِنْ قَبِيلِ الِازْدِوَاجِ ، كَقَوْلِهِمْ : الْغَدَايَا وَالْعَشَايَا ، وَكَحَدِيثِ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007978ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ " ; لِأَنَّ الْغَدَايَا لَا يَجُوزُ ، وَإِنَّمَا سَاغَ
[ ص: 77 ] لِلِازْدِوَاجِ مَعَ الْعَشَايَا ، وَكَذَلِكَ مَأْزُورَاتٌ بِالْهَمْزِ فَهُوَ عَلَى غَيْرِ الْأَصْلِ ; لِأَنَّ الْمَادَّةَ مِنَ الْوِزْرِ بِالْوَاوِ ، إِلَّا أَنَّ الْهَمْزَ فِي قَوْلِهِ : " مَأْزُورَاتٍ " لِلِازْدِوَاجِ مَعَ " مَأْجُورَاتٍ " ، وَالِازْدِوَاجُ يَجُوزُ فِيهِ مَا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ . وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ : " مَأْمُورَةٌ " إِتْبَاعٌ لِقَوْلِهِ : " مَأْبُورَةٌ " وَإِنْ كَانَ مَذْكُورًا قَبْلَهُ لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ .
وَقَالَ الشَّيْخُ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : قَوْلُهُ تَعَالَى : أَمْرُنَا [ 17 \ 16 ] ، قَرَأَ
nindex.php?page=showalam&ids=12081أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ ،
وَأَبُو رَجَاءٍ ،
وَأَبُو الْعَالِيَةِ ،
وَالرَّبِيعُ ،
وَمُجَاهِدٌ ،
وَالْحَسَنُ : " أَمَّرْنَا " بِالتَّشْدِيدِ ، وَهِيَ قِرَاءَةُ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَيْ سَلَّطْنَا شَرَارَهَا فَعَصَوْا فِيهَا ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَكْنَاهُمْ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12081أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ " أَمَّرْنَا " بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ : جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ مُسَلَّطِينَ .
وَقَالَهُ
ابْنُ عَزِيزٍ : وَتَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ . وَقَرَأَ
الْحَسَنُ أَيْضًا ،
وَقَتَادَةُ ،
وَأَبُو حَيْوَةَ الشَّامِيُّ ،
وَيَعْقُوبُ ، وَخَارِجَةُ عَنْ
نَافِعٍ ،
nindex.php?page=showalam&ids=15744وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، عَنِ
ابْنِ كَثِيرٍ وَعَلِيٌّ nindex.php?page=showalam&ids=11وَابْنُ عَبَّاسٍ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُمَا : " آمَرْنَا " بِالْمَدِّ وَالتَّخْفِيفِ ; أَيْ أَكْثَرْنَا جَبَابِرَتَهَا وَأُمَرَاءَهَا ، قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=15080الْكِسَائِيُّ .
وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ : " آمَرْتُهُ - بِالْمَدِّ - وَأَمَرْتُهُ لُغَتَانِ بِمَعْنَى أَكْثَرْتُهُ .
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007979خَيْرُ الْمَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ أَوْ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ " ; أَيْ كَثِيرَةُ النِّتَاجِ وَالنَّسْلِ ، وَكَذَلِكَ قَالَ
ابْنُ عَزِيزٍ : آمَرْنَا وَأَمَرْنَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، أَيْ أَكْثَرْنَا . وَعَنِ
الْحَسَنِ أَيْضًا ،
nindex.php?page=showalam&ids=17344وَيَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ : أَمَرْنَا - بِالْقَصْرِ وَكَسْرِ الْمِيمِ - عَلَى فِعْلِنَا ، وَرُوِيَتْ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ
قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ : الْمَعْنَى أَكْثَرْنَا ، وَحَكَى نَحْوَهُ
أَبُو زَيْدٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَنْكَرَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=15080الْكِسَائِيُّ وَقَالَ : لَا يُقَالُ مِنَ الْكَثْرَةِ إِلَّا آمَرْنَا بِالْمَدِّ ، وَأَصْلُهَا أَأَمَرْنَا فَخَفَّفَ ; حَكَاهُ
الْمَهْدَوِيُّ .
وَفِي الصِّحَاحِ : قَالَ
أَبُو الْحَسَنِ : أَمِرَ مَالُهُ - بِالْكَسْرِ - أَيْ كَثُرَ . وَأَمِرَ الْقَوْمُ : أَيْ كَثُرُوا ، قَالَ الشَّاعِرُ وَهُوَ
الْأَعْشَى :
طَرِفُونَ وَلَادُّونَ كُلَّ مُبَارَكٍ أَمِرُونَ لَا يَرِثُونَ سَهْمَ الْقُعْدُدِ
وَآمَرَ اللَّهُ مَالَهُ ; بِالْمَدِّ .
الثَّعْلَبِيُّ : وَيُقَالُ لِلشَّيْءِ الْكَثِيرِ أَمْرٌ ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ أَمَرَ الْقَوْمُ يَأْمُرُونَ أَمْرًا : إِذَا كَثُرُوا .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنُ مَسْعُودٍ : كُنَّا نَقُولُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِلْحَيِّ إِذَا كَثُرُوا : أَمَرَ أَمْرٍ بَنِي فُلَانٍ ; قَالَ
[ ص: 78 ] لَبِيدٌ :
كُلُّ بَنِي حُرَّةَ مَصِيرُهُمْ قُلْ وَإِنْ أَكْثَرَتْ مِنَ الْعَدَدِ
إِنْ يَغْبِطُوا يَهْبِطُوا وَإِنْ أَمَرُوا يَوْمًا يَصِيرُوا لِلْهَلَكِ وَالنَّكَدِ
قُلْتُ : وَفِي حَدِيثِ
هِرَقْلَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007980لَقَدْ أَمَرَ أَمْرَ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ ، إِنَّهُ لِيَخَافَهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ ; أَيْ كَثُرَ ، وَكُلُّهَا غَيْرُ مُتَعَدٍّ ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=15080الْكِسَائِيُّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ
الْمَهْدَوِيُّ : وَمَنْ قَرَأَ أَمَرَ فَهِيَ لُغَةٌ ، وَوَجْهُ تَعْدِيَةِ أَمْرٍ أَنَّهُ شَبَّهَهُ بِـ (
عَمَرَ ) مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْكَثْرَةُ أَقْرَبُ شَيْءٍ إِلَى الْعِمَارَةِ ، فَعَدَّى كَمَا عَدَّى
عَمَرَ ، إِلَى أَنْ قَالَ : وَقِيلَ أَمَرْنَاهُمْ جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ : أَمِيرٌ غَيْرُ مَأْمُورٍ ، أَيْ غَيْرُ مُؤَمِّرٍ ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ : بَعَثْنَا مُسْتَكْبَرِيهَا . قَالَ
هَارُونُ : وَهِيَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ : بَعَثْنَا أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا ، ذَكَرَهُ
الْمَاوَرْدِيُّ .
وَحَكَى
النَّحَّاسُ : وَقَالَ
هَارُونُ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ : وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً بَعَثْنَا فِيهَا أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا فَمَكَرُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ . اه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ
الْقُرْطُبِيِّ .
وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ التَّحْقِيقَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا بِالطَّاعَةِ فَعَصَوْا أَمْرَنَا ، فَوَجَبَ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ .