لا خلاف بين العلماء أنه بعرفة أفاض منها إلى المزدلفة ، وذلك هو معنى قوله تعالى : إن غربت الشمس واستحكم غروبها وهو واقف ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس الآية [ 2 \ 199 ] . كما قدمنا إيضاحه في سورة البقرة .
وقد بينت الأحاديث الصحيحة كيفية إفاضته من عرفات ، ففي حديث جابر الطويل عند مسلم : " أسامة خلفه ، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام ، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى : " أيها الناس ، السكينة السكينة " ، كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد ، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء " ، الحديث ، وقول فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص ، وأردف جابر في هذا الحديث : وقد شنق للقصواء الزمام ، يعني أنه يكفها بزمامها عن شدة المشي ، والمورك بفتح الميم وكسر الراء : هو الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدام واسطة الرحل إذا مل من الركوب . وضبطه بفتح الراء قال : وهو قطعة أدم يتورك عليها الراكب تجعل في مقدمة الرحل شبه المخدة الصغيرة ، وقوله : ويقول بيده السكينة السكينة ؛ أي : يأمرهم بالسكينة مشيرا بيده ، والسكينة : الرفق والطمأنينة ، وقول القاضي عياض جابر في هذا الحديث : كلما أتى حبلا من الحبال : هو بالحاء المهملة ، والباء الموحدة ، والمراد بالحبل في حديثه : الرمل المستطيل المرتفع ، ومنه قول : ذي الرمة
ويوما بذي الأرطى إلى جنب مشرف بوعسائه حيث اسبطرت حبالها
[ ص: 442 ] وقول : عمر بن أبي ربيعة
يا ليتني قد أجزت الحبل نحوكم حبل المعرف أو جاوزت ذا عشر
وحديث جابر هذا الدال على الرفق ، وعدم الإسراع ، وما جاء في معناه من الأحاديث يفسره حديث أسامة الثابت في الصحيحين : " " ، والعنق بفتحتين : ضرب من السير دون النص ، ومنه قول الراجز : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنق فإذا وجد فجوة نص
يا ناق سيري عنقا فسيحا إلى سليمان فنستريحا
والنص : أعلى غاية الإسراع ، ومنه قول كثير :
حلفت برب الراقصات إلى منى يجوب الفيافي نصها وذميلها
والفجوة تقدم تفسيرها بشواهده العربية في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : وهم في فجوة منه [ 18 \ 17 ] .
وإذا علمت وقت إفاضته صلى الله عليه وسلم من عرفات إلى المزدلفة ، وكيفية إفاضته ، فاعلم " المزدلفة ، فأسبغ وضوءه ، وصلى المغرب ، والعشاء بأذان واحد ، وإقامتين ، ولم يصل بينهما شيئا ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر ، وصلى الفجر ، حين تبين له الصبح بأذان ، وإقامة ، ثم ركب القصواء ، حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة ، فدعاه ، وكبره ، وهلله فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ، فدفع قبل أن تطلع الشمس " ، ومن فعل كفعله صلى الله عليه وسلم فقد أصاب السنة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " أنه صلى الله عليه وسلم نزل في الطريق ، فبال ، وتوضأ وضوءا خفيفا ، وأخبرهم بأن الصلاة أمامهم . ثم أتى " ، وأما من خالف في ذلك ، فلم يبت لتأخذوا عني مناسككم بالمزدلفة ، فقد اختلف العلماء في حكمه إلى ثلاثة مذاهب .
الأول : أن بمزدلفة واجب يجبر بدم . المبيت
الثاني : أنه ركن لا يتم الحج بدونه .
الثالث : أنه سنة وليس بواجب ، والقول : بأنه واجب يجبر بدم : هو قول أكثر أهل العلم منهم : مالك ، وأحمد ، وأبو حنيفة ، في المشهور عنه ، والشافعي وعطاء ، ، والزهري وقتادة ، ، والثوري وإسحاق ، . وأبو ثور
قال النووي في شرح المهذب : قد ذكرنا أن المشهور من مذهبنا : أنه ليس بركن ، [ ص: 443 ] فلو تركه صح حجه . قال القاضي أبو الطيب ، وأصحابنا : وبهذا قال جماهير العلماء من السلف والخلف . انتهى منه .
وممن قال : بأنه ركن لا يصح الحج إلا به خمسة من أئمة التابعين ، وبعض الشافعية ، وأما الخمسة المذكورون : فهم علقمة ، والأسود ، ، والشعبي والنخعي ، ، وممن قال به من الشافعية : والحسن البصري أبو عبد الرحمن بن بنت الشافعي ، ، كما نقله عنهم وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة النووي في شرح المهذب ، ونقله القرطبي أيضا عن عكرمة ، ، والأوزاعي ، قال : وروي عن وحماد بن أبي سليمان ابن الزبير . وقال ابن القيم في زاد المعاد : وهو مذهب اثنين من الصحابة : ، ابن عباس وابن الزبير ، وإليه ذهب ، إبراهيم النخعي ، والشعبي وعلقمة ، ، وهو مذهب والحسن البصري ، الأوزاعي ، وحماد بن أبي سليمان ، وداود بن علي الظاهري . واختاره وأبي عبيد القاسم بن سلام المحمدان ابن جرير ، ، وهو أحد الوجوه للشافعية ، وهؤلاء القائلون بأن المبيت وابن خزيمة بمزدلفة ركن من أركان الحج يقولون : إن فاته المبيت بها تحلل من إحرامه بعمرة ، ثم حج من قابل .
وممن قال بأن المبيت بمزدلفة سنة لا يجب بتركه دم : بعض الشافعية ، وذكر النووي أن هذا القول مشهور أيضا ، لكن الأول أصح منه ، وعن عطاء ، : أنها منزل من شاء نزل به ، ومن شاء لم ينزل به ، وروى نحوه والأوزاعي بسند فيه ضعف ، عن الطبري مرفوعا ، قاله الحافظ في الفتح . ابن عمر
فإذا علمت أقوال أهل العلم في حكم المبيت بمزدلفة ، فهذه تفاصيل أدلتهم ، أما الذين قالوا : بأنه واجب ، وليس بركن : فقد استدلوا على أنه ليس بركن بحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه ، وقد قدمنا ألفاظ رواياته ، وأنه صحيح ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فيه : " عرفة ولو في آخر جزء من ليلة النحر قبل الصبح أنه تم حجه وقضى تفثه " ، ومعلوم أن هذا الواقف أن من أدرك بعرفة في آخر جزء من ليلة النحر ، قد فاته المبيت بمزدلفة قطعا بلا شك ، ومع ذلك فقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور بأن حجه تام .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الظاهر أن الاستدلال بهذا الحديث على هذا الحكم صحيح ، ودلالته عليه هي المعروفة عند أهل الأصول بدلالة الإشارة ، ومعلوم في الأصول أن دلالة الإشارة ، ودلالة الاقتضاء ، ودلالة الإيماء ، والتنبيه كلها من دلالة الالتزام ، ومعلوم أن هذه الأنواع من دلالة الالتزام اختلف فيها هل هي من قبيل المنطوق غير [ ص: 444 ] الصريح ، أو من قبيل المفهوم ؟ وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله :
وفي كلام الوحي والمنطوق هل ما ليس بالصريح فيه قد دخل
وهو دلالة اقتضاء أن يدل لفظ ما دونه لا يستقل
دلالة اللزوم مثل ذات إشارة كذاك الايماءات
إلخ .
وقصدنا هنا إيضاح دلالة الإشارة دون غيرها ، وضابط دلالة الإشارة هي : أن يساق النص لمعنى مقصود : فيلزم ذلك المعنى المقصود أمر آخر غير مقصود باللفظ لزوما لا ينفك ، كما أشار له في المراقي بقوله :
فأول إشارة اللفظ لما لم يكن القصد له قد علما
فإذا علمت ذلك ، فاعلم أنه صلى الله عليه وسلم ، لم يذكر حديث عبد الرحمن بن يعمر المذكور لقصد بيان حكم المبيت بمزدلفة ، ولكنه ذكره قاصدا بيان أن من أدرك الوقوف بعرفة في آخر جزء من ليلة النحر أن حجه تام ، وهذا المعنى المقصود يلزمه حكم آخر غير مقصود باللفظ وهو عدم ركنية المبيت بمزدلفة ، لأنه إذا لم يدرك عرفة إلا في الجزء الأخير من الليل ، فقد فاته المبيت بمزدلفة قطعا ، ومع ذلك فقد صرح صلى الله عليه وسلم بأن حجه تام .
ومن أمثلة دلالة الإشارة في القرآن قوله تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم [ 2 \ 187 ] فإنه يدل بدلالة الإشارة المذكورة على صحة ، لأن الآية الكريمة سيقت لبيان جواز الجماع في ليلة الصيام ، وذلك صادق بآخر جزء منها ، بحيث لا يبقى بعده من الليل قدر ما يسع الاغتسال ، فيلزم من جواز الجماع في آخر جزء من الليل الذي دلت عليه الآية أنه لا بد أن يصبح جنبا ، ولفظ الآية : لم يقصد به صحة صوم من أصبح جنبا ، ولكن المعنى الذي قصد به يلزمه ذلك كما بينا . صوم من أصبح جنبا
ومن أمثلتها أيضا في القرآن قوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ 46 \ 15 ] مع قوله : وفصاله في عامين [ 31 \ 14 ] فإن الآيتين لم يقصد بلفظهما بيان قدر أقل أمد الحمل ، ولكن المعنى الذي قصد بهما يلزمه أن ستة أشهر ; لأنه جمع الحمل والفصال في ثلاثين شهرا ، ثم بين أن الفصال في عامين ، فيطرح من الثلاثين شهرا أربعة وعشرون التي هي عاما الفصال ، فيبقى ستة أشهر ، فدلت الآيتان دلالة الإشارة على أن أقل أمد الحمل ستة أشهر ، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم كما أوضحناه في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى : أقل أمد الحمل الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار [ 13 \ 8 ] .
[ ص: 445 ] ومراد الأصوليين أن المدلول عليه بالإشارة لم يقصد باللفظ ، أن اللفظ لا يتناوله بحسب الوضع اللغوي ، مع علمهم بأن علم الله محيط بكل شيء ، سواء دل عليه اللفظ المذكور بمنطوقه أو لم يدل عليه ، وحجتهم في أنه واجب يجبر بدم أنه نسك ، وفي أثر : من ترك نسكا فعليه دم ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى . ابن عباس
وأما حجة من قال : إنه ركن فهي من كتاب وسنة :
أما الكتاب ، فقوله تعالى : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام [ 2 \ 198 ] قالوا : فهذا الأمر القرآني الصريح يدل على أنه لا بد من . ذكر الله عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفة
وأما السنة ، فمنها حديث عروة بن مضرس ، الذي سقناه سابقا ، فإن فيه : " عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه " ، قالوا : فقوله صلى الله عليه وسلم في حديث من أدرك معنا هذه الصلاة ، وكان قد أتى ابن مضرس هذا : " من أدرك معنا هذه الصلاة " الحديث . يفهم منه أن من لم يدركها معهم لم يتم حجه ، ولم يقض تفثه ، والمراد بها صلاة الصبح بمزدلفة كما هو واضح ، قالوا : وفي رواية عند ، عن النسائي عروة بن مضرس : ، قالوا : من أدرك جمعا مع الإمام والناس حتى يفيض منها فقد أدرك الحج ، ومن لم يدرك مع الناس الإمام فلم يدركولأبي يعلى . وأجاب الجمهور القائلون : بأن المبيت بمزدلفة ليس بركن عن أدلة هؤلاء القائلين : إنه ركن لا يتم الحج إلا به . ومن لم يدرك جمعا فلا حج له
قالوا : أما الآية التي استدلوا بها على وجوب الوقوف بمزدلفة التي هي قوله تعالى : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام الآية [ 2 \ 198 ] ، فإنها لم تتعرض للوقوف بمزدلفة أصلا ، وإنما أمر فيها بذكر الله عند المشعر الحرام .
قالوا : وقد أجمعوا كلهم على أن من وقف بمزدلفة ، ولم يذكر الله أن حجه تام ، فإذا كان الذكر المذكور في الكتاب ليس من صلب الحج بإجماعهم فالموطن الذي يكون الذكر فيه أحرى أن لا يكون فرضا ، وأجابوا عن استدلالهم بمفهوم الشرط في حديث عروة بن مضرس المذكور " " الحديث . بأنهم أجمعوا كلهم ، على أنه لو بات من أدرك معنا هذه الصلاة بمزدلفة ووقف قبل ذلك بعرفة ، ونام عن صلاة الصبح ، فلم يصلها مع الإمام ، حتى [ ص: 446 ] فاتته أنه حجه تام ، وقد قدمنا دلالة حديث عبد الرحمن بن يعمر على ذلك .
وأجابوا عن رواية التي أشرنا إليها التي قال فيها : أخبرنا النسائي محمد بن قدامة ، قال : حدثني جرير ، عن مطرف ، عن ، عن الشعبي عروة بن مضرس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " ا هـ بأن هذه الزيادة في هذه الرواية ، لم تثبت . من أدرك جمعا مع الإمام والناس حتى يفيض منها فقد أدرك ، ومن لم يدرك مع الناس والإمام فلم يدرك
قال ابن حجر في فتح الباري في بيان تضعيف الزيادة المذكورة : وقد صنف جزءا في إنكار هذه الزيادة ، وبين أنها من رواية أبو جعفر العقيلي مطرف ، عن ، عن الشعبي عروة ، وأن مطرفا كان يهم في المتون ، قال : وقد ارتكب الشطط فزعم أن من لم يصل صلاة الصبح ابن حزم بمزدلفة مع الإمام : أن الحج يفوته ، ولم يعتبر مخالفته هذه ، فحكى الإجماع على الإجزاء كما حكاه ابن قدامة . انتهى كلام الطحاوي ابن حجر مع حذف يسير .
وأجابوا عن الرواية المذكورة عند أبي يعلى ، وغيره : بأنها ضعيفة .
قال النووي في شرح المهذب في كلامه على قول القائلين : بأنه ركن ، واحتج لهم بالحديث المروي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " بمزدلفة فقد فاته الحج " ، ثم قال : وأما الحديث فالجواب عنه من وجهين : من فاته المبيت
أحدهما : أنه ليس بثابت ولا معروف .
والثاني : أنه لو صح لحمل على فوات كمال الحج لا فوات أصله . انتهى منه .
وما ذكرنا عن ابن حجر من تضعيف الزيادة المذكورة يعني به ما عند ، النسائي وأبي يعلى منها في حديث عروة المذكور .
ومن أدلتهم على أن المبيت بمزدلفة ركن : أن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل ، وقال : " " ، وأجاب الجمهور عن هذا : بأنهم لم يخالفوا في أنه نسك ، ينبغي أن يؤخذ عنه صلى الله عليه وسلم ، ولكن صحة الحج بدونه علمت بدليل آخر : وهو حديث لتأخذوا عني مناسككم عبد الرحمن بن يعمر الديلي المذكور سابقا ، الدال على عدم اشتراط المبيت بمزدلفة ، كما أوضحنا وجه دلالته على ذلك ، والعلم عند الله تعالى .
وأما حجة من قال : إن المبيت بمزدلفة : سنة ، وليس بركن ، ولا واجب هي : أنه مبيت ، فكان سنة كالمبيت بمنى ليلة عرفة . أعني : الليلة التاسعة التي صبيحتها يوم عرفة ، هذا هو حاصل أقوال أهل العلم ، وأدلتهم في المبيت بمزدلفة .
[ ص: 447 ] قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد قدمنا أن الاستدلال بحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه ، على عدم ركنية المبيت بمزدلفة صحيح ، وأن دلالته على ذلك دلالة إشارة كما هو معروف في الأصول ، ولا شك أنه ينبغي للحاج أن يحرص على أن يفعل كفعل النبي صلى الله عليه وسلم فيبيت بمزدلفة كما قدمنا إيضاحه ، والعلم عند الله تعالى .