الفرع الأول : قد قدمنا المزدلفة كلها موقف ، فحيث وقف منها أجزأه ، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء ، وقد قدمناه من حديث أن جابر عند مسلم .
الفرع الثاني : اعلم أنه ينبغي بمزدلفة في أول وقتها ، كما فعل صلى الله عليه وسلم . التعجيل بصلاة الصبح يوم النحر
واعلم أن ما رواه ، البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث رضي الله عنه قال : عبد الله بن مسعود . ليس المراد به أنه صلى الصبح قبل طلوع الفجر ، لأن ذلك ممنوع إجماعا ، ولكن مراده به أنه صلاها قبل ميقاتها المعتاد الذي كان يصليها فيه ، ولكن بعد تحقق طلوع الفجر . ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صلى صلاة إلا بميقاتها إلا صلاتين : صلاة المغرب والعشاء بجمع ، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها
ومما يدل على هذا ما رواه في صحيحه ، عن البخاري نفسه رضي الله عنه ، حدثنا عبد الله بن مسعود ، حدثنا عمرو بن خالد زهير ، حدثنا أبو إسحاق قال : سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول : عبد الله رضي الله عنه ، فأتينا المزدلفة . الحديث ، وفيه : فلما طلع الفجر قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم . قال حج عبد الله : هما صلاتان يحولان عن وقتهما ، صلاة المغرب بعد ما يأتي الناس المزدلفة ، والفجر حين يبزغ الفجر ، قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله انتهى من صحيح . البخاري
فقول في هذا الحديث الصحيح : فلما طلع الفجر ، وقوله : والفجر حين يبزغ الفجر ، وإتباعه ذلك بقوله : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ، صريح فيما ذكرنا من أن مراده بقوله : قبل ميقاتها يعني به : وقتها الذي يصليها فيه عادة ، وليس مراده أنه صلاها قبل طلوع الفجر كما ترى . ابن مسعود
[ ص: 448 ] الفرع الثالث : اعلم أن العلماء اختلفوا في بالمزدلفة ، فذهب القدر الذي يكفي في النزول مالك ، وأصحابه ، إلى أن النزول بمزدلفة بقدر ما يصلي المغرب والعشاء ، ويتعشى يكفيه في نزول مزدلفة ولو أفاض منها قبل نصف الليل ، وبعضهم يقول : لا بد في ذلك من حط الرحال ، وذهب ، الشافعي وأحمد إلى أنه إن دفع منها بعد نصف الليل أجزأه ، وإن دفع منها قبل نصف الليل لزمه دم . وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن دفع منها قبل الفجر لزمه دم ; لأن وقت الوقوف عنده بعد صلاة الصبح ، ومن حضر المزدلفة في ذلك الوقت فقد أتى بالوقوف ، ومن تركه ودفع ليلا فعليه دم إلا إن كان لعذر .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأظهر عندي في هذه المسألة : هو أنه ينبغي أن يبيت إلى الصبح ; لأنه لا دليل مقنعا يجب الرجوع إليه مع من حدد بالنصف الأخير ، ولا مع من اكتفى بالنزول ، وقياسهم الأقوياء على الضعفاء قائلين : إنه لو كان الدفع بعد النصف ممنوعا لما رخص فيه صلى الله عليه وسلم لضعفة أهله ; لأنه لا يرخص لأحد في حرام ، قياس مع وجود الفارق ، ولا يخفى ما في قياس القوي على الضعيف الذي رخص له لأجل ضعفه كما ترى ، ولا خلاف بين العلماء أن السنة أنه يبقى بجمع حتى يطلع الفجر كما تقدم ومن المعلوم أن جمعا ، والمزدلفة ، والمشعر الحرام أسماء مترادفة يراد بها شيء واحد خلافا لمن خصص المشعر الحرام بقزح دون باقي المزدلفة .
الفرع الرابع : اعلم أنه لا بأس منى قبل طلوع الفجر . قال بتقديم الضعفة إلى في المغني : ولا نعلم فيه مخالفا اهـ ومن المعلوم أن ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم . ابن قدامة
قال رحمه الله في صحيحه : باب من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون البخاري بالمزدلفة ويدعون ، ويقدم إذا غاب القمر : حدثنا ، حدثنا يحيى بن بكير الليث ، عن يونس ، عن قال ابن شهاب سالم : وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقدم ضعفة أهله ، فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل فيذكرون الله عز وجل ما بدا لهم ، ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام ، وقبل أن يدفع ، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر ، ومنهم من يقدم بعد ذلك ، فإذا قدموا رموا الجمرة ، وكان رضي الله عنهما يقول : أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم . ابن عمر
حدثنا ، حدثنا سليمان بن حرب ، عن حماد بن زيد أيوب ، عن عكرمة ، عن رضي الله عنهما قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمع بليل . ابن عباس
[ ص: 449 ] حدثنا علي ، حدثنا سفيان قال : أخبرني ، سمع عبيد الله بن أبي يزيد رضي الله عنهما يقول : أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة ابن عباس المزدلفة في ضعفة أهله . حدثنا مسدد ، عن يحيى ، عن ، قال : حدثني ابن جريج عبد الله مولى أسماء ، عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة ، فقامت تصلي ، فصلت ساعة ، ثم قالت : يا بني ، هل غاب القمر ؟ قلت : لا فصلت ساعة ، ثم قالت : هل غاب القمر ؟ قلت : نعم ، قالت : فارتحلوا ، فارتحلنا ، ومضينا حتى رمت الجمرة ، فصلت الصبح في منزلها ، فقلت لها : يا هنتاه : ما أرانا إلا قد غلسنا ، قالت : يا بني ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن .
حدثنا ، أخبرنا محمد بن كثير سفيان ، حدثنا عبد الرحمن هو ابن القاسم ، عن القاسم ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : النبي صلى الله عليه وسلم ليلة جمع ، وكانت ثقيلة ثبطة ، فأذن لها سودة . استأذنت
حدثنا أبو نعيم ، حدثنا أفلح بن حميد ، عن ، القاسم بن محمد عائشة رضي الله عنها ، قالت : نزلنا المزدلفة ، فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تدفع قبل حطمة الناس ، وكانت امرأة بطيئة ، فأذن لها فدفعت قبل حطمة الناس ، وأقمنا حتى أصبحنا نحن . ثم دفعنا بدفعه فلأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنت سودة أحب إلي من مفروح به سودة . انتهى من صحيح عن . البخاري
وهذه الأحاديث التي رواها عن البخاري ، ابن عمر ، وابن عباس وأسماء ، وعائشة رضي الله عنهم رواها كلها مسلم في صحيحه أيضا ، مع بعض اختلاف في الألفاظ والمعنى .
وروى مسلم في صحيحه : أم حبيبة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمع بليل ، وفي لفظ لها عند عن مسلم : كنا نفعله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نغلس من جمع إلى منى ، وفي رواية الناقد : نغلس من مزدلفة اهـ وهذه النصوص الصحيحة تدل على جواز تقديم الضعفة ، والنساء من المزدلفة ليلا كما ترى .
الفرع الخامس : اعلم أن العلماء اختلفوا في الوقت الذي يجوز فيه رمي جمرة العقبة من الضعفة وغيرهم ، مع إجماعهم على أن من رماها بعد طلوع الشمس أجزأه ذلك ، فذهبت جماعة من أهل العلم ، إلى أن العقبة هو ابتداء النصف الأخير من ليلة النحر ، وممن قال بهذا : أول الوقت الذي يجزئ فيه رمي جمرة ، الشافعي وأحمد ، وعطاء ، وابن أبي [ ص: 450 ] ليلى ، وعكرمة بن خالد كما نقله عنهم في المغني ، وقال ابن قدامة النووي في شرح المهذب : وبه قال عطاء ، وأحمد ، وهو مذهب ، أسماء بنت أبي بكر وابن أبي مليكة وعكرمة بن خالد ، وذهبت جماعة من أهل العلم : إلى أن أول وقته يبتدئ من بعد طلوع الشمس ، وهو مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، وذهب بعض أهل العلم إلى أن أول وقته للضعفة من طلوع الفجر ولغيرهم من بعد طلوع الشمس ، وهو اختيار ابن القيم ، وإذا علمت أقوال أهل العلم في المسألة ، فهذه تفاصيل أدلتهم .
أما الذين قالوا : إن رمي جمرة العقبة يجوز في النصف الأخير من ليلة النحر فقد استدلوا بما رواه أبو داود في سننه : حدثنا ، ثنا هارون بن عبد الله ، عن ابن أبي فديك الضحاك - يعني ابن عثمان - ، عن ، عن أبيه ، هشام بن عروة عائشة أنها قالت : أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر ، فرمت الجمرة قبل الفجر ، ثم مضت ، فأفاضت وكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عندها انتهى منه . عن
قال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث : وأما حديث عائشة في إرسال فصحيح . رواه أم سلمة أبو داود بلفظه بإسناد صحيح على شرط مسلم ، وقال الزيلعي في نصب الراية ، بعد أن ساق حديث أبي داود : هذا عن عائشة ، ورواه البيهقي في سننه ، وقال : إسناده صحيح لا غبار عليه ، وما ذكره الزيلعي من أنه قال : إسناده صحيح لا غبار عليه لم أره في سننه الكبرى ، وقد ذكر الحديث فيها بدون التصحيح المذكور .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ما ذكره النووي من كون إسناد أبي داود المذكور صحيحا ، على شرط مسلم صحيح ; لأن طبقته الأولى وهو ثقة من رجال هارون الحمال مسلم ، وطبقته الثانية ، وهو صدوق . أخرج له الشيخان وغيرهما ، وطبقته الثالثة محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك الضحاك بن عثمان الحزامي الكبير ، وهو صدوق يهم ، وهو من رجال مسلم ، وباقي الإسناد هشام ، عن ، عن عروة بن الزبير عائشة وصحته ظاهرة ، فالاحتجاج بهذا الإسناد ظاهر ، لأن جميع رجاله من رجال مسلم ، وبعض رجاله أخرج له الجميع فظاهره الصحة مع أن بعض أهل العلم ضعفه قائلا : إنه مضطرب متنا وسندا ، وممن ذكر أنه ضعفه الإمام أحمد ، وغيره ، ولا يخفى أن رواية أبي داود المذكورة ظاهرها الصحة .
وتعتضد بما رواه الخلال : أنبأنا ، حدثنا علي بن حرب هارون بن عمران ، عن سليمان بن أبي داود ، عن ، عن أبيه قال : هشام بن عروة قالت : قدمني [ ص: 451 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قدم من أهله ليلة أم سلمة المزدلفة ، قالت : فرميت بليل ، ثم مضيت إلى مكة ، فصليت بها الصبح ، ثم رجعت إلى منى ، انتهى منه بواسطة نقل أخبرتني ابن القيم في زاد المعاد ، ولا شك أن هذه الرواية عن تقوي الرواية الأولى عن أم سلمة عائشة . ولما ساق ابن القيم هذه الرواية التي ذكرها الخلال قال : قلت : سليمان بن أبي داود هذا هو الدمشقي الخولاني ، ويقال : ابن داود قال أبو زرعة : عن أحمد : رجل من أهل الجزيرة ليس بشيء ، وقال : ضعيف . عثمان بن سعيد
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : رواية سليمان بن داود المذكورة لا تقل عن أن تعضد الرواية المذكورة قبلها ، وسليمان المذكور وثقه وأثنى عليه غير واحد ، قال فيه : ابن حبان سليمان بن داود الخولاني من أهل دمشق ثقة مأمون ، وقال البيهقي : وقد أثنى على سليمان بن داود أبو زرعة ، وأبو حاتم ، وعثمان بن سعيد ، وجماعة من الحفاظ انتهى بواسطة نقل ابن حجر في تهذيب التهذيب .
وقال ابن حجر فيه أيضا : قلت : أما سليمان بن داود الخولاني ، فلا ريب في أنه صدوق ، وقال فيه في التقريب : سليمان بن داود الخولاني أبو داود الدمشقي : سكن داريا صدوق من السابعة . وبذلك كله يعلم أن روايته لا تقل عن أن تكون عاضدا لغيرها .
هذا هو حاصل حجة من أجاز رمي الجمرة قبل الصبح .
وأما حجة من قال : لا يجوز رميها ، إلا بعد طلوع الشمس ، فمنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم رماها وقت الضحى . وقال : " " . خذوا عني مناسككم
ومنها ما رواه أصحاب السنن ، وغيرهم من حديث رضي الله عنهما : " ابن عباس " . وفي لفظ عن أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بضعفة أهله ، فأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس ، قال : " ابن عباس المزدلفة - أغيلمة بني عبد المطلب - على حمرات فجعل يلطح أفخاذنا ويقول : أي بني ، لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس " ، قال قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أبو داود : اللطح الضرب اللين ، وهذا الحديث صحيح ، وقال الترمذي رحمه الله في هذا الحديث : قال أبو عيسى : حديث حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم ، وقال ابن عباس النووي في شرح المهذب في حديث المذكور ، أما حديث ابن عباس ، فصحيح رواه ابن عباس أبو داود ، ، والترمذي ، وغيرهم بأسانيد صحيحة ، قال والنسائي الترمذي : حديث حسن صحيح انتهى كلام النووي .
[ ص: 452 ] وقال ابن القيم في زاد المعاد في حديث المذكور : حديث صحيح ; صححه ابن عباس الترمذي وغيره .
وأما حجة من قال : بجواز رمي جمرة العقبة للضعفة بعد الصبح قبل طلوع الشمس دون غيرهم ، وأن غيرهم لا يجوز له رميها إلا بعد طلوع الشمس ، فمنها حديث أسماء المتفق عليه الذي قدمناه .
قال فيه : قالت : يا بني : هل غاب القمر ؟ قلت : نعم ، قالت : فارتحلوا ، فارتحلنا ، ومضينا ، حتى رمت الجمرة ، ثم رجعت ، فصلت الصبح في منزلها فقلت لها : يا هنتاه : ما أرانا إلا قد غلسنا قالت : يا بني " اهـ . فهذا الحديث المتفق عليه صريح أن إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن أسماء رمت الجمرة قبل طلوع الشمس ، بل بغلس ، وهو بقية الظلام ، ومنه قول الأخطل :
كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا
وصرحت بأنه صلى الله عليه وسلم : أذن في ذلك للظعن ، ومفهومه أنه لم يأذن للأقوياء الذكور كما ترى .
ومنها حديث المتفق عليه الذي قدمناه أيضا ، فإن فيه : أنه كان يقدم ضعفة أهله ، وأن منهم من يقدم ابن عمر منى لصلاة الفجر ، ومنهم من يقدم بعد ذلك ، فإذا قدموا رموا الجمرة ، وكان رضي الله عنهما يقول : أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحديث ابن عمر هذا المتفق عليه يدل دلالة واضحة على الترخيص للضعفة في رمي جمرة ابن عمر العقبة بعد الصبح قبل طلوع الشمس كما ترى ، ومفهومه أنه لم يرخص لغيرهم في ذلك .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : إن الذي يقتضي الدليل رجحانه في هذه المسألة : أن الذكور الأقوياء لا يجوز لهم رمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس ، وأن الضعفة والنساء لا ينبغي التوقف في جواز رميهم بعد الصبح قبل طلوع الشمس لحديث أسماء ، المتفق عليهما الصريحين في الترخيص لهم في ذلك ، وأما رميهم أعني الضعفة والنساء ، قبل طلوع الفجر ، فهو محل نظر ، فحديث وابن عمر عائشة عند أبي داود يقتضي جوازه ، وحديث عند أصحاب السنن : يقتضي منعه . ابن عباس
والقاعدة المقررة في الأصول : هي أن يجمع بين النصين إن أمكن الجمع وإلا فالترجيح بينهما ، وقد جمعت بينهما جماعة من أهل العلم ، فجعلوا لرمي جمرة العقبة [ ص: 453 ] وقتين : وقت فضيلة ، ووقت جواز ، وحملوا حديث : على وقت الفضيلة ، وحديث ابن عباس عائشة : على وقت الجواز ، وله وجه من النظر . والعلم عند الله تعالى .
أما الذكور الأقوياء فلم يرد في الكتاب ، ولا السنة دليل يدل على جواز رميهم جمرة العقبة قبل طلوع الشمس ، لأن جميع الأحاديث الواردة في الترخيص في ذلك كلها في الضعفة ، وليس شيء منها في الأقوياء الذكور ، وقد قدمنا أن قياس القوي على الضعيف الذي رخص له من أجل ضعفه قياس مع وجود الفارق ، وهو مردود كما هو مقرر في الأصول وإليه أشار في مراقي السعود بقوله :
والفرق بين الأصل والفرع قدح إبداء مختص بالأصل قد صلح
أو مانع في الفرع . . . إلخ
ومحل الشاهد منه قوله : إبداء مختص بالأصل قد صلح ; لأن معترض قياس القوي على الضعيف في هذه المسألة يبدي وصفا مختصا بالأصل دون الفرع صالحا للتعليل ، وهو الضعف ; لأن الضعف الموجود في الأصل المقيس عليه الذي هو علة الترخيص المذكور ، ليس موجودا في الفرع المقيس الذي هو الذكر القوي كما ترى والعلم عند الله تعالى .
الفرع السادس : اعلم أن العقبة يمتد إلى آخر نهار يوم النحر ، فمن رماها قبل الغروب من يوم النحر فقد رماها في وقت لها . وقت رمي جمرة
قال : أجمع أهل العلم على أن من رماها يوم النحر قبل المغيب فقد رماها في وقت لها وإن لم يكن مستحبا لها انتهى منه بواسطة نقل ابن عبد البر في المغني فإن فات يوم النحر ولم يرمها فقال بعض أهل العلم : يرميها ليلا والذين قالوا : يرميها ليلا : منهم من قال : رميها ليلا أداء لا قضاء ، وهو أحد وجهين مشهورين للشافعية حكاهما صاحب التقريب ، والشيخ ابن قدامة ، وولده إمام الحرمين ، وآخرون . أبو محمد الجويني
قال النووي : وروى مالك في الموطإ عن أبي بكر بن نافع مولى ابن عمر ، عن أبيه نافع : أن ابنة أخ لصفية بنت أبي عبيد نفست بالمزدلفة ، فتخلفت هي وصفية ، حتى أتتا من بعد أن غربت الشمس من يوم النحر ، فأمرهما عبد الله بن عمر : أن ترميا ، ولم ير عليهما شيئا . انتهى منه . وهو دليل على أن يرى أن رميها في الليل أداء لمن كان له عذر [ ص: 454 ] ابن عمر كصفية ، وابنة أخيها . وممن قال يرميها ليلا : مالك ، وأصحابه ; لأن مذهبه قضاء الرمي الفائت في الليل وغيره .
وفي الموطإ قال يحيى : سئل مالك عمن منى حتى يمسي ؟ قال : ليرم أية ساعة ذكر من ليل أو نهار ، كما يصلي الصلاة ، إذا نسيها ، ثم ذكرها ليلا أو نهارا ، فإن كان ذلك بعد ما صدر ، وهو نسي جمرة من الجمار في بعض أيام بمكة ، أو بعد ما يخرج منها فعليه الهدي انتهى من الموطإ .
وقال الشيخ المواق في شرحه : لمختصر خليل بن إسحاق المالكي في الكلام على قوله : والليل قضاء ، قال . للرمي وقت أداء ، ووقت قضاء ، ووقت فوات ، فوقت الأداء : في يوم النحر من طلوع الفجر إلى غروب الشمس قال : وتردد ابن شاس الباجي في الليلة التي تلي يوم النحر هل هي وقت أداء ، أو وقت قضاء ؟ ووقت الأداء في كل يوم من الأيام الثلاثة من بعد الزوال إلى مغيب الشمس ، وتردد في الليل كما تقدم انتهى منه .
وقال الشيخ شهاب الدين أحمد الشلبي في حاشيته على تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي : ولو أخر الرمي إلى الليل رماها ولا شيء عليه ; لأن الليل تبع لليوم في مثل هذا ، كما في الوقوف بعرفة ، فإن أخره إلى الغد رماه وعليه دم ، انتهى كرماني ، انتهى منه .
وقال بعض أهل العلم : إن العقبة ، لم يرمها في الليل ، ولكن يؤخر رميها حتى تزول الشمس من الغد ، قال غربت الشمس من يوم النحر ، وهو لم يرم جمرة في المغني : فإن أخرها إلى الليل ، لم يرمها ، حتى تزول الشمس من الغد وبهذا قال ابن قدامة أبو حنيفة ، وإسحاق ، وقال ، الشافعي ومحمد بن المنذر ، ويعقوب : يرميها ليلا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " " ، انتهى من المغني . ارم ولا حرج
فإذا عرفت أقوال أهل العلم في الرمي ليلا هل يجوز أو لا ؟ وعلى جوازه هل هو أداء أو قضاء ؟
فاعلم أن من قال بجواز الرمي ليلا ، استدل بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : ، قال من أنه لا حرج على من رمى بعد ما أمسى في صحيحه : حدثنا البخاري علي بن عبد الله ، حدثنا ، حدثنا يزيد بن زريع خالد ، عن عكرمة ، عن رضي الله عنهما قال : ابن عباس بمنى فيقول : " لا حرج ، فسأله رجل فقال : حلقت قبل أن أذبح ؟ قال : [ ص: 455 ] اذبح ولا حرج ، وقال : رميت بعد ما أمسيت ؟ فقال : لا حرج " ، قالوا : قد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن من رمى بعد ما أمسى لا حرج عليه ، واسم المساء يصدق بجزء من الليل . كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر
واعلم أن من قالوا : لا يجوز الرمي ليلا ردوا الاستدلال بهذا الحديث قائلين : إن مراد السائل بقوله بعد ما أمسيت يعني به بعد زوال الشمس في آخر النهار قبل الليل قالوا : والدليل الواضح على ذلك : أن حديث المذكور فيه : كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يسأل يوم النحر ابن عباس بمنى ، الحديث ، فتصريحه بقوله يوم النحر يدل على أن السؤال وقع في النهار والرمي بعد الإمساء وقع في النهار ; لأن المساء يطلق لغة على ما بعد وقت الظهر إلى الليل .
قال ابن حجر في فتح الباري في شرح الحديث المذكور : قال : رميت بعد ما أمسيت ؛ أي : بعد دخول المساء وهو يطلق على ما بعد الزوال إلى أن يشتد الظلام ، فلم يتعين لكون الرمي المذكور كان بالليل انتهى منه .
وقال ابن منظور في لسان العرب : المساء بعد الظهر إلى صلاة المغرب ، وقال بعضهم : إلى نصف الليل ا هـ .
قالوا : فالحديث صريح في أن المراد بالإمساء فيه آخر النهار بعد الزوال لا الليل ، وإذا فلا حجة فيه للرمي ليلا ، وأجاب القائلون : بجواز الرمي ليلا عن هذا بأجوبة .
الأول منها : أن قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا حرج " بعد قول السائل : رميت بعد ما أمسيت يشمل لفظه نفي الحرج ، عمن رمى بعد ما أمسى وخصوص سببه بالنهار لا عبرة به لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ، ولفظ المساء عام لجزء من النهار وجزء من الليل ، وسبب ورود الحديث المذكور خاص بالنهار ، وقد قدمنا الأدلة الصحيحة على أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .
الجواب الثاني : أنه ثبت في بعض روايات حديث المذكور ما هو أعم من يوم النحر ، وهو صادق قطعا ، بحسب الوضع اللغوي ببعض أيام التشريق ، ومعلوم أن الرمي فيها لا يكون إلا بعد الزوال فقول السائل في بعض أيام التشريق : رميت بعد ما أمسيت لا ينصرف إلا إلى الليل ; لأن الرمي فيها بعد الزوال معلوم فلا يسأل عنه صحابي . ابن عباس
قال في سننه أخبرنا أبو عبد الرحمن النسائي محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : [ ص: 456 ] حدثنا يزيد ، هو قال : حدثنا ابن زريع خالد ، عن عكرمة ، عن قال : ابن عباس منى فيقول : " لا حرج " ، فسأله رجل فقال : حلقت قبل أن أذبح ؟ قال : " لا حرج " ، فقال رجل : رميت بعد ما أمسيت ؟ قال : " لا حرج " انتهى منه ، وهذا الحديث صحيح الإسناد كما ترى ; لأن طبقته الأولى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أيام محمد بن عبد الله بن بزيع ، وهو ثقة معروف ، وهو من رجال مسلم في صحيحه ، وبقية إسناده هي بعينها إسناد الذي ذكرناه آنفا ، وقوله في هذا الحديث الصحيح : " أيام البخاري منى " بصيغة الجمع صادق بأكثر من يوم واحد ، فهو صادق بحسب وضع اللغة ببعض أيام التشريق ، والسؤال عن الرمي بعد المساء فيها لا ينصرف إلا إلى الليل كما بينا .
فإن قيل : صيغة الجمع في رواية النسائي تخصص بيوم النحر الوارد في رواية ، فيحمل ذلك الجمع على المفرد نظرا لتخصيصه به ، ويؤيد ذلك : أن في رواية البخاري أبي داود ، لحديث وابن ماجه المذكور يوم ابن عباس منى بالإفراد .
فالجواب : أن المقرر في الأصول أن ذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه على مذهب الجمهور خلافا لأبي ثور . سواء كان العام ، وبعض أفراده المذكور بحكمه في نص واحد أو نصين .
فمثال كونهما في نص واحد قوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى [ 2 \ 238 ] فلا يخصص عموم الأمر بالمحافظة على جميع الصلوات بالصلاة الوسطى بل المحافظة على جميعها واجبة .
ومثال كونهما في نصين : حديث العام في ابن عباس : " جلود الميتة " مع حديثه الآخر أنه تصدق على مولاة أيما إهاب دبغ فقد طهر لميمونة بشاة فماتت فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " " الحديث ، فذكر جلد الشاة في هذا الحديث الأخير لا يخصص عموم الجلود المذكورة : " هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به " الحديث ، فجواز الانتفاع عام في جلد الشاة ، وفي غيرها من الأهب إلا ما أخرجه دليل خاص ; لأن ذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه ، وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله عاطفا على ما لا يخصص به العموم : أيما إهاب دبغ
وذكر ما وافقه من مفرد ومذهب الراوي على المعتمد
وللمخالفين القائلين : لا يجوز الرمي ليلا أن يردوا هذا الاستدلال فيقولوا رواية [ ص: 457 ] العامة في أيام النسائي منى فيها أنه كان يسأل فيها فيقول : " لا حرج " وأنه سأله رجل فقال : رميت بعد ما أمسيت فقال " لا حرج " ، ولم يعين اليوم الذي قال فيه : رميت بعد ما أمسيت وعموم أيام منى صادق بيوم النحر وقد بينت رواية أن ذلك السؤال وقع في خصوص يوم النحر من أيام البخاري منى ، ولا ينافي ذلك أنه قال : لا حرج في أشياء أخر في بقية أيام منى ، وغاية ذلك أن أيام منى عام ورواية عينت اليوم الذي قال فيه رميت بعد ما أمسيت . البخاري
الجواب الثالث : هو ما قدمنا في الموطأ عن من : أنه أمر زوجته ابن عمر صفية بنت أبي عبيد ، وابنة أخيها ، برمي الجمرة بعد الغروب ، ورأى أنهما لا شيء عليهما في ذلك ، وذلك يدل على أنه علم من النبي صلى الله عليه وسلم أن الرمي ليلا جائز ، وقد يقال : إن صفية وابنة أخيها كان لهما عذر ، لأن ابنة أخيها عذرها النفاس ليلة المزدلفة وهي عذرها معاونة ابنة أخيها ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع السابع : اعلم أنه لا بأس المزدلفة : أعني السبع التي ترمى بها جمرة بلقط الحصيات من العقبة يوم النحر ، وبعض أهل العلم يقول : إن لقطها من المزدلفة مستحب ، واستدلوا لذلك بأمرين :
الأول : رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له غداة يوم النحر : " القط لي حصى " فلقطت له حصيات مثل حصى الخذف الفضل بن العباس ، قال حديث النووي في شرح المهذب : وأما حديث في لقط الحصيات فصحيح رواه الفضل بن عباس البيهقي بإسناد حسن ، أو صحيح ، وهو على شرط مسلم من رواية ، عن أخيه عبد الله بن عباس ، ورواه الفضل بن عباس ، النسائي بإسنادين صحيحين ، إسناد وابن ماجه على شرط النسائي مسلم ، لكنهما روياه من رواية مطلقا ، وظاهر روايتيهما أنه ابن عباس ، لا عبد الله بن عباس الفضل ، وكذا ذكره الحافظ في الأطراف في مسند أبو القاسم بن عساكر ، لا عبد الله بن عباس ، ولم يذكره في مسند الفضل بن عباس الفضل ، والجميع صحيح كما ذكرناه ، فيكون وصله في رواية ابن عباس البيهقي وأرسله في روايتي ، النسائي ، وهو مرسل صحابي وهو حجة لو لم يعرف المرسل عنه فأولى بالاحتجاج ، وقد عرف هنا أنه وابن ماجه الفضل بن عباس .
فالحاصل : أن الحديث صحيح من رواية والله أعلم ، انتهى كلام الفضل بن عباس النووي .
الأمر الثاني : أن السنة أنه إذا أتى منى لا يشتغل بشيء قبل الرمي ، فاستحب أن يأخذ [ ص: 458 ] الحصى من منزله بمزدلفة ليلا يشتغل عن الرمي بلقطه إذا أتى منى ، ولا شك أنه إن أخذ الحصى من غير المزدلفة أنه يجزئه ; لأن اسم الحصى يقع عليه ، والله تعالى أعلم .
الفرع الثامن : اعلم أن السنة أن يكون مثل حصى الخذف ; لأحاديث واردة بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي حديث الحصى الذي يرمي به جابر الطويل في صحيح مسلم : فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف الحديث .
قال في اللسان : والخذف رميك بحصاة ، أو نواة تأخذها بين سبابتيك ، وقال الجوهري في صحاحه : الخذف بالحصى الرمي به بالأصابع ، ومنه قول الشاعر : " خذف أعسرا " ا هـ منه ، والشاعر امرؤ القيس وتمام البيت :
كأن الحصى من خلفها وأمامها إذا نجلته رجلها خذف أعسرا
الفرع التاسع : اعلم أن جمهور العلماء على أن العقبة واجب يجبر بدم ، وخالف رمي جمرة من أصحاب عبد الملك بن الماجشون مالك الجمهور فقال : هو ركن واحتج الجمهور بالقياس على الرمي في أيام التشريق واحتج : بأن النبي صلى الله عليه وسلم رماها ، وقال " ابن الماجشون " ، كما في صحيح لتأخذوا عني مناسككم مسلم ، وفي رواية البيهقي " " ، وفي رواية خذوا عني مناسككم أبي داود : " " . لتأخذوا مناسككم
الفرع العاشر : أجمع العلماء على أنه لا يرمى من الجمرات يوم النحر إلا جمرة العقبة .
الفرع الحادي عشر : اعلم أن العقبة أن يقف في بطن الوادي ، وتكون الأفضل في موقف من أراد رمي جمرة منى عن يمينه ، ومكة عن يساره كما دلت الأحاديث الصحيحة ، على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك .
قال النووي في شرح المهذب : وبهذا قال جمهور العلماء ، منهم ، ابن مسعود وجابر ، ، والقاسم بن محمد وسالم ، وعطاء ، ونافع ، ، والثوري ومالك وأحمد ، قال ابن المنذر : وروينا أن عمر رضي الله عنه خاف الزحام فرماها من فوقها .