سورة المائدة
هذه السورة سميت في كتب التفسير ، وكتب السنة ، بسورة المائدة : لأن فيها قصة المائدة التي أرسلها الحواريون من عيسى عليه السلام ، وقد اختصت بذكرها . وفي مسند وغيره وقعت تسميتها سورة المائدة في كلام أحمد بن حنبل عبد الله بن عمر ، وعائشة أم المؤمنين ، وغيرهم . فهذا أشهر أسمائها . وأسماء بنت يزيد ،
وتسمى أيضا سورة العقود : إذ وقع هذا اللفظ في أولها .
وتسمى أيضا المنقذة . ففي أحكام ابن الفرس : روي عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال : سورة المائدة تدعى في ملكوت السماوات المنقذة . قال : أي أنها تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب .
وفي كتاب كنايات الأدباء لأحمد الجرجاني يقال : فلان لا يقرأ سورة الأخيار ، أي لا يفي بالعهد ، وذلك أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يسمون سورة المائدة سورة الأخيار . قال جرير :
إن البعيث وعبد آل متاعس لا يقرآن بسورة الأخـيار
وهي مدنية باتفاق ، روي أنها نزلت منصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحديبية ، بعد سورة الممتحنة ، فيكون نزولها بعد الحديبية بمدة ، لأن سورة الممتحنة نزلت بعد رجوع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة من صلح الحديبية ، وقد جاءته المؤمنات مهاجرات ، وطلب منه المشركون إرجاعهن إليهم عملا بشروط الصلح ، فأذن الله للمؤمنين بعدم إرجاعهن بعد امتحانهن .روى عن ابن أبي حاتم مقاتل أن آية يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد إلى ( عذاب أليم ) نزلت عام الحديبية فلعل ذلك [ ص: 70 ] الباعث للذين قالوا : إن الحديبية . وليس وجود تلك الآية في هذه السورة بمقتض أن يكون ابتداء نزول السورة سابقا على نزول الآية إذ قد تلحق الآية بسورة نزلت متأخرة عنها . سورة العقود نزلت عام
وفي الإتقان : إنها نزلت قبل سورة النساء ، ولكن صح أن آية اليوم أكملت لكم دينكم نزلت يوم عرفة في عام حجة الوداع . ولذلك اختلفوا في أن هذه السورة نزلت متتابعة أو متفرقة ، ولا ينبغي التردد في أنها نزلت منجمة .
وقد روي عن عبد الله بن عمرو وعائشة أنها آخر سورة نزلت ، وقد قيل : إنها نزلت بعد النساء ، وما نزل بعدها إلا سورة ( براءة ) ، بناء على أن ( براءة ) آخر سورة نزلت ، وهو قول في صحيح البراء بن عازب . البخاري
وفي مسند أحمد عن ، عبد الله بن عمرو : أنها نزلت ورسول الله في سفر ، وهو على ناقته العضباء ، وأنها نزلت عليه كلها . قال وأسماء بنت يزيد : نزلت سورة المائدة في مسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حجة الوداع . الربيع بن أنس
وفي شعب الإيمان ، عن : أنها نزلت أسماء بنت يزيد بمنى .
وعن : أنها نزلت في حجة الوداع بين محمد بن كعب مكة والمدينة .
وعن : نزلت مرجع رسول الله من حجة الوداع في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة . وضعف هذا الحديث . أبي هريرة
وقد قيل : إن قوله تعالى ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أنزل يوم فتح مكة .
ومن الناس من روى عن : أن سورة المائدة نزلت عمر بن الخطاب بالمدينة في يوم اثنين .
وهنالك روايات كثيرة أنها نزلت عام حجة الوداع ; فيكون ابتداء نزولها بالمدينة قبل الخروج إلى حجة الوداع .
وقد روي عن مجاهد : أنه قال : اليوم يئس الذين كفروا من دينكم إلى [ ص: 71 ] ( غفور رحيم ) نزل يوم فتح مكة . ومثله عن الضحاك ، فيقتضي قولهما أن تكون هذه السورة نزلت في فتح مكة وما بعده .
وعن : أن أول ما نزل من هذه السورة قوله تعالى محمد بن كعب القرظي يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب إلى قوله صراط مستقيم ثم نزلت بقية السورة في عرفة في حجة الوداع .
ويظهر عندي أن هذه السورة نزل بعضها بعد بعض سورة النساء ، وفي ذلك ما يدل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استقام له أمر العرب وأمر المنافقين ولم يبق في عناد الإسلام إلا اليهود والنصارى . أما اليهود فلأنهم مختلطون بالمسلمين في المدينة وما حولها ، وأما النصارى فلأن فتوح الإسلام قد بلغت تخوم ملكهم في حدود الشام . وفي حديث عمر في صحيح : وكان من حول رسول الله قد استقام له ولم يبق إلا ملك غسان البخاري بالشام كنا نخاف أن يأتينا .
وقد امتازت هذه السورة النصارى ، واختصار المجادلة مع اليهود ، عما في سورة النساء . مما يدل على أن أمر باتساع نطاق المجادلة مع اليهود أخذ في تراجع ووهن ، وأن الاختلاط مع النصارى أصبح أشد منه من ذي قبل .
وفي سورة النساء تحريم السكر عند الصلوات خاصة ، وفي سورة المائدة تحريمه بتاتا ، فهذا متأخر عن بعض سورة النساء لا محالة . وليس يلزم أن لا تنزل سورة حتى ينتهي نزول أخرى بل يجوز أن تنزل سورتان في مدة واحدة .
وهي ، أيضا ، متأخرة عن سورة ( براءة ) : لأن ( براءة ) تشتمل على كثير من أحوال المنافقين وسورة المائدة لا تذكر من أحوالهم إلا مرة ، وذلك [ ص: 72 ] يؤذن بأن النفاق حين نزولها قد انقطع ، أو خضدت شوكة أصحابه . وإذ قد كانت سورة ( براءة ) نزلت في عام حج أبي بكر بالناس ، أعني سنة تسع من الهجرة .
فلا جرم أن بعض سورة المائدة نزلت في عام حجة الوداع ، وحسبك دليلا اشتمالها على آية اليوم أكملت لكم دينكم التي اتفق أهل الأثر على أنها نزلت يوم عرفة ، عام حجة الوداع ، كما في خبر عن . وفي سورة المائدة قوله تعالى عمر بن الخطاب اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم . وفي خطبة حجة الوداع يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : . إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي بما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم
وقد عدت السورة الحادية والتسعين في عدد السور على ترتيب النزول . عن نزلت بعد سورة الأحزاب وقبل سورة الممتحنة . جابر بن زيد ،
وعدد آيها : مائة واثنتان وعشرون في عدد الجمهور ، ومائة وثلاث وعشرون في عد البصريين ، ومائة وعشرون عند الكوفيين .
وجعلت هذه السورة في المصحف قبل سورة الأنعام مع أن سورة الأنعام أكثر منها عدد آيات : لعل ذلك لمراعاة اشتمال هذه السورة على أغراض تشبه ما اشتملت عليه سورة النساء عونا على تبيين إحداهما للأخرى في تلك الأغراض .
وقد احتوت هذه السورة على تشريعات كثيرة تنبئ بأنها أنزلت لاستكمال شرائع الإسلام ، ولذلك افتتحت بالوصاية بالوفاء بالعقود ، أي بما عاقدوا الله عليه حين دخولهم في الإسلام من التزام ما يؤمرون به ، في الصحيح جابر بن عبد الله . وأخذ [ ص: 73 ] البيعة على الناس بما في سورة الممتحنة ، كما روى فقد كان النبيء - صلى الله عليه وسلم - يأخذ البيعة على الصلاة والزكاة والنصح لكل مسلم ، كما في حديث . ووقع في أولها قوله تعالى عبادة بن الصامت إن الله يحكم ما يريد . فكانت طالعتها براعة استهلال .
وذكر القرطبي ، وهي سبع في قوله أن فيها تسع عشرة فريضة ليست في غيرها والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ، وما علمتم من الجوارح مكلبين ، وطعام الذين أوتوا الكتاب ، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ، وتمام الطهور إذا قمتم إلى الصلاة ، ( أي إتمام ما لم يذكر في سورة النساء ) والسارق والسارقة . لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم إلى قوله عزيز ذو انتقام ، و ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ، وقوله تعالى شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت الآية وقوله ( وإذا ناديتم إلى الصلاة ) ليس في القرآن ذكر للأذان للصلوات إلا في هذه السورة . اهـ .
وقد احتوت على تمييز الحلال من الحرام في المأكولات ، وعلى حفظ شعائر الله في الحج والشهر الحرام ، والنهي عن بعض المحرمات من عوائد الجاهلية مثل الأزلام ، وفيها شرائع الوضوء ، والغسل ، والتيمم ، والأمر بالعدل في الحكم ، والأمر بالصدق في الشهادة ، وأحكام القصاص في الأنفس والأعضاء ، وأحكام الحرابة ، وتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن نفاق المنافقين ، وتحريم الخمر والميسر ، والأيمان وكفارتها ، والحكم بين أهل الكتاب ، وأصول المعاملة بين المسلمين ، وبين أهل الكتاب ، وبين المشركين والمنافقين ، والخشية من ولايتهم أن تفضي إلى ارتداد المسلم عن دينه ، وإبطال العقائد الضالة لأهل الكتابين ، وذكر مساو من أعمال اليهود ، وإنصاف النصارى فيما لهم من حسن الأدب وأنهم أرجى للإسلام وذكر قضية التيه ، وأحوال المنافقين ، والأمر بتخلق المسلمين بما يناقض أخلاق الضالين في تحريم ما أحل لهم ، والتنويه بالكعبة وفضائلها وبركاتها على الناس ، وما تخلل ذلك أو تقدمه من العبر ، والتذكير للمسلمين بنعم الله تعالى ، والتعريض بما وقع فيه أهل الكتاب من نبذ ما أمروا به والتهاون فيه ، واستدعاؤهم للإيمان بالرسول الموعود به .
[ ص: 74 ] وختمت بالتذكير بيوم القيامة ، وشهادة الرسل على أممهم ، وشهادة عيسى على النصارى ، وتمجيد الله تعالى .