افتتاح الكلام بالاستفهام عن تساؤل جماعة عن نبأ عظيم افتتاح تشويق ثم تهويل لما سيذكر بعده ، فهو من الفواتح البديعة لما فيها من أسلوب عزيز غير مألوف ، ومن تشويق بطريقة الإجمال ثم التفصيل المحصلة لتمكن الخبر الآتي بعده في نفس السامع أكمل تمكن .
وإذا كان هذا الافتتاح مؤذنا بعظيم أمر كان مؤذنا بالتصدي لقول فصل فيه ، ولما كان في ذلك إشعار بأهم ما فيه خوضهم يومئذ يجعل افتتاح الكلام به من براعة الاستهلال .
[ ص: 7 ] ولفظ ( عم ) مركب من كلمتين هما : حرف ( عن ) الجار ، و ( ما ) التي هي اسم استفهام بمعنى : أي شيء ، ويتعلق ( عم ) بفعل ( يتساءلون ) فهذا مركب . وأصل ترتيبه : يتساءلون عن ما ؛ فقدم اسم الاستفهام لأنه لا يقع إلا في صدر الكلام المستفهم به ، وإذ قد كان اسم الاستفهام مقترنا بحرف الجر الذي تعدى به الفعل إلى اسم الاستفهام وكان الحرف لا ينفصل عن مجروره ؛ قدما معا فصار : ( عما يتساءلون ) .
وقد جرى الاستعمال الفصيح على أن ( ما ) الاستفهامية إذا دخل عليها حرف الجر يحذف الألف المختومة هي به تفرقة بينها وبين ( ما ) الموصولة .
وعلى ذلك جرى استعمال نطقهم ، فلما كتبوا المصاحف جروا على تلك التفرقة في النطق ، فكتبوا ( ما ) الاستفهامية بدون ألف حيثما وقعت ، مثل قوله تعالى : فيم أنت من ذكراها فبم تبشرون لم أذنت لهم عم يتساءلون مم خلق ، فلذلك لم يقرأها أحد بإثبات الألف إلا في الشاذ .
ولما بقيت كلمة ( ما ) بعد حذف ألفها على حرف واحد ، جروا في رسم المصحف على أن ميمها الباقية تكتب متصلة بحرف ( عن ) ; لأن ( ما ) لما حذف ألفها بقيت على حرف واحد فأشبه حروف التهجي ، فلما كان حرف الجر الذي قبل ( ما ) مختوما بنون والتقت النون مع ميم ( ما ) ، والعرب ينطقون بالنون الساكنة التي بعدها ميم ميما ويدغمونها فيها ، فلما حذفت النون في النطق جرى رسمهم على كتابة الكلمة محذوفة النون تبعا للنطق ، ونظيره قوله تعالى : مم خلق وهو اصطلاح حسن .
والتساؤل : تفاعل ، وحقيقة صيغة التفاعل تفيد صدور معنى المادة المشتقة منها من الفاعل إلى المفعول ، وصدور مثله من المفعول إلى الفاعل ، وترد كثيرا لإفادة تكرر وقوع ما اشتقت منه ، نحو قولهم : ساءل ، بمعنى سأل ، قال النابغة :
أسائل عن سعدى وقد مر بعدنا على عرصات الدار سبع كوامل
وقال رويشد بن كثير الطائي :
يا أيها الراكب المزجي مطيته سائل بني أسد ما هذه الصوت
[ ص: 8 ] وتجيء لإفادة قوة صدور الفعل من الفاعل ، نحو قولهم : عافاك الله ، وذلك إما كناية أو مجاز ، ومحمله في الآية على جواز الاحتمالات الثلاثة ، وذلك من إرادة المعنى الكنائي مع المعنى الصريح ، أو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، وكلا الاعتبارين صحيح في الكلام البليغ فلا وجه لمنعه .
فيجوز أن تكون مستعملة في حقيقتها بأن يسأل بعضهم بعضا سؤال متطلع للعلم ; لأنهم حينئذ لم يزالوا في شك من صحة ما أنبئوا به ، ثم استقر أمرهم على الإنكار .
ويجوز أن تكون مستعملة في المجاز الصوري ؛ يتظاهرون بالسؤال وهم موقنون بانتفاء وقوع ما يتساءلون عنه ، على طريقة استعمال فعل " يحذر " في قوله تعالى : يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة فيكونون قصدوا بالسؤال الاستهزاء .
وذهب المفسرون فريقين في كلتا الطريقتين ، يرجح كل فريق ما ذهب إليه ، والوجه حمل الآية على كلتيهما ; لأن المشركين كانوا متفاوتين في التكذيب ، فعن : لما نزل القرآن كانت ابن عباس قريش يتحدثون فيما بينهم ؛ فمنهم مصدق ومنهم مكذب .
وعن الحسن ، وقتادة مثل قول وقيل : هو سؤال استهزاء أو تعجب ، وإنما هم موقنون بالتكذيب . ابن عباس ،
فأما التساؤل الحقيقي فأن يسأل أحد منهم غيره عن بعض أحوال هذا النبأ ، فيسأل المسؤول سائله سؤالا عن حال آخر من أحوال النبأ ؛ إذ يخطر لكل واحد في ذلك خاطر غير الذي خطر للآخر ، فيسأل سؤال مستثبت ، أو سؤال كشف عن معتقده ، أو ما يوصف به المخبر بهذا النبأ ، كما قال بعضهم لبعض أفترى على الله كذبا أم به جنة وقال بعض آخر : أإذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون إلى قوله : إن هذا إلا أساطير الأولين .
وأما التساؤل الصوري فأن يسأل بعضهم بعضا عن هذا الخبر سؤال تهكم واستهزاء ، فيقول أحدهم : هل بلغك خبر البعث ؟ ويقول له الآخر : هل سمعت ما [ ص: 9 ] قال ؟ فإطلاق لفظ التساؤل حقيقي ; لأنه موضوع لمثل تلك المساءلة ، وقصدهم منه غير حقيقي بل تهكمي .
والاستفهام بما في قوله : عم يتساءلون ليس استفهاما حقيقيا ، بل هو مستعمل في التشويق إلى تلقي الخبر نحو قوله تعالى : هل أنبئكم على من تنزل الشياطين .
والموجه إليه الاستفهام من قبيل خطاب غير المعين .
وضمير ( يتساءلون ) يجوز أن يكون ضمير جماعة الغائبين مرادا به المشركون ولم يسبق لهم ذكر في هذا الكلام ، ولكن ذكرهم متكرر في القرآن فصاروا معروفين بالقصد من بعض ضمائره وإشاراته المبهمة ، كالضمير في قوله تعالى : حتى توارت بالحجاب ( يعني : الشمس ) ، كلا إذا بلغت التراقي ( يعني : الروح ) ، فإن جعلت الكلام من باب الالتفات ، فالضمير ضمير جماعة المخاطبين .
ولما كان الاستفهام مستعملا في غير طلب الفهم حسن تعقيبه بالجواب عنه بقوله : عن النبإ العظيم فجوابه مستعمل بيانا لما أريد بالاستفهام من الإجمال لقصد التفخيم ؛ فبين جانب التفخيم ، ونظيره قوله تعالى : هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم فكأنه قيل : هم يتساءلون عن النبأ العظيم ، ومنه قول : حسان بن ثابت
لمن الدار أقفرت بمعان بين أعلى اليرموك والصمان
ذاك مغنى لآل جفنة في الدهر وحق تقلب الأزمان
والنبأ : الخبر ، قيل : مطلقا فيكون مرادفا للفظ الخبر ، وهو الذي جرى عليه إطلاق القاموس والصحاح واللسان .
وقال الراغب : " النبأ الخبر ذو الفائدة العظيمة ، يحصل به علم أو غلبة ظن ، ولا يقال للخبر نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة ويكون صادقا " اهـ . وهذا فرق حسن ، ولا أحسب البلغاء جروا إلا على نحو ما قال الراغب ، فلا يقال للخبر عن الأمور المعتادة نبأ ، وذلك ما تدل عليه موارد استعمال لفظ النبأ في كلام البلغاء ، وأحسب أن الذين أطلقوا مرادفة النبأ للخبر راعوا ما يقع في بعض كلام الناس من [ ص: 10 ] تسامح بإطلاق النبأ بمعنى مطلق الخبر لضرب من التأويل أو المجاز المرسل بالإطلاق والتقييد ، فكثر ذلك في الكلام كثرة عسر معها تحديد مواقع الكلمتين ، ولكن أبلغ الكلام لا يليق تخريجه إلا على أدق مواقع الاستعمال . وتقدم عند قوله تعالى : ولقد جاءك من نبأ المرسلين في سورة الأنعام وقوله : قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون .
والعظيم حقيقته : كبير الجسم ويستعار للأمر المهم ; لأن أهمية المعنى تتخيل بكبر الجسم في أنها تقع عند مدكرها ، كمرأى الجسم الكبير في مرأى العين ، وشاعت هذه الاستعارة حتى ساوت الحقيقة .
ووصف النبأ بالعظيم هنا زيادة في التنويه به ; لأن كونه واردا من عالم الغيب زاده عظم أوصاف وأهوال ، فوصف النبأ بالعظيم باعتبار ما وصف فيه من أحوال البعث فيما نزل من آيات القرآن قبل هذا ، ونظيره قوله تعالى : قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون في سورة " ص " .
والتعريف في ( النبأ ) تعريف الجنس فيشمل كل نبأ عظيم أنبأهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - به ، وأول ذلك إنباؤه بأن ، وما تضمنه القرآن من إبطال الشرك ، ومن القرآن كلام الله ، فما يروى عن بعض السلف من تعيين نبأ خاص يحمل على التمثيل ؛ فعن إثبات بعث الناس يوم القيامة : هو القرآن ، وعن ابن عباس مجاهد ، وقتادة : هو البعث يوم القيامة .
وسوق الاستدلال بقوله : ألم نجعل الأرض مهادا إلى قوله : وجنات ألفافا يدل دلالة بينة على أن المراد من ( النبأ العظيم ) الإنباء بأن الله واحد لا شريك له .
وضمير هم فيه مختلفون يجري فيه الوجهان المتقدمان في قوله : يتساءلون واختلافهم في النبأ اختلافهم فيما يصفونه به ، كقول بعضهم : إن هذا إلا أساطير الأولين وقول بعضهم : هذا كلام مجنون ، وقول بعضهم : هذا كذب ، وبعضهم : هذا سحر ، وهم أيضا مختلفون في مراتب إنكاره ؛ فمنهم من يقطع بإنكار البعث ، مثل الذين حكى الله عنهم بقوله : [ ص: 11 ] وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذبا أم به جنة ، ومنهم من يشكون فيه ، كالذين حكى الله عنهم بقوله : قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين على أحد التفسيرين .
وجيء بالجملة الاسمية في صلة الموصول دون أن يقول : الذي يختلفون فيه أو نحو ذلك ، لتفيد الجملة الاسمية أن الاختلاف في أمر هذا النبأ متمكن منهم ودائم فيهم ، لدلالة الجملة الاسمية على الدوام والثبات .
وتقديم ( عنه ) على ( معرضون ) للاهتمام بالمجرور ، وللإشعار بأن الاختلاف ما كان من حقه أن يتعلق به ، مع ما في التقديم من الرعاية على الفاصلة .