تنبيهات :
الأول : قال الحافظ : قوله : ما قال : «لا» ليس المراد أنه يعطي ما طلب منه جزما ، بل المراد أنه لا ينطق بالرد بلا ، إن كان عنده أعطاه ، إن كان إلا إعطاء سابغا ، وإلا سكت .
قال :
[ ص: 54 ] وقد روينا بيان ذلك في حديث مرسل
لابن الحنفية عند
ابن سعد ، ولفظه :
nindex.php?page=hadith&LINKID=842999إذا سئل فأراد أن يفعل قال : نعم ، وإن لم يرد أن يفعل سكت .
وقال الشيخ
عز الدين بن عبد السلام لم يقل : «لا» منعا للإعطاء ، ولا يلزم من ذلك أن يقولها اعتذارا ، كما في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=92لا أجد ما أحملكم عليه [التوبة : 92] ولا يخفى الفرق بين قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=92لا أجد ما أحملكم عليه وهو نظير ما في حديث
nindex.php?page=showalam&ids=110أبي موسى الأشعري nindex.php?page=hadith&LINKID=843001لما سأله الأشعريون الحملان فقال صلى الله عليه وسلم : «ما عندي ما أحملكم» .
لكن يشكل عليه أنه صلى الله عليه وسلم حلف لا يحملهم ، فقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=843002«والله لا أحملكم» فيمكن أن يخص من عموم حديث
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر ما إذا سئل ما ليس عنده ، والسائل يتحقق أنه ليس عنده ذاك ، حيث كان المقام لا يقتضي الاقتصار على السكوت من الحالة الواقعة ، أو من حال السائل كأن لم يعرف العادة ، فلو اقتصر على السكوت مع حاجة السائل تمادى في السؤال ، ويكون القسم على ذلك تأكيدا لقطع طمع السائل .
والسر في قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=843003«لا أجد ما أحملكم» وقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=843002«والله لا أحملكم» أن الأول لبيان أن الذي سأله لم يكن موجودا عنده ، والثاني أنه يتكلف الإجابة إلى ما سئل بالقرض مثلا ، أو بالاستيهاب؛ إذ لا اضطرار حينئذ .
الثاني :
قوله صلى الله عليه وسلم :
«فخصها فلانا» أفاد
المحب الطبري في كتاب الأحكام له أن الرجل السائل
nindex.php?page=showalam&ids=38عبد الرحمن بن عوف ، وعزاه
nindex.php?page=showalam&ids=14687للطبراني ، قال الحافظ : ولم أجد ذلك في معجمه الكبير ، لا في مسند
سهل ، ولا في
عبد الرحمن ، نعم رواه
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني ، وقال في آخره : قال
قتيبة هو
nindex.php?page=showalam&ids=37سعد بن أبي وقاص ، وقد يقال : تعددت القصة ، وفيه بعد .
الثالث :
قوله صلى الله عليه وسلم : «الأجود» أفعل تفضيل من جاد يجود جودا فهو جواد ، بتخفيف الواو ، وقوم جود ، وأجاود ، وأجواد . قال
النحاس : nindex.php?page=treesubj&link=19911_19932الجواد : الذي يتفضل على من يستحق ، ويعطي من لا يسأل ، ويعطي الكثير ، ولا يخاف الفقر ، من قولهم : مطر جواد إذا كان كثيرا ، وفرس جواد يعدو كثيرا ، قبل أن يطلب منه ، ثم قيل : هو مرادف للسخاء ، والأصح أن السخاء أدنى منه؛ ولذا يوصف الله تعالى به ، والسخي اللين عند الحاجات ، من أرض سخاوية : لينة التراب ، قال
الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى : قال القوم : من أعطى البعض فهو سخي ، ومن أعطى الأدنى وأبقى لنفسه شيئا فهو جواد ، ومن قاسى الضر ، وآثر غيره بالبلغة فهو مؤثر .
وقال
السهروردي في عوارفه : السخاء صفة غريزية ، وفي مقابله الشح . والشح من لوازم صفة النفس ، قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=16ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [التغابن : 16] فحكم بالفلاح لمن وقي الشح ، وحكم بالفلاح أيضا لمن أنفق وبذل ، فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3ومما رزقناهم ينفقون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=5أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون [البقرة : 5] والفلاح اسم لسعادة الدارين ، وليس الشح من الآدمي بعجيب؛ لأنه جبلي فيه ، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة ، والسخاء أتم وأكمل من الجود . وفي مقابله البخل ، وفي مقابلة السخاء الشح ، والجود
[ ص: 55 ] والبخل يتطرق إليهما الاكتساب بطريق العادة ، بخلاف السخاء إذا كان ذلك من ضرورة الغريزة ، فكل سخي جواد ، وليس كل جواد سخيا ، والجود يتطرق إليه الرياء ، ويأتي به الإنسان متطلعا إلى غرض الخلق أو الحق ، بمقابلة من الثناء أو غيره من الخلق ، أو الثواب من الله تعالى ، ولا يتطرق الرياء من السخاء؛ لأنه يقع من النفس الزكية المرتفعة عن الأغراض .
تَنْبِيهَاتٌ :
الْأَوَّلُ : قَالَ الْحَافِظُ : قَوْلُهُ : مَا قَالَ : «لَا» لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُعْطِي مَا طُلِبَ مِنْهُ جَزْمًا ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَنْطِقُ بِالرَّدِّ بِلَا ، إِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَعْطَاهُ ، إِنْ كَانَ إِلَّا إِعْطَاءً سَابِغًا ، وَإِلَّا سَكَتَ .
قَالَ :
[ ص: 54 ] وَقَدْ رُوِّينَا بَيَانَ ذَلِكَ فِي حَدِيثٍ مُرْسَلٍ
لِابْنِ الْحَنَفِيَّةِ عِنْدَ
ابْنِ سَعْدٍ ، وَلَفْظُهُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=842999إِذَا سُئِلَ فَأَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ قَالَ : نَعَمْ ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَفْعَلَ سَكَتَ .
وَقَالَ الشَّيْخُ
عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ لَمْ يَقُلْ : «لَا» مَنْعًا لِلْإِعْطَاءِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَهَا اعْتِذَارًا ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=92لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ [التَّوْبَةِ : 92] وَلَا يَخْفَى الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=92لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا فِي حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=110أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ nindex.php?page=hadith&LINKID=843001لَمَّا سَأَلَهُ الْأَشْعَرِيُّونَ الْحِمْلَانَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «مَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ» .
لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَفَ لَا يَحْمِلُهُمْ ، فَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=843002«وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ» فَيُمْكِنُ أَنْ يُخَصَّ مِنْ عُمُومِ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=36جَابِرٍ مَا إِذَا سُئِلَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ ، وَالسَّائِلُ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ ذَاكَ ، حَيْثُ كَانَ الْمَقَامُ لَا يَقْتَضِي الِاقْتِصَارَ عَلَى السُّكُوتِ مِنَ الْحَالَةِ الْوَاقِعَةِ ، أَوْ مِنْ حَالِ السَّائِلِ كَأَنْ لَمْ يَعْرِفِ الْعَادَةَ ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى السُّكُوتِ مَعَ حَاجَةِ السَّائِلِ تَمَادَى فِي السُّؤَالِ ، وَيَكُونُ الْقَسَمُ عَلَى ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِقَطْعِ طَمَعِ السَّائِلِ .
وَالسِّرُّ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=843003«لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ» وَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=843002«وَاللَّهِ لَا أَحْمِلُكُمْ» أَنَّ الْأَوَّلَ لِبَيَانِ أَنَّ الَّذِي سَأَلَهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَهُ ، وَالثَّانِي أَنَّهُ يَتَكَلَّفُ الْإِجَابَةَ إِلَى مَا سُئِلَ بِالْقَرْضِ مَثَلًا ، أَوْ بِالِاسْتِيهَابِ؛ إِذْ لَا اضْطِرَارَ حِينَئِذٍ .
الثَّانِي :
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
«فَخَصَّهَا فُلَانًا» أَفَادَ
الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ لَهُ أَنَّ الرَّجُلَ السَّائِلَ
nindex.php?page=showalam&ids=38عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَعَزَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14687لِلطَّبَرَانِيِّ ، قَالَ الْحَافِظُ : وَلَمْ أَجِدْ ذَلِكَ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ ، لَا فِي مُسْنَدِ
سَهْلٍ ، وَلَا فِي
عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، نَعَمْ رَوَاهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطَّبَرَانِيُّ ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ : قَالَ
قُتَيْبَةُ هُوَ
nindex.php?page=showalam&ids=37سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَقَدْ يُقَالُ : تَعَدَّدَتِ الْقِصَّةُ ، وَفِيهِ بُعْدٌ .
الثَّالِثُ :
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «الْأَجْوَدُ» أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنْ جَادَ يَجُودُ جُودًا فَهُوَ جَوَادٌ ، بِتَخْفِيفِ الْوَاوِ ، وَقَوْمٌ جُودٌ ، وَأَجَاوِدُ ، وَأَجْوَادٌ . قَالَ
النَّحَّاسُ : nindex.php?page=treesubj&link=19911_19932الْجَوَادُ : الَّذِي يَتَفَضَّلُ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ ، وَيُعْطِي مَنْ لَا يَسْأَلُ ، وَيُعْطِي الْكَثِيرَ ، وَلَا يَخَافُ الْفَقْرَ ، مِنْ قَوْلِهِمْ : مَطَرٌ جَوَادٌ إِذَا كَانَ كَثِيرًا ، وَفَرَسٌ جَوَادٌ يَعْدُو كَثِيرًا ، قَبْلَ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ ، ثُمَّ قِيلَ : هُوَ مُرَادِفٌ لِلسَّخَاءِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ السَّخَاءَ أَدْنَى مِنْهُ؛ وَلِذَا يُوصَفُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ، وَالسَّخِيُّ اللَّيِّنُ عِنْدَ الْحَاجَاتِ ، مِنْ أَرْضٍ سَخَاوِيَّةٍ : لَيِّنَةِ التُّرَابِ ، قَالَ
الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : قَالَ الْقَوْمُ : مَنْ أَعْطَى الْبَعْضَ فَهُوَ سَخِيٌّ ، وَمَنْ أَعْطَى الْأَدْنَى وَأَبْقَى لِنَفْسِهِ شَيْئًا فَهُوَ جَوَادٌ ، وَمَنْ قَاسَى الضُّرَّ ، وَآثَرَ غَيْرَهُ بِالْبُلْغَةِ فَهُوَ مُؤْثِرٌ .
وَقَالَ
السُّهْرَوَرْدِيُّ فِي عَوَارِفِهِ : السَّخَاءُ صِفَةٌ غَرِيزِيَّةٌ ، وَفِي مُقَابِلِهِ الشُّحُّ . وَالشُّحُّ مِنْ لَوَازِمِ صِفَةِ النَّفْسِ ، قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=64&ayano=16وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التَّغَابُنِ : 16] فَحَكَمَ بِالْفَلَاحِ لِمَنْ وُقِيَ الشُّحُّ ، وَحَكَمَ بِالْفَلَاحِ أَيْضًا لِمَنْ أَنْفَقَ وَبَذَلَ ، فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=3وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=5أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الْبَقَرَةِ : 5] وَالْفَلَاحُ اسْمٌ لِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ ، وَلَيْسَ الشُّحُّ مِنَ الْآدَمِيِّ بِعَجِيبٍ؛ لِأَنَّهُ جِبِلِّيٌّ فِيهِ ، وَإِنَّمَا الْعَجَبُ وُجُودُ السَّخَاءِ فِي الْغَرِيزَةِ ، وَالسَّخَاءُ أَتَمُّ وَأَكْمَلُ مِنَ الْجُودِ . وَفِي مُقَابِلِهِ الْبُخْلُ ، وَفِي مُقَابَلَةِ السَّخَاءِ الشُّحُّ ، وَالْجُودُ
[ ص: 55 ] وَالْبُخْلُ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِمَا الِاكْتِسَابُ بِطَرِيقِ الْعَادَةِ ، بِخِلَافِ السَّخَاءِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَةِ الْغَرِيزَةِ ، فَكُلُّ سَخِيٍّ جَوَادٌ ، وَلَيْسَ كُلُّ جَوَادٍ سَخِيًّا ، وَالْجُودُ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الرِّيَاءُ ، وَيَأْتِي بِهِ الْإِنْسَانُ مُتَطَلِّعًا إِلَى غَرَضِ الْخَلْقِ أَوِ الْحَقِّ ، بِمُقَابَلَةٍ مِنَ الثَّنَاءِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْخَلْقِ ، أَوِ الثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا يَتَطَرَّقُ الرِّيَاءُ مِنَ السَّخَاءِ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ مِنَ النَّفْسِ الزَّكِيَّةِ الْمُرْتَفِعَةِ عَنِ الْأَغْرَاضِ .