فصل
إذا تبين هذا، فأصل المحبة المحمودة التي أمر الله بها، وخلق خلقه لأجلها، هي محبته وحده لا شريك له، المتضمنة لعبادته دون عبادة ما سواه.
ولا يذوق طعم الإيمان إلا من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ولذا اتفقت دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم على عبادة الله وحده لا شريك له.
وأصل العبادة وتمامها، هو المحبة، وإفراد الرب سبحانه بها.
والمحبة نافعة وضارة، فالمحبة النافعة: هي التي تجلب لصاحبها ما ينفعه من السعادة والنعيم.
[ ص: 384 ] والمحبة الضارة: هي التي تجلب لصاحبها ما يضره من السقام والألم.
فالحي العالم الناصح لنفسه، لا يؤثر محبة ما يضره، ولا يقع له ذلك إلا من فساد تصوره ومعرفته، أو من فساد قصده وإرادته، فالأول جهل، والثاني ظلم.
والإنسان خلق في الأصل ظلوما جهولا، ولا ينفك عن الجهل والظلم إلا بأن يعلمه الله ما ينفعه، ويلهمه رشده.
فمن أراد به الخير، علمه ما ينفعه، فخرج به من الجهل، ونفعه بما علمه، فخرج به عن الظلم.
ومن لم يرد به خيرا، أبقاه على أصل الخلقة، كما في «المسند» من حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: عبد الله بن عمرو، «إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل».
والمقصود أن محبة الظلم والعدوان سيما فساد العلم، أو فساد القصد، أو فسادهما جميعا.
وقد قيل: إن فساد القصد من فساد العلم، وإلا فلو علم ما في الضار من المضرة ولوازمها حقيقة العلم، لما آثره؛ كمن علم من طعام أنه مسموم، فإنه لا يقدم عليه، ولو كان شهيا، فضعف علمه لما في الضار من وجوه المضرة، وضعف عزمه على اجتنابه، يوقعه في ارتكابه.
ولهذا كان الإيمان الحقيقي هو الذي يحمل صاحبه على فعل ما ينفعه، وترك ما يضره.
فإذا لم يفعل هذا، ولم يترك هذا، لم يكن إيمانه على الحقيقة، وإنما معه من الإيمان بحسب ذلك.
فإن المؤمن بالنار حقيقة الإيمان حتى كأنه يراها، لا يسلك طريقها الموصلة إليها، فضلا عن أن يسعى بجهده، والمؤمن بالجنة حقيقة الإيمان، لا تطاوعه نفسه أن يقعد عن طلبها.