nindex.php?page=treesubj&link=20473_25805 ( ولا بد ) أي لا فراق ( لمن طلب علما ) أي حاول أن يعرفه من ثلاثة أمور أحدها ( أن يتصوره بوجه ما ) أي بوجه من الإجمال ; لأن طلب الإنسان ما لا يتصوره محال ببديهة العقل ، وطلب ما يعرفه من جهة تفصيله محال أيضا ; لأنه تحصيل الحاصل . ( و ) الأمر الثاني : أن ( يعرف غايته ) لئلا يكون سعيه في طلبه عابثا . ( و ) الأمر الثالث : أن يعرف ( مادته ) أي ما يستمد ذلك العلم منه ; ليرجع في جزئياته إلى محلها .
وأصل هذه القاعدة : أن
nindex.php?page=treesubj&link=20473_25805كل معدوم يتوقف وجوده على أربع علل : " صورية " وهي التي تقوم بها صورته . فتصور المركب متوقف على تصور أركانه .
وانتظامها على الوجه المقصود " وغائية " وهي الباعثة على إيجاده . وهي الأولى في الفكر ، وإن كانت آخرا في الوجود الخارجي . ولهذا يقال : مبدأ العلم منتهى العمل . " ومادية " وهي التي تستمد منها المركبات ، أو ما في حكمها " وفاعلية " وهي المؤثرة في إيجاد ذلك . ثم اعلم أن لفظ "
nindex.php?page=treesubj&link=20473أصول الفقه " مركب من مضاف ومضاف إليه ، ثم صار لكثرة الاستعمال في عرف الأصوليين والفقهاء له معنى آخر ، وهو العلمية . فينبغي تعريفه من حيث معناه الإضافي ، وتعريفه من حيث كونه علما . فبعض المصنفين بدأ بتعريف كونه مركبا ، وبعضهم بدأ بتعريف كونه مضافا ، كما في المتن .
إذا علمت ذلك ( فأصول : جمع أصل ، وهو ) أي الأصل ( لغة ) أي في اللغة ( ما يبنى عليه ) أي على الأصل ( غيره ) قاله الأكثر . وقيل : أصل الشيء ما منه الشيء . وقيل : ما يتفرع عليه غيره . وقيل : منشأ الشيء . وقيل : ما يستند تحقق الشيء إليه ( و ) الأصل ( اصطلاحا ) أي في اصطلاح العلماء ( ما له فرع ) لأن الفرع لا ينشأ إلا عن أصل
nindex.php?page=treesubj&link=20473 ( ويطلق ) الأصل على أربعة أشياء الأول ( على الدليل غالبا ) أي في الغالب ، كقولهم أصل هذه المسألة : الكتاب والسنة . أي دليلها ( و ) هذا الإطلاق ( هو المراد هنا )
[ ص: 11 ] أي في علم الأصول ( و ) الإطلاق الثاني ( على الرجحان ) أي على الراجح من الأمرين . كقولهم : الأصل في الكلام الحقيقة دون المجاز . والأصل براءة الذمة ، والأصل بقاء ما كان على ما كان ( و ) الإطلاق الثالث على ( القاعدة المستمرة ) كقولهم أكل الميتة على خلاف الأصل ، أي على خلاف الحالة المستمرة ( و ) الإطلاق الرابع على ( المقيس عليه ) ، وهو ما يقابل الفرع في باب القياس ( والفقه لغة ) أي في اللغة : ( الفهم ) عند الأكثر ; لأن العلم يكون عنه . قال الله تعالى ( {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=78فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } ) ( وهو ) أي الفهم ( إدراك معنى الكلام ) لجودة الذهن من جهة تهيئه لاقتباس ما يرد عليه من المطالب ، والذهن : قوة النفس المستعدة لاكتساب العلوم والآراء . وقيل : إن الفقه هو العلم . وقيل : معرفة قصد المتكلم . وقيل : فهم ما يدق . وقيل : استخراج الغوامض والاطلاع عليها . ( و ) الفقه ( شرعا ) أي في اصطلاح فقهاء الشرع ( معرفة الأحكام الشرعية ) دون العقلية ( الفرعية ) لا الأصولية ، ومعرفتها إما ( بالفعل ) أي بالاستدلال ( أو ) ب ( القوة القريبة ) من الفعل ، أي بالتهيؤ لمعرفتها بالاستدلال . وهذا الحد لأكثر أصحابنا المتقدمين .
وقيل : هو العلم بأفعال المكلفين الشرعية دون العقلية ، من تحليل وتحريم وحظر وإباحة . وقيل : هو العلم بالأحكام الشرعية . وقيل : معرفة الأحكام الشرعية .
وقيل : معرفة كثير من الأحكام عرفا . وقيل : معرفة أحكام جمل كثيرة عرفا من مسائل الفروع العلمية من أدلتها الحاصلة بها . وقيل : العلم بها عن أدلتها التفصيلية بالاستدلال . وكل هذه الحدود لا تخلو عن مؤاخذات وأجوبة ، يطول الكتاب بذكرها من غير طائل .
ثم الحكم الشرعي الفرعي : هو الذي لا يتعلق بالخطإ في اعتقاد مقتضاه ، ولا في العمل به قدح في الدين ، ولا وعيد في الآخرة ، كالنية في الوضوء والنكاح بلا ولي ونحوهما .
( والفقيه ) في اصطلاح أهل الشرع ( من عرف جملة غالبة ) أي كثيرة
[ ص: 12 ] ( منها ) أي من الأحكام الشرعية الفرعية ( كذلك ) أي بالفعل أو بالقوة القريبة من الفعل ، وهي التهيؤ لمعرفتها عن أدلتها التفصيلية . فلا يطلق الفقيه على من عرفها على غير هذه الصفة ، كما لا يطلق الفقيه على محدث ولا مفسر ، ولا متكلم ولا نحوي ونحوهم . وقيل : الفقيه من له أهلية تامة يعرف الحكم بها إذا شاء مع معرفته جملا كثيرة من الأحكام الفرعية ، وحضورها عنده بأدلتها الخاصة والعامة فخرج بقيد " الأحكام " الذوات والصفات والأفعال ، والحكم هو النسبة بين الأفعال والذوات ; إذ كل معلوم إما ألا يكون محتاجا إلى محل يقوم به ، فهو الجوهر ، كجميع الأجسام . وإما أن يكون محتاجا . فإن كان سببا للتأثير في غيره ، فهو الفعل ، كالضرب مثلا ، وإن لم يكن سببا . فإن كان لنسبة بين الأفعال والذوات ، فهو الحكم ، وإلا فهو الصفة ، كالحمرة والسواد .
وخرج بقيد " الفعل " الذي هو الاستدلال : علم الله سبحانه وتعالى ورسله فيما ليس عن اجتهادهم صلى الله عليهم وسلم ; لجواز اجتهادهم ، على ما يأتي في باب الاجتهاد .
وخرج بقيد " الفرعية " الأدلة الأصولية الإجمالية ، المستعملة في فن الخلاف ، نحو : ثبت الحكم بالمقتضى ، وانتفى بوجود النافي . فإن هذه قواعد كلية إجمالية تستعمل في غالب الأحكام ; إذ يقال مثلا : وجوب النية في الطهارة حكم ثبت
بالمقتضى ، وهو تمييز العبادة عن العادة ، ويقول الحنفي : عدم وجوبها ، والاقتصار على مسنونيتها : حكم ثبت بالمقتضي . وهو أن الوضوء مفتاح الصلاة . وذلك متحقق بدون النية . ونحو ذلك .
واعلم أن المطلوب في فن الخلاف : إما إثبات الحكم ، فهو بالدليل المثبت ، أو نفيه فهو بالدليل النافي . أو بانتفاء الدليل المثبت ، أو بوجود المانع ، أو بانتفاء الشرط . فهذه أربع قواعد ضابطة لمجاري الكلام على تعدد جريانها وكثرة مسائلها .
وخرج بقيد " الأدلة التفصيلية " علم المقلد ; لأن معرفته ببعض الأحكام
[ ص: 13 ] ليست عن دليل أصلا ، لا إجمالي ولا تفصيلي .
ولما فرغ من الكلام على تعريف أصول الفقه من حيث معناه . الإضافي : شرع في تعريفه من حيث كونه علما ، فقال : ( وأصول الفقه علما ) أي : من حيث كونها صارت لقبا لهذا العلم ( القواعد التي يتوصل ) أي يقصد الوصول ( بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية ) وقيل : مجموع طرق الفقه إجمالا ، وكيفية الاستفادة منها ، وحال المستفيد . وقيل : معرفة دلائل الفقه إجمالا ، وكيفية الاستفادة منها ، وحال المستفيد . وقيل : ما تبنى عليه مسائل الفقه ، وتعلم أحكامها به . وقيل : هي أدلته الكلية التي تفيده بالنظر على وجه كلي .
إذا علمت ذلك . فالقواعد : جمع قاعدة . وهي هنا عبارة عن صور كلية تنطبق كل واحدة منها على جزئياتها التي تحتها . ولذلك لم يحتج إلى تقييدها بالكلية ; لأنها لا تكون إلا كذلك . وذلك كقولنا : حقوق العقد تتعلق بالموكل دون الوكيل . وكقولنا : الحيل في الشرع باطلة . فكل واحدة من هاتين القضيتين يتعرف بالنظر فيها قضايا متعددة . فمما يتعرف بالنظر في القضية الأولى : أن عهدة المشتري على الموكل دون الوكيل ، وأن من حلف لا يفعل شيئا ، فوكل من فعله : حنث . وأنه لو وكل مسلم ذميا في شراء خمر أو خنزير : لم يصح . ومما يتعرف بالنظر في القضية الثانية : عدم صحة نكاح المحلل ، وبيع العينة ، وعدم سقوط الشفعة بالحيلة على إبطالها ، وعدم حل الخمر بتخليلها علاجا . وكذا قولنا - وهو المراد هنا - الأمر للوجوب والفور ونحو ذلك .
واحترز بقوله " إلى استنباط الأحكام " عن القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط غير الأحكام ، من الصنائع والعلم بالهيئات والصفات .
وبالشرعية عن الاصطلاحية والعقلية . كقواعد علم الحساب والهندسة ، وبالفرعية عن الأحكام التي تكون من جنس الأصول ، كمعرفة وجوب
[ ص: 14 ] التوحيد من أمره تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى ( {
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=19فاعلم أنه لا إله إلا الله } ) .
( والأصولي ) في عرف أهل هذا الفن : ( من عرفها ) أي عرف القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية . لأنه منسوب إلى الأصول كنسبة الأنصاري إلى
الأنصار ونحوه ، ولا تصح النسبة إلا مع قيام معرفته بها وإتقانه لها ، كما أن من أتقن الفقه يسمى فقيها ، ومن أتقن الطب يسمى طبيبا ونحو ذلك .
nindex.php?page=treesubj&link=20473_25805 ( وَلَا بُدَّ ) أَيْ لَا فِرَاقَ ( لِمَنْ طَلَبَ عِلْمًا ) أَيْ حَاوَلَ أَنْ يَعْرِفَهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ أَحَدُهَا ( أَنْ يَتَصَوَّرَهُ بِوَجْهٍ مَا ) أَيْ بِوَجْهٍ مِنْ الْإِجْمَالِ ; لِأَنَّ طَلَبَ الْإِنْسَانِ مَا لَا يَتَصَوَّرُهُ مُحَالٌ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ ، وَطَلَبُ مَا يَعْرِفُهُ مِنْ جِهَةِ تَفْصِيلِهِ مُحَالٌ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ . ( وَ ) الْأَمْرُ الثَّانِي : أَنْ ( يَعْرِفَ غَايَتَهُ ) لِئَلَّا يَكُونَ سَعْيُهُ فِي طَلَبِهِ عَابِثًا . ( وَ ) الْأَمْرُ الثَّالِثُ : أَنْ يَعْرِفَ ( مَادَّتَهُ ) أَيْ مَا يَسْتَمِدُّ ذَلِكَ الْعِلْمُ مِنْهُ ; لِيَرْجِعَ فِي جُزْئِيَّاتِهِ إلَى مَحَلِّهَا .
وَأَصْلُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20473_25805كُلَّ مَعْدُومٍ يَتَوَقَّفُ وُجُودُهُ عَلَى أَرْبَعِ عِلَلٍ : " صُورِيَّةٍ " وَهِيَ الَّتِي تَقُومُ بِهَا صُورَتُهُ . فَتَصَوُّرُ الْمُرَكَّبِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى تَصَوُّرِ أَرْكَانِهِ .
وَانْتِظَامِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَقْصُودِ " وَغَائِيَّةٍ " وَهِيَ الْبَاعِثَةُ عَلَى إيجَادِهِ . وَهِيَ الْأُولَى فِي الْفِكْرِ ، وَإِنْ كَانَتْ آخِرًا فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ . وَلِهَذَا يُقَالُ : مَبْدَأُ الْعِلْمِ مُنْتَهَى الْعَمَلِ . " وَمَادِّيَّةٍ " وَهِيَ الَّتِي تُسْتَمَدُّ مِنْهَا الْمُرَكَّبَاتُ ، أَوْ مَا فِي حُكْمِهَا " وَفَاعِلِيَّةٍ " وَهِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي إيجَادِ ذَلِكَ . ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ "
nindex.php?page=treesubj&link=20473أُصُولِ الْفِقْهِ " مُرَكَّبٌ مِنْ مُضَافٍ وَمُضَافٍ إلَيْهِ ، ثُمَّ صَارَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي عُرْفِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ لَهُ مَعْنًى آخَرُ ، وَهُوَ الْعِلْمِيَّةُ . فَيَنْبَغِي تَعْرِيفُهُ مِنْ حَيْثُ مَعْنَاهُ الْإِضَافِيُّ ، وَتَعْرِيفُهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ عِلْمًا . فَبَعْضُ الْمُصَنِّفِينَ بَدَأَ بِتَعْرِيفِ كَوْنِهِ مُرَكَّبًا ، وَبَعْضُهُمْ بَدَأَ بِتَعْرِيفِ كَوْنِهِ مُضَافًا ، كَمَا فِي الْمَتْنِ .
إذَا عَلِمْت ذَلِكَ ( فَأُصُولٌ : جَمْعُ أَصْلٍ ، وَهُوَ ) أَيْ الْأَصْلُ ( لُغَةً ) أَيْ فِي اللُّغَةِ ( مَا يُبْنَى عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْأَصْلِ ( غَيْرُهُ ) قَالَهُ الْأَكْثَرُ . وَقِيلَ : أَصْلُ الشَّيْءِ مَا مِنْهُ الشَّيْءُ . وَقِيلَ : مَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ . وَقِيلَ : مَنْشَأُ الشَّيْءِ . وَقِيلَ : مَا يَسْتَنِدُ تَحَقُّقُ الشَّيْءِ إلَيْهِ ( وَ ) الْأَصْلُ ( اصْطِلَاحًا ) أَيْ فِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ ( مَا لَهُ فَرْعٌ ) لِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يَنْشَأُ إلَّا عَنْ أَصْلٍ
nindex.php?page=treesubj&link=20473 ( وَيُطْلَقُ ) الْأَصْلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ الْأَوَّلِ ( عَلَى الدَّلِيلِ غَالِبًا ) أَيْ فِي الْغَالِبِ ، كَقَوْلِهِمْ أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ . أَيْ دَلِيلُهَا ( وَ ) هَذَا الْإِطْلَاقُ ( هُوَ الْمُرَادُ هُنَا )
[ ص: 11 ] أَيْ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ( وَ ) الْإِطْلَاقُ الثَّانِي ( عَلَى الرُّجْحَانِ ) أَيْ عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ الْأَمْرَيْنِ . كَقَوْلِهِمْ : الْأَصْلُ فِي الْكَلَامِ الْحَقِيقَةُ دُونَ الْمَجَازِ . وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ، وَالْأَصْلُ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ ( وَ ) الْإِطْلَاقُ الثَّالِثُ عَلَى ( الْقَاعِدَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ ) كَقَوْلِهِمْ أَكْلُ الْمَيْتَةِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ، أَيْ عَلَى خِلَافِ الْحَالَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ ( وَ ) الْإِطْلَاقُ الرَّابِعُ عَلَى ( الْمَقِيسِ عَلَيْهِ ) ، وَهُوَ مَا يُقَابِلُ الْفَرْعَ فِي بَابِ الْقِيَاسِ ( وَالْفِقْهُ لُغَةً ) أَيْ فِي اللُّغَةِ : ( الْفَهْمُ ) عِنْدَ الْأَكْثَرِ ; لِأَنَّ الْعِلْمَ يَكُونُ عَنْهُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ( {
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=78فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا } ) ( وَهُوَ ) أَيْ الْفَهْمُ ( إدْرَاكُ مَعْنَى الْكَلَامِ ) لِجَوْدَةِ الذِّهْنِ مِنْ جِهَةِ تَهَيُّئِهِ لِاقْتِبَاسِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَطَالِبِ ، وَالذِّهْنُ : قُوَّةُ النَّفْسِ الْمُسْتَعِدَّةِ لِاكْتِسَابِ الْعُلُومِ وَالْآرَاءِ . وَقِيلَ : إنَّ الْفِقْهَ هُوَ الْعِلْمُ . وَقِيلَ : مَعْرِفَةُ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ . وَقِيلَ : فَهْمُ مَا يَدِقُّ . وَقِيلَ : اسْتِخْرَاجُ الْغَوَامِضِ وَالِاطِّلَاعُ عَلَيْهَا . ( وَ ) الْفِقْهُ ( شَرْعًا ) أَيْ فِي اصْطِلَاحِ فُقَهَاءِ الشَّرْعِ ( مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ) دُونَ الْعَقْلِيَّةِ ( الْفَرْعِيَّةِ ) لَا الْأُصُولِيَّةِ ، وَمَعْرِفَتُهَا إمَّا ( بِالْفِعْلِ ) أَيْ بِالِاسْتِدْلَالِ ( أَوْ ) بِ ( الْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ ) مِنْ الْفِعْلِ ، أَيْ بِالتَّهَيُّؤِ لِمَعْرِفَتِهَا بِالِاسْتِدْلَالِ . وَهَذَا الْحَدُّ لِأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ .
وَقِيلَ : هُوَ الْعِلْمُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ الشَّرْعِيَّةِ دُونَ الْعَقْلِيَّةِ ، مِنْ تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ وَحَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ . وَقِيلَ : هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ . وَقِيلَ : مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ .
وَقِيلَ : مَعْرِفَةُ كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ عُرْفًا . وَقِيلَ : مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ جُمَلٍ كَثِيرَةٍ عُرْفًا مِنْ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ الْعِلْمِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا الْحَاصِلَةِ بِهَا . وَقِيلَ : الْعِلْمُ بِهَا عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ بِالِاسْتِدْلَالِ . وَكُلُّ هَذِهِ الْحُدُودِ لَا تَخْلُو عَنْ مُؤَاخَذَاتٍ وَأَجْوِبَةٍ ، يَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهَا مِنْ غَيْرِ طَائِلٍ .
ثُمَّ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الْفَرْعِيُّ : هُوَ الَّذِي لَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَطَإِ فِي اعْتِقَادِ مُقْتَضَاهُ ، وَلَا فِي الْعَمَلِ بِهِ قَدْحٌ فِي الدِّينِ ، وَلَا وَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ ، كَالنِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ وَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَنَحْوِهِمَا .
( وَالْفَقِيهُ ) فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الشَّرْعِ ( مَنْ عَرَفَ جُمْلَةً غَالِبَةً ) أَيْ كَثِيرَةً
[ ص: 12 ] ( مِنْهَا ) أَيْ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ ( كَذَلِكَ ) أَيْ بِالْفِعْلِ أَوْ بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ مِنْ الْفِعْلِ ، وَهِيَ التَّهَيُّؤُ لِمَعْرِفَتِهَا عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ . فَلَا يُطْلَقُ الْفَقِيهُ عَلَى مَنْ عَرَفَهَا عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ ، كَمَا لَا يُطْلَقُ الْفَقِيهُ عَلَى مُحَدِّثٍ وَلَا مُفَسِّرٍ ، وَلَا مُتَكَلِّمٍ وَلَا نَحْوِيٍّ وَنَحْوِهِمْ . وَقِيلَ : الْفَقِيهُ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةٌ تَامَّةٌ يَعْرِفُ الْحُكْمَ بِهَا إذَا شَاءَ مَعَ مَعْرِفَتِهِ جُمَلًا كَثِيرَةً مِنْ الْأَحْكَامِ الْفَرْعِيَّةِ ، وَحُضُورِهَا عِنْدَهُ بِأَدِلَّتِهَا الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ فَخَرَجَ بِقَيْدِ " الْأَحْكَامِ " الذَّوَاتُ وَالصِّفَاتُ وَالْأَفْعَالُ ، وَالْحُكْمُ هُوَ النِّسْبَةُ بَيْنَ الْأَفْعَالِ وَالذَّوَاتِ ; إذْ كُلُّ مَعْلُومٍ إمَّا أَلَّا يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَى مَحَلٍّ يَقُومُ بِهِ ، فَهُوَ الْجَوْهَرُ ، كَجَمِيعِ الْأَجْسَامِ . وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا . فَإِنْ كَانَ سَبَبًا لِلتَّأْثِيرِ فِي غَيْرِهِ ، فَهُوَ الْفِعْلُ ، كَالضَّرْبِ مَثَلًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا . فَإِنْ كَانَ لِنِسْبَةٍ بَيْنَ الْأَفْعَالِ وَالذَّوَاتِ ، فَهُوَ الْحُكْمُ ، وَإِلَّا فَهُوَ الصِّفَةُ ، كَالْحُمْرَةِ وَالسَّوَادِ .
وَخَرَجَ بِقَيْدٍ " الْفِعْلُ " الَّذِي هُوَ الِاسْتِدْلَال : عِلْمُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَرُسُلِهِ فِيمَا لَيْسَ عَنْ اجْتِهَادِهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ ; لِجَوَازِ اجْتِهَادِهِمْ ، عَلَى مَا يَأْتِي فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ .
وَخَرَجَ بِقَيْدِ " الْفَرْعِيَّةِ " الْأَدِلَّةُ الْأُصُولِيَّةُ الْإِجْمَالِيَّةُ ، الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي فَنِّ الْخِلَافِ ، نَحْوُ : ثَبَتَ الْحُكْمُ بِالْمُقْتَضَى ، وَانْتَفَى بِوُجُودِ النَّافِي . فَإِنَّ هَذِهِ قَوَاعِدُ كُلِّيَّةٌ إجْمَالِيَّةٌ تُسْتَعْمَلُ فِي غَالِبِ الْأَحْكَامِ ; إذْ يُقَالُ مَثَلًا : وُجُوبُ النِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ حُكْمٌ ثَبَتَ
بِالْمُقْتَضَى ، وَهُوَ تَمْيِيزُ الْعِبَادَةِ عَنْ الْعَادَةِ ، وَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ : عَدَمُ وُجُوبِهَا ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَسْنُونِيَّتِهَا : حُكْمٌ ثَبَتَ بِالْمُقْتَضَيْ . وَهُوَ أَنَّ الْوُضُوءَ مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ . وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ بِدُونِ النِّيَّةِ . وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ فِي فَنِّ الْخِلَافِ : إمَّا إثْبَاتُ الْحُكْمِ ، فَهُوَ بِالدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ ، أَوْ نَفْيُهُ فَهُوَ بِالدَّلِيلِ النَّافِي . أَوْ بِانْتِفَاءِ الدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ ، أَوْ بِوُجُودِ الْمَانِعِ ، أَوْ بِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ . فَهَذِهِ أَرْبَعُ قَوَاعِدَ ضَابِطَةٌ لِمَجَارِي الْكَلَامِ عَلَى تَعَدُّدِ جَرَيَانِهَا وَكَثْرَةِ مَسَائِلِهَا .
وَخَرَجَ بِقَيْدِ " الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ " عِلْمُ الْمُقَلِّدِ ; لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ
[ ص: 13 ] لَيْسَتْ عَنْ دَلِيلٍ أَصْلًا ، لَا إجْمَالِيٍّ وَلَا تَفْصِيلِيٍّ .
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى تَعْرِيفِ أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ حَيْثُ مَعْنَاهُ . الْإِضَافِيُّ : شَرَعَ فِي تَعْرِيفِهِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ عِلْمًا ، فَقَالَ : ( وَأُصُولُ الْفِقْهِ عِلْمًا ) أَيْ : مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا صَارَتْ لَقَبًا لِهَذَا الْعِلْمِ ( الْقَوَاعِدُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ ) أَيْ يُقْصَدُ الْوُصُولُ ( بِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ ) وَقِيلَ : مَجْمُوعُ طُرُقِ الْفِقْهِ إجْمَالًا ، وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا ، وَحَالُ الْمُسْتَفِيدِ . وَقِيلَ : مَعْرِفَةُ دَلَائِلِ الْفِقْهِ إجْمَالًا ، وَكَيْفِيَّةُ الِاسْتِفَادَةِ مِنْهَا ، وَحَالُ الْمُسْتَفِيدِ . وَقِيلَ : مَا تُبْنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُ الْفِقْهِ ، وَتُعْلَمُ أَحْكَامُهَا بِهِ . وَقِيلَ : هِيَ أَدِلَّتُهُ الْكُلِّيَّةُ الَّتِي تُفِيدُهُ بِالنَّظَرِ عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ .
إذَا عَلِمْت ذَلِكَ . فَالْقَوَاعِدُ : جَمْعُ قَاعِدَةٍ . وَهِيَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنْ صُوَرٍ كُلِّيَّةٍ تَنْطَبِقُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَلَى جُزْئِيَّاتِهَا الَّتِي تَحْتَهَا . وَلِذَلِكَ لَمْ يُحْتَجْ إلَى تَقْيِيدِهَا بِالْكُلِّيَّةِ ; لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا كَذَلِكَ . وَذَلِكَ كَقَوْلِنَا : حُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ . وَكَقَوْلِنَا : الْحِيَلُ فِي الشَّرْعِ بَاطِلَةٌ . فَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْقَضِيَّتَيْنِ يُتَعَرَّفُ بِالنَّظَرِ فِيهَا قَضَايَا مُتَعَدِّدَةٌ . فَمِمَّا يُتَعَرَّفُ بِالنَّظَرِ فِي الْقَضِيَّةِ الْأُولَى : أَنَّ عُهْدَةَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ ، وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا ، فَوَكَّلَ مَنْ فَعَلَهُ : حَنِثَ . وَأَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا فِي شِرَاءِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ : لَمْ يَصِحَّ . وَمِمَّا يُتَعَرَّفُ بِالنَّظَرِ فِي الْقَضِيَّةِ الثَّانِيَةِ : عَدَمُ صِحَّةِ نِكَاحِ الْمُحَلِّلِ ، وَبَيْعِ الْعِينَةِ ، وَعَدَمُ سُقُوطِ الشُّفْعَةِ بِالْحِيلَةِ عَلَى إبْطَالِهَا ، وَعَدَمُ حِلِّ الْخَمْرِ بِتَخْلِيلِهَا عِلَاجًا . وَكَذَا قَوْلُنَا - وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا - الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ وَالْفَوْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ " إلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ " عَنْ الْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ غَيْرِ الْأَحْكَامِ ، مِنْ الصَّنَائِعِ وَالْعِلْمِ بِالْهَيْئَاتِ وَالصِّفَاتِ .
وَبِالشَّرْعِيَّةِ عَنْ الِاصْطِلَاحِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ . كَقَوَاعِدِ عِلْمِ الْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ ، وَبِالْفَرْعِيَّةِ عَنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْأُصُولِ ، كَمَعْرِفَةِ وُجُوبِ
[ ص: 14 ] التَّوْحِيدِ مِنْ أَمْرِهِ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى ( {
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=19فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } ) .
( وَالْأُصُولِيُّ ) فِي عُرْفِ أَهْلِ هَذَا الْفَنِّ : ( مَنْ عَرَفَهَا ) أَيْ عَرَفَ الْقَوَاعِدَ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ . لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى الْأُصُولِ كَنِسْبَةِ الْأَنْصَارِيِّ إلَى
الْأَنْصَارِ وَنَحْوِهِ ، وَلَا تَصِحُّ النِّسْبَةُ إلَّا مَعَ قِيَامِ مَعْرِفَتِهِ بِهَا وَإِتْقَانِهِ لَهَا ، كَمَا أَنَّ مَنْ أَتْقَنَ الْفِقْهَ يُسَمَّى فَقِيهًا ، وَمَنْ أَتْقَنَ الطِّبَّ يُسَمَّى طَبِيبًا وَنَحْوُ ذَلِكَ .