فصل آخر في أن الفصاحة والبلاغة للمعاني
فصل
آفة وشبهة في مسألة التعبير عن المعنى بلفظين أحدها فصيح والآخر غير فصيح
496- قد أردت أن أعيد القول في شيء هو أصل الفساد ومعظم الآفة، والذي صار حجازا بين القوم وبين التأمل . وأخذ بهم عن طريق النظر، وحال بينهم وبين أن يصغوا إلى ما يقال لهم، وأن يفتحوا للذي تبين أعينهم وذلك قولهم : " إن العقلاء قد اتفقوا على أنه يصح أن يعبر عن المعنى الواحد بلفظين، ثم يكون أحدهما فصيحا والآخر غير فصيح . وذلك - قالوا - يقتضي أن يكون للفظ نصيب في المزية، لأنها لو كانت مقصورة على المعنى، لكان محالا أن يجعل لأحد اللفظين فضل على الآخر مع أن المعبر عنه واحد .
وهذا شيء تراهم يعجبون به ويكثرون ترداده ، مع أنهم يؤكدونه فيقولون : " لولا أن الأمر كذلك لكان ينبغي أن لا يكون للبيت من الشعر فضل على تفسير المفسر له، لأنه إن كان اللفظ إنما يشرف من أجل معناه، فإن لفظ المفسر يأتي على المعنى ويؤديه لا محالة ، إذ لو كان لا يؤديه لكان لا يكون تفسيرا له .
ثم يقولون : " وإذا لزم ذلك في تفسير البيت من الشعر لزم مثله في الآية من القرآن . وهم إذا انتهوا في الحجاج إلى هذا الموضع ظنوا أنهم قد أتوا بما لا يجوز أن يسمع عليهم معه كلام، وأنه نقض ليس بعده إبرام . وربما [ ص: 422 ] أخرجهم الإعجاب به إلى الضحك والتعجب ممن يرى أن إلى الكلام عليه سبيلا وأنه يستطيع أن يقيم على بطلان ما قالوه دليلا .
497- والجواب، وبالله التوفيق، أن يقال للمحتج بذلك : قولك إنه يصح أن يعبر عن المعنى الواحد بلفظين، يحتمل أمرين :
أحدهما : أن تريد باللفظين كلمتين معناهما واحد في اللغة، مثل : " الليث " و " الأسد " ومثل : " شحط " و " بعد " وأشباه ذلك مما وضع اللفظان فيه لمعنى .
والثاني : أن تريد كلامين .
فإن أردت الأول خرجت من المسألة، لأن كلامنا نحن في فصاحة، تحدث من بعد التأليف، دون الفصاحة التي توصف بها اللفظة مفردة ومن غير أن يعتبر حالها مع غيرها .
وإن أردت الثاني - ولا بد لك من أن تريده - فإن هاهنا أصلا من عرفه عرف سقوط هذا الاعتراض، وهو أن يعلم أن سبيل المعاني سبيل أشكال الحلي، كالخاتم والشنف والسوار ، فكما أن من شأن هذه الأشكال أن يكون الواحد منها غفلا ساذجا لم يعمل صانعه فيه شيئا أكثر من أن يأتي بما يقع عليه اسم الخاتم إن كان خاتما، والشنف إن كان شنفا، وأن يكون مصنوعا بديعا قد أغرب صانعه فيه . كذلك سبيل المعاني أن ترى الواحد منها غفلا ساذجا عاميا موجودا في كلام الناس كلهم . ثم تراه نفسه وقد عمد إليه البصير بشأن البلاغة وإحداث الصور في المعاني، فيصنع فيه ما يصنع الصنع الحاذق، [ ص: 423 ] حتى يغرب في الصنعة، ويدق في العمل، ويبدع في الصياغة . وشواهد ذلك حاضرة لك كيف شئت، وأمثلته نصب عينيك من أين نظرت.
تنظر إلى قول الناس : " الطبع لا يتغير " و " لست تستطيع أن تخرج الإنسان عما جبل عليه " فترى معنى غفلا عاميا معروفا في كل جيل وأمة ، ثم تنظر إليه في قول : المتنبي
يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل
فتجده قد خرج في أحسن صورة، وتراه قد تحول جوهرة بعد أن كان خرزة، وصار أعجب شيء بعد أن لم يكن شيئا .
رد شبهة المعتزلة هذه وفساد قولهم، وهو فصل جيد
498 - وإذ قد عرفت ذلك فإن العقلاء إلى هذا قصدوا حين قالوا : إنه يصح أن يعبر عن المعنى الواحد بلفظين، ثم يكون أحدهما فصيحا والآخر غير فصيح " كأنهم قالوا : إنه يصح أن تكون هاهنا عبارتان أصل المعنى فيهما واحد، ثم يكون لإحداهما في تحسين ذلك المعنى وتزيينه، وإحداث خصوصية فيه- تأثير لا يكون للأخرى .
499- واعلم أن المخالف لا يخلو من أن ينكر أن يكون للمعنى في إحدى العبارتين حسن ومزية لا يكونان له في الأخرى، وأن تحدث فيه على الجملة صورة لم تكن أو يعرف ذلك .
فإن أنكر لم يكلم، لأنه يؤديه إلى أن لا يجعل للمعنى في قوله :
[ ص: 424 ]
وتأبى الطباع على الناقل
مزية على الذي يعقل من قولهم : " الطبع لا يتغير " و " لا يستطيع أن يخرج الإنسان عما جبل عليه " وأن لا يرى لقول أبي نواس :
وليس لله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد
مزية على أن يقال : " غير بديع في قدرة الله تعالى أن يجمع فضائل الخلق كلهم في رجل واحد " . ومن أداه قول يقوله إلى مثل هذا كان الكلام معه محالا ، وكنت إذا كلفته أن يعرف، كمن يكلف أن يميز بحور الشعر بعضها من بعض فيعرف المديد من الطويل والبسيط من السريع من ليس له ذوق يقيم به الشعر من أصله.
وإن اعترف بأن ذلك يكون، قلنا له : أخبرنا عنك أتقول في قوله :
وتأبى الطباع على الناقل
أنه غاية في الفصاحة؟ فإذا قال : نعم . قيل له : أفكان كذلك عندك من أجل حروفه، أم من أجل حسن ومزية حصلا في المعنى؟ فإن قال : من أجل حروفه دخل في الهذيان . وإن قال : من أجل حسن ومزية حصلا في المعنى قيل له : فذاك ما أردناك عليه حين قلنا: إن اللفظ يكون فصيحا من أجل مزية تقع في معناه، لا من أجل جرسه وصداه .
المعتزلة " التشبيه " يكشف شبهة
500- واعلم أنه ليس شيء أبين وأوضح وأحرى أن يكشف الشبهة [ ص: 425 ] عن متأمله في صحة ما قلناه من " التشبيه " فإنك تقول : “ زيد كالأسد " أو " مثل الأسد " أو " شبيه بالأسد " . فتجد ذلك كله تشبيها غفلا ساذجا . ثم تقول : “ كأن زيدا الأسد " . فيكون تشبيها أيضا . إلا أنك ترى بينه وبين الأول بونا بعيدا لأنك ترى له صورة خاصة، وتجدك قد فخمت المعنى وزدت فيه، بأن أفدت أنه من الشجاعة وشدة البطش، وأن قلبه قلب لا يخامره الذعر ولا يدخله الروع بحيث يتوهم أنه الأسد بعينه . ثم تقول : “ لئن لقيته ليلقينك منه الأسد " فتجده قد أفاد هذه المبالغة ، لكن في صورة أحسن، وصفة أخص، وذلك أنك تجعله في " كأن " يتوهم أنه الأسد، وتجعله هاهنا يرى منه الأسد على القطع، فيخرج الأمر عن حد التوهم إلى حد اليقين . ثم إن نظرت إلى قوله :
أأن أرعشت كفا أبيك وأصبحت يداك يدي ليث فإنك غالبه
إن تلقني لا ترى غيري بناظرة تنس السلاح وتعرف جبهة الأسد
وجدته قد فضل الجميع ورأيته قد أخرج في صورة غير تلك الصور كلها .
[ ص: 426 ]
المعتزلة في قولهم " اللفظ " واستدلالهم بأن تفسير الشعر يجب أن يكون كالمفسر، ورد الشبهة شبهة
501- واعلم أن من الباطل والمحال ما يعلم الإنسان بطلانه واستحالته بالرجوع إلى النفس حتى لا يشك . ثم إنه إذا أراد بيان ما يجد في نفسه والدلالة عليه، رأى المسلك إليه يغمض ويدق . وهذه الشبهة - أعني قولهم : " إنه لو كان يجوز أن يكون الأمر على خلاف ما قالوه من أن الفصاحة وصف للفظ من حيث هو لفظ، لكان ينبغي أن لا يكون للبيت من الشعر فضل على تفسير المفسر " إلى آخره من ذاك . وقد علقت لذلك بالنفوس وقويت فيها حتى إنك لا تلقي إلى أحد من المتعلقين بأمر " اللفظ " كلمة مما نحن فيه، إلا كان هذا أول كلامه، وإلا عجب وقال : إن التفسير بيان للمفسر، فلا يجوز أن يبقى من معنى المفسر شيء لا يؤديه التفسير، ولا يأتي عليه لأن في تجويز ذلك القول بالمحال، وهو أن لا يزال يبقى من معنى المفسر شيء لا يكون إلى العلم به سبيل ، وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن الصحيح ما قلناه، من أنه لا يجوز أن يكون للفظ المفسر فضل من حيث المعنى على لفظ التفسير . وإذ لم يجز أن يكون الفضل من حيث المعنى، لم يبق إلا أن يكون من حيث اللفظ نفسه .
فهذا جملة ما يمكنهم أن يقولوه في نصرة هذه الشبهة، قد استقصيته لك . وإذ قد عرفته فاسمع الجواب، وإلى الله تعالى الرغبة في التوفيق للصواب .
502- اعلم أن قولهم : " إن التفسير يجب أن يكون كالمفسر " دعوى لا تصح لهم إلا من بعد أن ينكروا الذي بيناه، من أن من شأن المعاني أن تختلف [ ص: 427 ] بها الصور ويدفعوه أصلا، وحتى يدعوا أنه لا فرق بين " الكناية " و " التصريح " . وأن حال المعنى مع " الاستعارة " كحاله مع ترك الاستعارة . وحتى يبطلوا ما أطبق عليه العقلاء من أن " المجاز " يكون أبدا أبلغ من الحقيقة ، فيزعموا أن قولنا : " طويل النجاد " و " طويل القامة " واحد، وأن حال المعنى في بيت : ابن هرمة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولا أبتاع إلا قريبة الأجل
كحاله في قولك : أنا مضياف . وأنك إذا قلت : “ رأيت أسدا " لم يكن الأمر أقوى من أن تقول : رأيت رجلا هو من الشجاعة بحيث لا ينقص عن الأسد " . ولم تكن قد زدت في المعنى بأن ادعيت له أنه أسد بالحقيقة ولا بالغت فيه . وحتى يزعموا أنه لا فضل ولا مزية لقولهم : " ألقيت حبله على غاربه " . على قولك في تفسيره : " خليته وما يريد، وتركته يفعل ما يشاء " . وحتى لا يجعلوا للمعنى في قوله تعالى : « وأشربوا في قلوبهم العجل » [ سورة البقرة : 93 ] مزية على أن يقال : اشتدت محبتهم للعجل وغلبت على قلوبهم . وأن تكون صورة المعنى في قوله عز وجل : « واشتعل الرأس شيبا » [سورة مريم: 4 ] صورته في قول من يقول : " وشاب رأسي كله " و " ابيض رأسي كله " . وحتى لا يروا فرقا بين قوله تعالى : « فما ربحت تجارتهم » [ سورة البقرة : 16 ] وبين : " فما ربحوا في تجارتهم " وحتى يرتكبوا جميع ما أريناك الشناعة فيه من أن لا يكون فرق بين قول : المتنبي
[ ص: 428 ]
وتأبى الطباع على الناقل
وبين قولهم : " إنك لا تقدر أن تغير طباع الإنسان " . ويجعلوا حال المعنى في قول : أبي نواس
وليس لله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد
كحاله في قولنا : “ إنه ليس ببديع في قدرة الله أن يجمع فضائل الخلق كلهم في واحد " . ويرتكبوا ذلك في الكلام كله حتى يزعموا أنا إذا قلنا في قوله تعالى : « ولكم في القصاص حياة » : أن المعنى فيها: " أنه لما كان الإنسان إذا هم بقتل آخر لشيء غاظه منه، فذكر أنه إن قتله قتل ارتدع، صار المهموم بقتله كأنه قد استفاد حياة فيما يستقبل بالقصاص " . كنا قد أدينا المعنى في تفسيرنا هذا على صورته التي هو عليها في الآية، حتى لا نعرف فضلا ، وحتى يكون حال الآية والتفسير حال اللفظتين إحداهما غريبة والأخرى مشهورة، فتفسر الغريبة بالمشهورة، مثل أن تقول مثلا في " الشرجب " إنه الطويل، وفي " القط " إنه الكتاب، وفي " الدسر " إنه المسامير . ومن صار الأمر به إلى هذا، كان الكلام معه محالا .
واعلم أنه ليس عجب أعجب من حال من يرى كلامين [ ص: 429 ] أجزاء أحدهما مخالفة في معانيها لأجزاء الآخر، ثم يرى أنه يسع في العقل أن يكون معنى أحد الكلامين مثل معنى الآخر سواء، حتى يقعد فيقول : " إنه لو كان يكون الكلام فصيحا من أجل مزية تكون في معناه، لكان ينبغي أن توجد تلك المزية في تفسيره " . ومثله في العجب أنه ينظر إلى قوله تعالى : « فما ربحت تجارتهم » [ سورة البقرة : 16 ] فيرى إعراب الاسم الذي هو " التجارة " قد تغير فصار مرفوعا بعد أن كان مجرورا . ويرى أنه قد حذف من اللفظ بعض ما كان فيه وهو " الواو " في " ربحوا " و " في " من قولنا : “ في تجارتهم " . ثم لا يعلم أن ذلك يقتضي أن يكون المعنى قد تغير كما تغير اللفظ .