آ. ( 27 ) قوله تعالى: بالحق فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه حال من فاعل "اتل"؛ أي: اتل ذلك حال كونك ملتبسا بالحق؛ أي: بالصدق. [ ص: 238 ] الثاني: أنه حال من مفعوله وهو "نبأ"؛ أي: اتل نبأهما ملتبسا بالصدق موافقا لما في كتب الأولين، لتثبت عليهم الحجة برسالتك. الثالث: أنه صفة لمصدر "اتل"؛ أي: اتل ذلك تلاوة ملتبسة بالحق والصدق، وكأنه اختيار إذ به بدأ، وعلى الأوجه الثلاثة فالباء للمصاحبة، وهي متعلقة بمحذوف. وقرأ الزمخشري بسكون الميم من "آدم" قبل باء "بالحق"، وكذا كل ميم قبلها متحرك وبعدها باء. أبو عمرو
قوله: "إذ قربا" فيه ثلاثة أوجه، أحدها: - وبه بدأ الزمخشري - أن يكون متعلقا بنفس النبإ؛ أي: قصتهما وحديثهما في ذلك الوقت، وهذا واضح. الثاني: أنه بدل من "نبإ" على حذف مضاف، تقديره: واتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت، كذا قدره وأبو البقاء قال الشيخ: ولا يجوز ما ذكر؛ لأن "إذ" لا يضاف إليهما إلا الزمان، و "نبأ" ليس بزمان. الثالث: - ذكره الزمخشري. - أنه حال من "نبأ"، وعلى هذا فيتعلق بمحذوف، لكن هذا الوجه غير واضح، قال أبو البقاء ولا يكون ظرفا لـ "اتل". قلت: لأن الفعل مستقبل، و "إذ" وقت ماض، فكيف تلاقيان ؟ أبو البقاء:
والقربان: فيه احتملان، أحدهما: - وبه قال - أنه اسم لما يتقرب به، قال: كما أن الحلوان اسم ما يحلي أو يعطي، يقال: قرب [ ص: 239 ] صدقة وتقرب بها؛ لأن "تقرب" مطاوع "قرب". قال الزمخشري تقربوا قرف القمع؛ فيعدى بالباء حتى يكون بمعنى "قرب"؛ أي: فيكون قوله: الأصمعي: "إذ قربا قربانا" يطلب مطاوعا له، فالتقدير: إذ قرباه فتقربا به، وفيه بعد. قال الشيخ: وليس "تقرب بصدقة" مطاوع "قرب صدقة" لاتحاد فاعل الفعلين، والمطاوعة يختلف فيها الفاعل يكون من أحدهما فعل ومن الآخر انفعال، نحو: كسرته فانكسر، وفلقته فانقلق، فليس قرب صدقته وتقرب بها من هذا الباب، فهو غلط فاحش. وفيما قاله الشيخ نظر؛ لأنا لا نسلم هذه القاعدة. والاحتمال الثاني: أن يكون في الأصل مصدرا، ثم أطلق على الشيء المتقرب به، كقولهم: نسج اليمن، وضرب الأمير، ويؤيد ذلك أنه لم يثن والموضع موضع تثنية؛ لأن كلا من قابيل وهابيل له قربان يخصه، فالأصل: إذ قربا قربانين، وإنما لم يثن؛ لأنه مصدر في الأصل. وللقائل بأنه اسم ما يتقرب [ به ] لا مصدر أن يقول: إنما لم يثن؛ لأن المعنى - كما قاله - إذ قرب كل واحد منهما قربانا، كقوله تعالى: أبو علي الفارسي فاجلدوهم ثمانين جلدة ؛ أي: كل واحد منهم.
وقوله: "قال لأقتلنك"؛ أي: قال الذي لم يتقبل منه للمقبول منه. وقرأ الجمهور: "لأقتلنك" بالنون الشديدة، وهذا جواب قسم محذوف، وقرأه بالخفيفة. قال: زيد "إنما يتقبل الله" مفعوله محذوف لدلالة المعنى عليه؛ أي: قرابينهم وأعمالهم، ويجوز ألا يراد له مفعول، كقوله: فأما من أعطى [ ص: 240 ] واتقى . هذه الجملة قال أبو محمد بن عطية: قبلها كلام محذوف، تقديره: لم تقتلني وأنا لم أجن شيئا، ولا ذنب لي في تقبل الله قرباني دون قربانك ؟ وذكر كلاما كثيرا. وقال غيره: فيه حذف يطول، وذكر نحوه، ولا حاجة إلى تقدير ذلك كله، إذ المعاني المفهومة من فحوى الكلام إذا قدرت قصيرة كان أحسن، والمعنى هنا: قال: لأقتلنك حسدا على تقبل قربانك، فعرض له بأن سبب التقبل التقوى. وقال فإن قلت: كيف كان قوله: الزمخشري: إنما يتقبل الله من المتقين جوابا لقوله: "لأقتلنك" ؟ قلت: لما كان الحسد لأخيه على تقبل قربانه هو الذي حمله على توعده بالقتل، قال: إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها من لباس التقوى. انتهى. وهذا ونحوه من تفسير المعنى لا الإعراب. وقيل: إن هذه الجملة اعتراض بين كلام القاتل وبين كلام المقتول. والضمير في "قال" إنما يعود على الله تعالى؛ أي: قال الله ذلك لرسوله، فيكون قد اعترض بقوله: "إنما يتقبل الله" بين كلام قابيل وهو: "قال لأقتلنك"، وبين كلام هابيل وهو: "لئن بسطت" إلى آخره، وهو في غاية البعد لتنافر النظم.