وأما قراءة من نصب ففيه أوجه، أحدها: أنه ظرف خبرا مقدما، و"ثياب" مبتدأ مؤخر كأنه قيل: فوقهم ثياب. قال : "لأن عاليهم بمعنى فوقهم". وقال أبو البقاء "ويجوز في النصب أن تكون على الظرف لأنه بمعنى فوقهم". قال الشيخ :" وعال وعالية اسم فاعل، فيحتاج في [إثبات] كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولا من كلام العرب: عاليك أو عاليتك ثوب". قلت: قد وردت ألفاظ من صيغة أسماء الفاعلين ظروفا نحو: خارج الدار وداخلها وباطنها وظاهرها. تقول: جلست خارج الدار، وكذلك البواقي فكذلك هذا. ابن عطية:
الثاني: أنه حال من الضمير في " عليهم " . الثالث: أنه حال من مفعول حسبتهم . الرابع: أنه حال من مضاف مقدر، أي: رأيت أهل نعيم وملك كبير عاليهم. فـ "عاليهم" حال من "أهل" المقدر. ذكر هذه الأوجه الثلاثة فإنه قال: "وعاليهم بالنصب على أنه حال من [ ص: 617 ] الضمير في الزمخشري "يطوف عليهم" أو في "حسبتهم"، أي: يطوف عليهم ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب، أو حسبتهم لؤلؤا عاليهم ثياب. ويجوز أن يراد: [رأيت] أهل نعيم". قال الشيخ : أما أن يكون حالا من الضمير في "حسبتهم" فإنه لا يعني إلا ضمير المفعول، وهو لا يعود إلا على "ولدان" ولذلك قدر "عاليهم" بقوله: "عاليا لهم"، أي: للولدان. وهذا لا يصلح; لأن الضمائر الآتية بعد ذلك تدل على أنها للمعطوف عليهم من قوله: "وحلوا" و "سقاهم" و إن هذا كان لكم جزاء وفك الضمائر وجعل هذا لذا، وهذا لذا، مع عدم الاحتياج والاضطرار إلى ذلك، لا يجوز. وأما جعله حالا من محذوف وتقديره: أهل نعيم فلا حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة الكلام وبراعته دون تقدير ذلك المحذوف.
قلت: جعل أحد الضمائر لشيء والآخر لشيء آخر لا يمنع صحة ذلك مع ما يميز عود كل واحد إلى ما يليق به، وكذلك تقدير المحذوف غير ممنوع أيضا، وإن كان الأحسن أن تتفق الضمائر، وأن لا يقدر محذوف، إنما ذكر ذلك على سبيل التجويز، لا على أنه أولى أو مساو، فيرد عليه بما ذكره. والزمخشري
الخامس: أنه حال من مفعول "لقاهم". السادس: أنه حال من مفعول "جزاهم" ، ذكرهما وعلى هذه الأوجه التي انتصب فيها على الحال يرتفع به "ثياب" على الفاعلية، ولا تضر إضافته إلى معرفة في [ ص: 618 ] وقوعه حالا; لأن الإضافة لفظية، كقوله تعالى: مكي. عارض ممطرنا [وقوله:]
4452- يا رب غابطنا. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولم يؤنث "عاليا" لأن مرفوعه غير حقيقي التأنيث. السابع: أن ينتصب "عاليهم" على الظرفية، ويرتفع "ثياب" به على جهة الفاعلية. وهذا ماش على قول والكوفيين حيث يعملون الظرف وعديله وإن لم يعتمد، كما تقدم ذلك في الوصف. وإذا رفع "عاليهم" بالابتداء و"ثياب" على أنه فاعل به كان مفردا على بابه لوقوعه موقع الفعل، وإذا جعل خبرا مقدما كان مفردا مرادا به الجمع، فيكون كقوله تعالى: الأخفش فقطع دابر القوم ، أي: أدبار، قاله مكي.
وقرأ ابن مسعود "عاليتهم" مؤنثا بالتاء مرفوعا. وزيد بن علي والأعمش وأبان عن كذلك، إلا أنه منصوب، وقد عرفت الرفع والنصب مما تقدم، فلا حاجة لإعادتهما. وقرأت عاصم رضي الله عنها "عليتهم" فعلا ماضيا متصلا بتاء التأنيث الساكنة، و"ثياب" فاعل به، وهي مقوية للأوجه المذكورة في رفع "ثياب" بالصفة في قراءة الباقين كما تقدم تفصيله. [ ص: 619 ] وقرأ عائشة ابن سيرين ومجاهد وأبو حيوة وخلائق "عليهم"، جارا ومجرورا، وإعرابه كإعراب "عاليهم" ظرفا في جواز كونه خبرا مقدما، أو حالا مما تقدم، وارتفاع "ثياب" به على التفصيل المذكور آنفا. وابن أبي عبلة
وقرأ العامة "ثياب سندس" بإضافة الثياب لما بعدها. وأبو حيوة "ثياب" منونة "سندس خضر وإستبرق" برفع الجميع، فـ "سندس" نعت لـ "ثياب" لأن السندس نوع، و "خضر" نعت لـ "سندس" ؛ إذ السندس يكون أخضر وغير أخضر، كما أن الثياب يكون سندسا وغيره. و"إستبرق" نسق على ما قبله، أي: وثياب إستبرق. وابن أبي عبلة
واعلم أن القراء السبعة في "خضر وإستبرق" على أربع مراتب، الأولى: رفعهما، لنافع وحفص فقط. الثانية: خفضهما، للأخوين فقط.
الثالثة: رفع الأول وخفض الثاني لأبي عمرو فقط. الرابعة عكس الثالثة، وابن عامر لابن كثير وأبي بكر فقط. فأما القراءة الأولى: فإن رفع "خضر" على النعت لـ ثياب، ورفع "إستبرق" نسقا على الثياب، ولكن على حذف مضاف، أي: وثياب إستبرق. ومثله: "على زيد ثوب خز وكتان" أي: وثوب كتان. وأما القراءة الثانية فيكون جر "خضر" على النعت لسندس. ثم استشكل على هذا وصف المفرد بالجمع فقال [ ص: 620 ] "هو اسم للجمع. وقيل: هو جمع سندسة"، كتمر وتمرة، واسم الجنس وصفه بالجمع سائغ فصيح. قال تعالى: مكي: وينشئ السحاب الثقال . وإذا كانوا قد وصفوا المفرد المحلى لكونه مرادا به الجنس بالجمع في قولهم: "أهلك الناس الدينار الحمر والدرهم البيض"، وفي التنزيل: أو الطفل الذين فلأن يوجد ذلك في أسماء الجموع أو أسماء الأجناس الفارق بينها وبين واحدها تاء التأنيث بطريق الأولى. وجر "إستبرق" نسقا على "سندس" لأن المعنى: ثياب من سندس وثياب من إستبرق.
وأما القراءة الثالثة فرفع "خضر" نعتا لـ "ثياب" وجر "إستبرق" نسقا على "سندس"، أي: ثياب خضر من سندس ومن إستبرق، فعلى هذا يكون الإستبرق أيضا أخضر.
وأما القراءة الرابعة فجر "خضر" على أنه نعت لسندس، ورفع "إستبرق" على النسق على "ثياب" بحذف مضاف، أي: وثياب إستبرق. وتقدم الكلام على مادة السندس والإستبرق وما قيل فيهما في سورة الكهف.
وقرأ ابن محيصن "وإستبرق" بفتح القاف. ثم اضطرب النقل عنه في الهمزة: فبعضهم ينقل عنه أنه قطعها، وبعضهم ينقل عنه أنه وصلها. [ ص: 621 ] فقال : وقرئ "وإستبرق" نصبا في موضع الجر على منع الصرف; لأنه أعجمي وهو غلط; لأنه نكرة يدخله حرف التعريف. تقول: "الإستبرق" إلا أن يزعم الزمخشري ابن محيصن أنه يجعل علما لهذا الضرب من الثياب. وقرئ "واستبرق" بوصل الهمزة والفتح، على أنه مسمى باستفعل من البريق، ليس بصحيح أيضا; لأنه معرب مشهور تعريبه، وأن أصله استبره. وقال الشيخ : ودل قوله "إلا أن يزعم ابن محيصن" وقوله بعد: وقرئ "واستبرق" بوصل الألف والفتح، أن قراءة ابن محيصن هي بقطع الهمزة مع فتح القاف. والمنقول عنه في كتب القراءات أنه قرأ بوصل الألف وفتح القاف. قلت: قد سبق إلى هذا الزمخشري فقال: "وقد قرأ مكي ابن محيصن بغير صرف، وهو وهم إن جعله اسما لأنه نكرة منصرفة. وقيل: بل جعله فعلا ماضيا من برق فهو جائز في اللفظ، بعيد في المعنى.
وقيل: إنه في الأصل فعل ماض على استفعل من برق، فهو عربي من البريق، لما سمي به قطعت ألفه; لأنه ليس من أصل الأسماء أن يدخلها ألف الوصل، وإنما دخلت في أسماء معتلة مغيرة عن أصلها معدودة لا يقاس عليها. انتهى. فدل قوله: "قطعت ألفه" إلى آخره أنه قرأ بقطع الهمزة وفتح القاف. ودل قوله أولا: "وقيل: بل جعله فعلا ماضيا من برق" أنه قرأ بوصل الألف; لأنه لا يتصور أن يحكم عليه بالفعلية غير منقول إلى الأسماء، وبترك ألفه ألف قطع البتة، فهذا جهل باللغة، فيكون قد روي عنه قراءتان: قطع الألف ووصلها. فظهر أن لم ينفرد بالنقل عن الزمخشري ابن محيصن بقطع الهمزة. [ ص: 622 ] وقال في قراءة أبو حاتم ابن محيصن: "لا يجوز. والصواب أنه اسم جنس لا ينبغي أن يحمل ضميرا، ويؤيد ذلك دخول المعرفة عليه. والصواب قطع الألف وإجراؤه على قراءة الجماعة". قال الشيخ : ونقول: إن ابن محيصن قارئ جليل مشهور بمعرفة العربية، وقد أخذ عن أكابر العلماء فيتطلب لقراءته وجه، وذلك أنه يجعل استفعل من البريق تقول: برق واستبرق كعجب واستعجب، ولما كان قوله: "خضر" يدل على الخضرة، وهي لون ذلك السندس، وكانت الخضرة مما يكون فيها لشدتها دهمة وغبش أخبر أن في ذلك بريقا وحسنا يزيل غبشته فاستبرق فعل ماض، والضمير فيه عائد على السندس، أو على الأخضر الدال عليه "خضر". وهذا التخريج أولى من تلحين من يعرف العربية وتوهيم ضابط ثقة. قلت: هذا هو الذي ذكره كما حكيته عنه، وهذه القراءة قد تقدمت في سورة الكهف، وإنما أعدت ذلك لزيادة هذه الفائدة. مكي
قوله: وحلوا عطف على "ويطوف"، عطف ماضيا لفظا، مستقبلا معنى، وأبرزه بلفظ الماضي لتحققه. وقال بعد سؤال وجواب من حيث المعنى: "وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران: سوار من ذهب وسوار من فضة"، فناقشه الشيخ في قوله "بالمعصم"، فقال: قوله بالمعصم: إما أن يكون مفعول "أحسن"، و"أن يكون" [ ص: 623 ] بدلا منه، وأما "أن يكون" مفعول أحسن وقد فصل بينهما بالجار والمجرور: فإن كان الأول فلا يجوز; لأنه لم تعهد زيادة الباء في مفعول أفعل التعجب. لا تقول: ما أحسن بزيد تريد: "ما أحسن زيدا". وإن كان الثاني ففي مثل هذا الفصل خلاف، والمنقول عن بعضهم لا يجوز، والمولد منا ينبغي إذا تكلم أن يتحرز في كلامه مما فيه خلاف. قلت: وأي غرض له في تتبع كلام هذا الرجل، حتى في هذا الشيء اليسير؟ على أن الصحيح جوازه، وهو المسموع من العرب نثرا. قال الزمخشري عمرو بن معديكرب: "لله در بني فلان ما أشد في الهيجاء لقاءها، وأثبت في المكرمات بقاءها، وأحسن في اللزبات عطاءها، "والتشاغل بغير هذا أولى.