[ ص: 513 ]
1018 - لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفنائه بالأصائل
فالبيت موصول، فعلى هذا لا محل لهذا الجار من الإعراب. والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من الملأ، و "من" للتبعيض، أي: في حال كونهم بعض بني إسرائيل.والملأ: الأشراف، سموا بذلك لأنهم يملؤون العيون هيبة، [أو المجالس إذا حضروا]، أو لأنهم مليئون بما يحتاج إليهم فيه. وقال "الملأ: [الرجال في كل القرآن، وكذلك] القوم والرهط والنفر، ويجمع على أملاء، قال: الفراء:
1019 - وقال لها الأملاء من كل معشر وخير أقاويل الرجال سديدها
و "من بعد موسى" متعلق بما تعلق به الجار الأول وهو الاستقرار، ولا يضر اتحاد الحرفين لفظا لاختلافهما معنى، فإن الأولى للتبعيض والثانية لابتداء الغاية. وقال "من بعد" متعلق بالجار الأول، أو بما تعلق به الأول "يعني بالأول: "من بني"، وجعله عاملا في "من بعد" لما تضمنه من الاستقرار، فلذلك نسب العمل إليه، وهذا على رأي بعضهم، ينسب العمل للظرف والجار الواقعين خبرا أو صفة أو حالا أو صلة، فتقول في نحو: "زيد في الدار أبوه" أبوه: فاعل بالجار، والتحقيق أنه فاعل بالاستقرار الذي تعلق [ ص: 514 ] به الجار، وهو الوجه الثاني. وقدر أبو البقاء: مضافا محذوفا. تقديره: من بعد موت أبو البقاء موسى، ليصح المعنى بذلك.
قوله: "إذ قالوا" العامل في هذا الظرف أجازوا فيه وجهين، أحدهما: أنه العامل في "من بعد" لأنه بدل منه، إذ هما زمانان، قاله والثاني: أنه "ألم تر" وكلاهما غير صحيح. أما الأول فلوجهين. أحدهما: من جهة اللفظ، والآخر: من جهة المعنى. فأما الذي من جهة اللفظ فإنه على تقدير إعادة "من" و "إذ" لا تجر بـ "من". الثاني: أنه ولو كانت "إذ" من الظروف التي تجر بـ "من" كوقت وحين لم يصح ذلك أيضا، لأن العامل في "من بعد" محذوف فإنه حال تقديره: كائنين من بعد، ولو قلت: كائن من حين قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا لم يصح هذا المعنى. وأما الثاني فلأنه تقدم أن معنى "ألم تر" تقرير للنفي، والمعنى: ألم ينته علمك، أو قد نظرت إلى الملأ، وليس انتهاء علمه إليهم ولا نظره إليهم كان في وقت قولهم ذلك، وإذا لم تكن ظرفا للانتهاء ولا للنظر فكيف تكون معمولا لهما أو لأحدهما؟ أبو البقاء.
وإذ قد بطل هذان الوجهان فلا بد له من عامل يصح به المعنى وهو محذوف، تقديره: ألم تر إلى قصة الملأ أو حديث الملأ أو ما في معناه; وذلك لأن الذوات لا يتعجب منها، إنما يتعجب من أحداثها، فصار المعنى: ألم تر إلى ما جرى للملأ من بني إسرائيل إلى آخرها، فالعامل هو ذلك المجرور، ولا يصح إلا به لما تقدم.
قوله: "لنبي" متعلق بـ "قالوا"، فاللام فيه للتبليغ، و "لهم" متعلق [ ص: 515 ] بمحذوف لأنه صفة لنبي، ومحله الجر، و "ابعث" وما في حيزه في محل نصب بالقول. و "لنا" الظاهر أنه متعلق بابعث، واللام للتعليل أي: لأجلنا.
قوله: "نقاتل" الجمهور بالنون والجزم على جواب الأمر. وقرئ بالياء والجزم على ما تقدم، بالياء ورفع اللام على الصفة لملكا، فمحلها النصب. وقرئ بالنون ورفع اللام على أنها حال من "لنا" فمحلها النصب أيضا أي: ابعثه، لنا مقدرين القتال، أو على أنها استئناف جواب لسؤال مقدر كأنه قال لهم: ما يصنعون بالملك؟ فقالوا: نقاتل. وابن أبي عبلة
قوله: "هل عسيتم" عسى واسمها، وخبرها "ألا تقاتلوا" والشرط معترض بينهما، وجوابه محذوف للدلالة عليه، وهذا كما توسط في قوله: "وإنا إن شاء الله لمهتدون"، وهذا على رأي من يجعل "عسى" داخلة على المبتدأ والخبر، ويقول إن "أن" زائدة لئلا يخبر بالمعنى عن العين. وأما من يرى أنها تضمن معنى فعل متعد فيقول: "عسيتم" فعل وفاعل، و "أن" وما بعدها مفعول به تقديره: هل قاربتم عدم القتال، فهي عنده ليست من النواسخ، والأول هو المشهور.
وقرأ "عسيتم" هنا وفي القتال: بكسر السين، وهي لغة مع تاء الفاعل مطلقا ومع نا، ومع نون الإناث نحو: عسينا وعسين، وهي لغة نافع الحجاز، ولهذا غلط من قال: "عسى تكسر مع المضمر" وأطلق، بل كان ينبغي [ ص: 516 ] له أن يقيد الضمير بما ذكرت، إذ لا يقال: الزيدان عسيا والزيدون عسيوا بالكسر البتة.
وقال "ووجه الكسر قول الفارسي: العرب: "هو عس بكذا" مثل: حر وشج، وقد جاء فعل وفعل في نحو: نقم ونقم، فكذلك عسيت وعسيت، فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس عسيتم - أي بالكسر - أن يقال: "عسي زيد" مثل: "رضي زيد". فإن قيل فهو القياس، وإن لم يقل فسائغ أن يؤخذ باللغتين، فتستعمل إحداهما موضع الأخرى كما فعل ذلك في غيره" فظاهر هذه العبارة أنه يجوز كسر سينها مع الظاهر بطريق القياس على المضمر، وغيره من النحويين يمنع ذلك حتى مع المضمر مطلقا، ولكن لا يلتفت إليه لوروده متواترا، وظاهر قوله "قول العرب: عسى" أنه مسموع منهم اسم فاعلها، وكذلك حكاه أيضا عن أبو البقاء وقد نص النحويون على أن "عسى" لا تتصرف. ابن الأعرابي،
واعلم أن مدلول "عسى" إنشاء لأنها للترجي أو للإشفاق، فعلى هذا: فكيف دخلت عليها "هل" التي تقتضي الاستفهام؟ فالجواب أن الكلام محمول على المعنى، قال "والمعنى: هل قاربتم ألا تقاتلوا، يعني: هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون، أراد أن يقول: عسيتم ألا تقاتلوا، بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال، فأدخل "هل" مستفهما عما هو متوقع عنده ومظنون، وأراد بالاستفهام التقرير، وثبت أن المتوقع كائن وأنه صائب في توقعه، كقوله تعالى: الزمخشري: "هل أتى على الإنسان" معناه التقرير" [ ص: 517 ] وهذا من أحسن الكلام، وأحسن من قول من زعم أنها خبر لا إنشاء، مستدلا بدخول الاستفهام عليها، وبوقوعها خبرا لإن في قوله:
1020 - لا تكثرن إني عسيت صائما ... ... ... ...
وهذا لا دليل فيه لأنه على إضمار القول كقوله:
1021 - إن الذين قتلتم أمس سيدهم لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما
قوله: "وما لنا ألا نقاتل" هذه الواو رابطة لهذا الكلام بما قبله، ولو حذفت لجاز أن يكون منقطعا مما قبله. و "ما" في محل رفع بالابتداء، ومعناها الاستفهام، وهو استفهام إنكار. و "لنا في محل رفع خبر لـ "ما".
و "ألا نقاتل" فيه ثلاثة أوجه، أظهرها: أنها على حذف حرف الجر، والتقدير: وما لنا في ألا نقاتل، أي: في ترك القتال، ثم حذفت "في" مع "أن" فجرى فيها الخلاف المشهور بين الخليل وسيبويه: أهي في محل جر أم نصب؟ وهذا الجار يتعلق بنفس الجار الذي هو "لنا"، أو بما يتعلق هو به على حسب ما تقدم في "من بعد موسى". والثاني: مذهب أن "أن" زائدة، ولا يضر عملها مع زيادتها، كما لا يضر ذلك في حروف الجر الزائدة، وعلى هذا فالجملة المنفية بعدها في محل نصب على الحال، كأنه [ ص: 518 ] قيل: ما لنا غير مقاتلين، كقوله: الأخفش "ما لكم لا ترجون لله وقارا"" وما لنا لا نؤمن" وقول العرب: "ما لك قائما"، وقوله تعالى: "فما لهم عن التذكرة معرضين" وهذا المذهب ضعيف لأن الأصل عدم الزيادة، فلا يصار إليها دون ضرورة. والثالث: - وهو أضعفها - مذهب أن ثم واوا محذوفة قبل قوله: الطبري "ألا نقاتل". قال: "تقديره: وما لنا ولأن لا نقاتل، كقولك: إياك أن تتكلم، أي: إياك وأن تتكلم، فحذفت الواو، وهذا كما ترى ضعيف جدا. وأما قوله: "إن قولهم إياك أن تتكلم على حذف الواو" فليس كما زعم، بل "إياك" ضمنت معنى الفعل المراد به التحذير، و "أن تتكلم" في محل نصب به تقديره: احذر التكلم.
قوله: "وقد أخرجنا" هذه الجملة في محل نصب على الحال، والعامل فيها: "نقاتل"، أنكروا ترك القتال وقد التبسوا بهذه الحال. وهذه قراءة الجمهور، أعني بناء الفعل للمفعول. وقرأ عمرو بن عبيد: "أخرجنا" على البناء للفاعل. وفيه وجهان، أحدهما: أنه ضمير الله تعالى، أي: وقد أخرجنا الله بذنوبنا. والثاني: أنه ضمير العدو.
"وأبنائنا" عطف على "ديارنا" أي: ومن أبنائنا، فلا بد من حذف مضاف تقديره: "من بين أبنائنا" كذا قدره وقيل: إن هذا على القلب، والأصل: وقد أخرج أبناؤنا منا، ولا حاجة إلى هذا. أبو البقاء.
[ ص: 519 ] قوله: "إلا قليلا" نصب على الاستثناء المتصل من فاعل "تولوا" والمستثنى لا يكون مبهما، لو قلت: "قام القوم إلا رجالا" لم يصح، وإنما صح هذا لأن "قليلا" في الحقيقة صفة لمحذوف، ولأنه قد تخصص بوصفه بقوله: "منهم"، فقرب من الاختصاص بذلك.
وقرأ "إلا أن يكون قليل منهم" وهو استثناء منقطع، لأن الكون معنى من المعاني والمستثنى منه جثث. وهذه المسألة تحتاج إلى إيضاحها لكثرة فائدتها. وذلك أن أبي: العرب تقول: "قام القوم إلا أن يكون زيد وزيدا" بالرفع والنصب، فالرفع على جعل "كان" تامة، و "زيد" فاعل، والنصب على جعلها ناقصة، و "زيدا" خبرها، واسمها ضمير عائد على البعض المفهوم من قوة الكلام، والتقدير: قام القوم إلا أن يكون هو - أي بعضهم - زيدا، والمعنى: قام القوم إلا كون زيد في القائمين، وإذا انتفى كونه قائما انتفى قيامه. فلا فرق من حيث المعنى بين العبارتين، أعني "قام القوم إلا زيدا" و "قاموا إلا أن يكون زيدا"، إلا أن الأول استثناء متصل، والثاني منقطع لما تقدم تقريره.